كراون دايسي، و كريسْتِّل ... الفصل الخامس عشر ...
خواطر
قصة، كراون دايسي، وكريسْتِّل ...
الفصل الخامس عشر.
الجزء الثاني.
حبيب كريسْتِّل ... في الولايات المتّحدة الأميركية.
عندما هبطّت الطائرة التي تقّله، في مطار نيويورك الدوّلي، كان في أستقباله شقيقته، التي فاجئته بانه، سيقضّي ثلاثة ايام في هذه المدينة، سائحا ً، ومنوِّها ً، عن نفسه، من عناء السفر الطويل، والاحزان على فراق الأهل.
كانت، نيويورك، مربط خَيْل والدّه، الذي هاجر في بداية القرن العشرين، وهو ابن ثمانية عشر عاما الى جزيرة نائية في الكاريبي، فأشّرقت شمس نجاحه التجاري، بعد حين، وصارت نيويورك مقصده لترويج تجارته.
ولمّا، وصل الى الفندق، تذكّر عندما كان طفلا ً صغيرا ً، يرافق والده بإحدى زياراته المتعدّدة، الى هذه المدينة.
كانت مدينة نيويورك، في سبعينيات القرن الماضي عاصمة المال، والاقتصاد، والتجارة العالمية.
إستغرّب كيف تجانست، وتعانقّت، الأديان والملّل، والشعوب وألوان البشر، وإمتزجّت مع سُدرّة منتهى العلم، حتى باتّت هذه المدينة عاصمة العالم، دون مُنازّع، وكيف انه، وغيره، وقبلّه، من سكان وطّنه الجريح لبنان، هجّروا او هُجِّروا الى أقاصي العالم خوفا ً من إنفلات ألملّق، وإنبعاث روائح الجهل الديني، والاستبدّاد في فرض هيبة ملوك، وأمراء، الشوارع في كل مدينة، او حارة، او زقاق، من هذا الوطن الهزيل، ببنيانه العلمي، والديني، والاخلاقي، والسياسي.
كانت، السنة الدراسية، في إحدى جامعات الساحل الشرقي التي قبلّت طلبه، لإكمال دراساته العليا.
تأخّر، وتأنّى في إختيار تخصصّه، وكان واضحا ً وباديا ً عليه ميله الى التاريخ السياسي القديم، وأداب الشعوب، التي زهت قبل ظهور، الاديان السماوِّية.
خلال دراسته، لفتّه تعابير جديدة في مصطلحات التاريخ السياسي الأميركي، إبان ثورة الاستقلال عن بريطانيا العظمى، بالعام ١٧٧٦ وما بعدها.
كذلك، تأثّر بما أنتجّته الحرب الأهلية الأميركية، بالعام ١٨٦١ وما تلاها.
كان، اذا أراد التحدُّث عن العفّة السياسية، فلا يري بديلا ً عن جورج واشنطن، الذي رفض ان يبقى رئيسا ً للولايات المتحدة، لفترات طويلة، مستندا ً الى منطق الثورة، وهو نزع الذهنية المٓلٓكِّية، والتوريث السياسي، في إدارة العالم الجديد.
كان، إذا أراد ان يعطي مثلا، عن الحنكّة القانونية، لا يستبعّد واضع وثيقة الاستقلال، والرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية، توماس جفرسون.
كان، اذا بحث في التفوّق الدبلوماسي، تنتصّب أمامه قامة بنجامين فرانكلين، صاحب الصوّلات، والجوّلات فى اروقة بلاط الملكيات الأوروبية، سفيرا ً للثورة المجيدة، في ذاك الزمن.
اما، فيما يخّص شرعة وحقوق، بني البشر، لا يرى، مثالا ً الا آبراهام لنكولن.
أمّا، الصداقة النبيلة، المخلصة، لا يجد الا ماردين، شامخين في مخزون مفهوم الصداقة، الذي عندهما لا ينضب، الا وهما الجنرال غرانت، والجنرال شيرمان.
في، هذا الجو العابق بأزهى ألوان العلم وحضارة القرن العشرين، بدأ ينهل ما لذ ّ وطاب، ويغرف، من علوم الأوائل كل مفيد.
أدرك، ان مخزون الحضارات القديمة، يُمكن تدّفقه وجريانه الى العالم الجديد، بوسائل وطُرُّق، تزيده رونقا ً وجمالا، عن طريق رجالات، وادمغة، تؤمن بالتطّور، والاعتراف بالفكر الاخر.
في هذه الحقول الزاخرة بالعلم، ومباهج الفنون والعلوم، كانت كريسْتِّل ، لا تُفارق عقله، وفكره، وخياله، كان دائم البحث عن زهرة كراون دايسي، على حافة الطرق، وداخل الحدائق العامة، عبثا ً كانت محاولاته تتوّقف، وهمّٓته تخبو، وايمانه يضيع.
حتى وصل في ساعات من اليأس، الى قناعة جعلته، يدخل دهاليز الضياع، والقنوط، والاعتقاد بانه اذا لم يجد هذه الزهرة، في العالم الجديد، فان كريسْتِّل ايضا ً غير موجودة في المقلب الاخر من العالم القديم، وأنها باتّت سرابا ً وحلما ً وأملا ً مفقودا ً صعب، المنال ..
عاش، لسنوات في فترة يأس، شبيهة بالايام التي تلّت لقاءه مع والدها، وقوله له، بانه ليس بوسعّه ان يؤمن حياة سعيدة، وكافية لابنته، كريسْتِّل.
تألم جدا ً من ملاحظة والدها له، وغلّت خلاقين من الغضّب، في كيانه، كيف كان تفكير والدّها به، وكيف أحس ّ بالمهانة، لانه ما زال منذ ذاك الوقت وبعد عقود من الزمن يبحث عنها، ويفتّش عن أخبارها، ويضحي بكل غال ٍ ونفيس ٍ من اجلها، ولا تفارق خياله، ولا تترك حتى يقظتّه.
وتساءل،
إن صعوده سلالم العلم، والصيّت، والشهرة كان،
بسبب كريسْتِّل،
ومن اجل كريسْتِّل،
ولكنها غير موجودة الان، معه او قُرْبه .... فقط بالخيال.
وان إيمانه، ومعتقدّه بالأساطير، ترسَّخ في حياته وعقله،
بسبب كريسْتِّل، لانه عاش، وترعرع، في العالم الجديد، وآمن بانه سيجد يوما ً، كريسْتِّل بانتظاره على حافة نهر التاريخ حتى، ولو طال أمّد الانتظار.
لم يَعُّد يهتم لشكل كريسْتِّل ، بعد تراكم سنوات من العمر، على غيابها، لان الاسطُّورة التي يؤمن بها، تقول ان الأرواح تتلاقى، في زهو ٍ وبهجة ٍ وفرح كالأطفال، ولا تٓشيخ، وكأنها في عز ّ الشبّاب، مهما هٓرِم ٓ الجسد وتعب، وتلاشى.
تعِب ٓ كثيرا ً من أيمانه، ولكنه لم ينهار، بل كانت صوّر كريسْتِّل تنهمر عليه، كالمطر الغزير دون كَلَّل ٍ، او ملٓلّ ٍ، كلما تصّفح كتابا ً بداخله زهرة كراون دايسي.
وعادت، ذكرى موت والدتها كل سنة، تؤرق مضجّعه، حيث كان يزور اقرب المدافن في مكان إقامته، ويتجوّل بين القبور يتحدّث مع والدتها، ويشكُّرها كيف انها كانت له العضّد، والسند، والامّل في علاقته مع كريسْتِّل ، وانه ما زال يؤمن بقدرتها على مساعدّته، على الأقل في إيجاد كريسْتِّل ، وهي السابحة في الأعالي.
وفي كل لقاء، كان يسألها،
هل وجدت، كريسْتِّل ،
هل قابلت، كريسْتِّل ،
هل ما زالت تنتظرني، كريسْتِّل ،
أسئلة تنهار بين القبور، وكأنها صخور تقع من الاعالي.
في اخر زيارة لهذه المدافن، وعّد والدتها، انه لن يزورها ثانية، الا برفقة، كريسْتِّل ، وطلّب العفو، والمعذرّة، إن تأخّر.
كانت زيارته الاخيرة للمدافن، يشوبها اليأس وفقدان الامل، ولكنه حافظ على رباطة جأشه،
وسأل نفسه :
كيف يجتاحه القنوط، والخيّبة وهو المؤمن بان الأساطير هي من واقع الحياة.
كيف يترك، ويهجر، هذا الأيمان ألمتجّذر، في كيانه، ودمّه، وعقله، وهو الذي اصبح، باحثا ً وأديبا ً لا تشُّق الغبار صيتّه، بين أصحابه، وأقرانه، وتلاميذه، ومُريديه.
عاد وتذّكر، ان قصصّه، ورواياته، كلها حول الأساطِّير، وانها قصص واقعية، وليست من ضروب الخيال، وانه آمن ونشر معتقداته، بمؤلفات عديدة، تدور، وتدور حول ان، القصصّ الحقيقية، تقارب الخيال حتى الاسطورة، وان الاسطُّورة، تقارب الواقع حتى تصبح حقيقة، وإمتزجّت عنده الاسطورة، والقصة كل ذلك يحدوه الامّل، بان يجِّد كريسْتِّل.
بعد مرور اكثر من أربعة عقود، من حياته، على غياب كريسْتِّل، لم يتعايش مع فكرة، فقدان كريسْتِّل الى الأبد، فإنكّب على الدراسة، وتلبية الدعوات من الجامعات فى شتى أنحاء الولايات المتحدة، الامر الذي أدى الى إختّمار فكرة في عقله، وهي الغوص والإبحار في معتقدات الشعوب التي عاشت وسمّت، وزهّت قبل الاديان السماوية.
قرأ، الأساطّير والملاحّم، حتى يزيد في معتقده وإيمانه، وبالدلائل والبراهين، بان، الأسطورة يمكن ان تكون قصة واقعية.
بدأت مؤلفاته،، تدور حول الأسطورة في عالمنا المُتمدّن، وكانت حبكّاته كلها، تتمحّور حول كيف، سيلتقي يوما ً ب كريسْتِّل في عالم معقّد ومُرَكّب بألف عقدة.
وبقي على هذا المنوال، واستقال من كل مهامه، وطلب من الدوائر الحكومية، إحالته على التقاعد.
حصل له عدة حفلات تكريم، فكان زملاؤه، وتلاميذه، واصحابه من المتكلمين في حفلات، ومؤتمرات التكريم.
وفي احدى المرّات، وهو في سياحة الى مدينة نيويورك، التي كانت بالنسبة إليه، مكّة حجّه، ليستعيد ذكرى والده ووالدته، لما زار هذه المدينة في القرن الماضي، وذكرى قدومه الى أميركا في هذا القرن مع شقيقته، سمع صوت هاتفه الخليوي، فأيقن انها مخابرة من خارج الولايات المتحدة رالأميركية، فاستمع الى المتكلم وقال له انه عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية، في احدى جامعات باريس، وانه قد أرسل له دعوة على عنوانه، لمناقشة أطروحة، أعدّتها تلميذة عن دور الاسطورة في عالمنا المتمدّن، وقد حدد يوم المناقشة في الاول من أيلول، اي بعد شهرين من تاريخه.
وقد أردف عميد الجامعة بالقول، ان مستندات الدعوة، كتذكرة السفر، والاطروحة، والسيرة الذاتية للطالبة، والإقامة لمدة عشرة ايام، في فندق يطلّ على أفخم شوارع العالم، في باريس، شارع الشانزليزيه.
لم يحتمّل إكمال المخابرة، فأحسّ بتعب ٍ شديد، ودخل الى اقرب مقهى فى شارع مانهاتن، ليستعيد، قِواه والى ما ستؤول اليه هذه الدعوة الى فرنسا، من ذكريات وعبّر .....
بدأت الأفكار تراودّه ....
منذ اكثر، من أربعة عقود،
كريسْتِّل سكنت في شارع الشانزليزيه.
لم يَعُّد يتذّكر اسم الجامعة، التي قبلّتها.
وبدأت الأسئلة تتراكم، وتتزاحّم في رأسه،
ومنها :
هل الاسطُّورة، شارفّت وقاربّت الحقيقة.
إستغرّب هذه الدعوة.
وهو، لم يزّر فرنسا في حياته،
ولا يتكلم الفرنسية إطلاقا ً،
وكل كتاباتّه، ورواياته باللغة العربية.
كان يعتبر، الولايات المتحدة الأميركية، دولة رائدة تقوم على تلاقي جنسيات المعمورة، وعلى ابتلاع لغات الكوّن، وتدريسها في جامعاتها، ولها نظام مبرمّج، مقوّنن، عن الهجرة، ووسائل او طرق، إستجلاب عقول البشر من كافة الجنسيات، للاستفادة منها، وان عبارة God bless America وُضعّت للدلالة على انه من نِعْم الله على أميركا، هو العلم والخير، الذي يجلّبه المهاجر، لهذا العالم الجديد.
كان، يعلم ان نظام الهجرة في فرنسا معقّد، وغير مفهوم وان اللغة العربية، ليس لها شأن كبير، في جامعات فرنسا، كما لهذه اللغة من مكانة راقية، سامية في أميركا.
كان، تفكيره في فرنسا، ينسحب الى كونها لم تجلب للدول التي إنتدبتها، الا تأسيس كيانات، وليس دُوّل.
ومع ذلك، قرّر السفر الى فرنسا.
لما عاد الى منزله، قرأ بريده المتراكم، وتلهّف لالتقاط الدعوة.
كانت الدعوة تحتوي على الآتي :
-/ تذكرة سفر لشخص واحد.
-/ إقامة في فندق فخم، ذي خمسة نجوم في شارع الشانزليزيه.
-/ السيرة الذاتية للطالبة،
واسمها، كريسْتِّل ( ......، )
جنسيتها فرنسية،
من أبوين، فرنسييّن.
تتقن اللغتين، ألعربيه، والفرنسية، بطلاقة.
تقيم، في باريس.
تبلغ من العمر ٢٩ عاما ً.
-/ المرفقات،
الاطروحة، على شكل كتاب، في تجليد فاخر جدا ً، وفي اول صفحة من الاطروحة،
إهداء من الطالبة كريسْتِّل ، الى والدتها،
يقول :
الى أُمُّي، التي آمنت بقدراتي،
وقفت، الى جانبي،
وجعلت من الاسطورة، حقيقة ....
أُحبك، يا أمي ....
كريسْتِّل ......
باريس ... ٢٠١٥
موعد مناقشة الاطروحة،
اليوم الاول، من أيلول ويصادف وقوعه الثلاثاء.
إنكّب على التحضير، وقراءة الاطروحة، وقبْل ان يخلِّد الى النُّوْم يوميا ً يعود، ويقرأ، الإهداء ....
فهم الاطروحة،
ولكنه لم يفهم، الإهداء.
قال لنفسه،
كتاب الاطروحة، فهمتّه.
سطر، الإهداء لم افهمّه.
الفصل الخامس عشر
الجزء الثاني
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
٥ شباط ٢٠١٦
0 comments: