عملية السيِّد عبدالله التنوخي
تاريخ ١٤ شباط ١٩٨٤
لتحرير مقام السيِّد عبدالله في عبيه،
قضاء عاليه. محافظة جبل لبنان.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
لامني أحد الأصدقاء بأنِّي لم أذكر أحداثاً تاريخيَّة خلافيَّة ما زالت تجثم على وطننا العربي حروباً وقتالاً وتهجيراً وتخريباً وتدميراً للإنسان والحجر، بل نشرت مُدونَّات غير ذلك، وذكر بعضاً مِن هذه الأحداث التي لم أتطرَّق إليها إطلاقاً ومنها :
الخلاف حول الخلافة بعد وفاة النبي العربي عام 632م، ومن يجب أن يتولى قيادَة الأُمَّة الإسلاميَّة، عندما بويع أبو بكر الصديق بالخلافة، واعتبره السُنَّة الخليفة الشرعي الأول، أما الشيعة لغاية اليوم يرون أن علي بن أبي طالب ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة هو الأحَّق بالخلافة بالنص والتعيين الإلهي وليس بالاختيار والشورى.
وأضاف بأنِّي لم أكتب يوماً عن موقعة الجَمَلْ (656م) بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان عندما تولى علي بن أبي طالب الخلافة، الذي واجه معارضة من بعض الصحابة وعلى رأسهم عائشة ( زوجة النبي ) وطلحة والزبير. هذه المعارضة أدَّت إلى موقعة الجَمَلْ في البصرة، حيث قاتل جيش علي جيش عائشة، وانتهت المعركة بانتصار علي ومقتل طلحة والزبير.
كذلك لم أشِّرْ إلى معركة صفين والتحكيم (657م) ذلك الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام الذي رفض مبايعة علي بن أبي، وطالب بالقصاص لعثمان، وعندما التقى الجيشان في معركة صفين حيث كاد جيش معاوية أن ينهزم، رفع جنوده المصاحف على أسِّنة الرماح مطالبين بالتحكيم بين الطرفين.
قَبِلَ علي بن أبي طالب التحكيم، لكن النتيجة جاءت غير حاسمة، وأدى ذلك إلى ظهور الخوارج الذين خرجوا على علي بسبب قبوله بالتحكيم.
ولم أذكُرْ يوماً موقعة كربلاء (680م) عندما سجَّل التاريخ أنَّه بعد استشهاد علي بن أبي طالب عام 661م، تولى ابنه الحسن الخلافة لكنه تنازل عنها لمعاوية لحقن الدماء. وبعد وفاة معاوية تولى ابنه يزيد الحكم، لكن الحسين بن علي رفض مبايعته، فتوجه إلى العراق بناءً على دعوات أهل الكوفة، إلا أنه تعرَّض للخيانة مِن بعض أنصاره، وحوصر في كربلاء مع عائلته، حيث قُتل هو وأغلب أصحابه في العاشر من محرم سنة 680م، في مأساةٍ تُعَّد من أبرز الأحداث التي عمَّقت الخلاف بين السُنَّة والشيعة.
أخيراً وليس أخراً …
قال صديقي مُبتسماً أنك لم تأتِ يوماً على ذكرى مقتل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ١٤ شباط ٢٠٠٥ بل آثرت في مجالسك أن تشكر الله بأنَّه أنقذك ذلك اليوم لمَّا مررت سيراً على الأقدام مِن أمام فندق فينسيا في بيروت مُتجهاً إلى مكتبك فِي مبنى ستاركو.
أجبتُ صديقي والحُزن يغلب الابتسامة وقُلت له :
هل تناسيت أنِّي عندما أذكر الرجولة والشهامة والشرف والكرامة تسبقني أسماء المُثنَّى إبن حارثة الشيباني الذي دكَّت حوافر خيله بلاط الفرس قبل الإسلام، و خالد إبن الوليد في بداية الإسلام و سلطان باشا الأطرش في عصرنا هذا الذي أعاد لنا رفرفة رايات الشرف والرجولة والكرامة والشهامة.
يا صديقي … أُفضِّل أن أذكر الأحداث التي تجمع وتوحِّد وتُحيي الشرف والكرامة مِن بين الأموات مثل : تحرير مقام السيَّد عبدالله التنوخي فِي يوم ١٤ شباط لأنَّ هذا اليوم يعكس الشجاعة والتكاتف والتضامن
ويا صديقي، أنَّ التاريخ ليس فقط صراعات ومآسي.
لذلك أفضِّل أن أُذكِّر بتواريخ عن الفخر والبطولات والعزَّة، حتى يشعر حُكَّامنا بالخزي والعار لِما آلت اليه عواصمنا.
لا تَلُمني يا صديقي.
في المُدونَّة :
لكل إمرءٍ من دهره ما تعَّودا …
والعادة عندي عندما أزور لبنان كل سنة أن أقوم بزيارة المقامات والمزارات الدينيَّة المقدسَّة لدى الموحِّدين الدروز، ومنها مقام الأمير السيِّد عبدالله التنوخي لأنَّي أعتبر الأمير السيِّد عبدالله هو مُجدِّد هذه الدعوة بعد حوالي خمسمائة سنة من نشرها في مصر وفي قاهرة أعداء الحاكم بأمر الله قدَّس الله سرَّه.
هذه المُدونَّة هي تذكير بالعمليَّة العسكريَّة التي نفذها الأشاوس الأبطال لتحرير الشحَّار الغربي تحت إسم عملية السيَّد عبدالله التنوخي في تاريخ ١٤ شباط ١٩٨٤ وبالأخص تحرير قريَّة عبيه والأخص الأخص تحرير مقام السيِّد عبد الله التنوخي الموجود في هذه القرية.
هذه المُدونَّة توضح المعنى والمغزى وراء إسم العمليَّة التى طبَّقها هؤلاء الرجال في تفانيهم واستبسالهم بالروح والدم وصولاً إلى تحقيق الانتصار المبين.
تعريف مُسمَّى العمليَّات العسكريَّة
في الدراسَّة التي أعدَّها أستاذ العلوم العسكريَّة في جامعة كرانفيلد البريطانيَّة كريستوفر بيلامي، تساءل عن المعنى والمغزى في إطلاق أسماء شخصيَّات على العمليات العسكريَّة، وما هو القصد من ذلك، ولماذا تكون التسميات فيها الوضوح أو الغموض.
وكما هو واضح ومعلوم إنَّ العمليَّة العسكريَّة هي وثيقة تُوضع لتحقيق هدف عسكري معيَّن حيث تُقرر القيادة إعطاء إسم في غاية الوضوح، يُجسَّد الحمية والنخوَة النفسيَّة في قلوب وعقول المقاتلين.
الولايات المتحدة الأميركيَّة اعتبرت الوضوح في إسم العمليات العسكريَّة بحيث لا يتعدى الكلمتين، على أن تعكس وجهة النظر الأميركيَّة مثلاً :
العزيمة الصلبة. درع الصحراء. عاصفة الصحراء.
أمَّا الاتحاد السوفياتي سابقاً وحالياً روسيا، تعتمد الإثارة في إسم العمليات العسكريَّة كما حصل في الحرب العالميَّة الثانيَّة، مثلاً :
أورانوس، زحل، المريخ.
الفراعنة اعتمدوا وطبَّقوا الحرب النفسيَّة وقد تحدَّث عنها المؤرخ هيرودوت، كالخديعة والحيلة والمفاجأة.
الإغريق استخدموا الحرب النفسيَّة بإطلاق السَّب والشتائم قبل تلاحم جيشهم مع الجيش المقابل، وقد وصف الشاعر اليوناني ( هوميروس ) القتال الذي دار بين الإغريق و طروادة في كلا الجيشين بتبادل الشتائم حتى يؤثر كل طرف في الروح المعنوية للطرف الآخر، وقد إستخدم الإغريق سلاح التخويف والخداع في حربهم التاريخيَّة للاستيلاء على المدينة.
الرومان كغيرهم من الأُمم في حروبهم ومعاركهم استخدموا العمليات النفسيَّة كالحيلة والخديعة والدعاية.
العرب قبل الإسلام عرفوا الحرب النفسيَّة بأبهى حُللها في سوق عكاظ التي كانت تجمع أبلغ شعراء القبائل في شحن الهِمَّم للفخر بالقبيلة لأنَّ الحرب عندهم كما قال أحد الشعراء ..
ولا تحسبن الحرب سهماً ومغفراً
فإن سلاح الصائلين عقولُ
العرب بعد الإسلام كانت المعارك ترتكز على الحماسة والغيرة في الدين، كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب عندما خرج من بيته حاملاً السيف في يده مهدداً ومردِدَّا آية من القرآن الكريم :
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (سورة آل عمران : الآية 144)،
وقد جرى إستخدام الشعارات الدينيَّة من آيات القرآن الكريم في المعارك الإسلاميَّة، لأنَّها تُجسِّد الحرب النفسيَّة في المقاتلين.
أمَّا المُوحِّدون الدروز فإن طبعهم غلب تطبعهم لأنَّ الدفاع عن العرض والأرض عندهم من صلب العقيدة، فلا عجباً أن يُطلقوا أسماءً واضحة وضوح الشمس في عملياتهم العسكريَّة، فيها غيرة الدين والحماسة والنخوة حتى يستبسل المقاتل خاصةً إذا كان الهدف العسكري تحرير المُقَدَّسات الدينيَّة أو الدفاع عن الارض والعرض.
وقد ارتبط إسم السيِّد عبدالله التنوخي في عملية تحرير الشحار الغربي في الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة المعروفة بحرب الجبل في ١٤ شباط ١٩٨٤ حيث جرى تحرير أهَّم القرى الدرزيَّة آنذاك وهي عبيه جنوب مدينة عالية فيها مقام الأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي وهو مقام يُقدِّسه الموحِّدون الدروز في بلاد الشام.
تعريف :
الأمير جمال الدين عبد الله إبن الأمير علم الدين سليمان التنوخي المعروف بين الموحِّدين الدروز بكنيته (الأمير السيِّد) هذا اللَّقب وصل إلى الأمير بعد أن هاجر إلى دمشق حيث توطَّدت علاقة متينة وصداقة قوية بينه وبين آلِ الحسيني، فلقَّبوه (بالسيِّد) لإيمانه الراسخ وتعمُّقه بالعلوم الدِينيَّة والزمنيَّة ومكانته الرفيعة في الدين والدنيا التي كان يحتلَّها بين الناس،
فسيَّدوه وألبسوه السيْدة الخضراء (العمامة)
(السيْدة تعني العمامة ذات اللون الاخضر).
وُلِد في قرية عبيه في قضاء عاليه بلبنان سنة ١٤١٧ وتوفي فيها سنة ١٤٧٩. والدته السيدة ريما بنت الأمير شهاب الدين أحمد، تزوج الأمير السيِّد عبدالله من السيدة عائشة المشهورة (سيدة العيش) أو سِّت الناس وهي إبنة خاله الأمير سيف الدين أبي بكر بن شهاب الدين وهي من نفس الأسرة التنوخيَّة.
رُزق الأمير السيد عبدالله بثلاثة ذكور وبنت واحدة كلهم توفوا أثناء حياته.
يُعتبر الأمير السيِّد عبدالله من أهم فقهاء الموحِّدين الدروز ومن أشد المدافعين عن حقوق المرأة الدرزيَّة. يُعتبر الأمير السيِّد عبدالله من العمالقة الكبار في الفكر التوحيدي الدرزي، فهو يحظى بمنزلة دينيَّة عريقة عند الدروز ويُعتبر مُجدِّد المذهب.
جاء الأمير السيِّد عبدالله بعد حوالي خمسمائة سنة من الدعوة حيث كان المُوحِّدون الدروز يقطنون في بلاد الشام مُبتعدين عن المدن والمراكز، محاولين أن يحافظوا على دينهم بأي طريقة، لكن مرور الوقت وابتعادهم عن مراكز الدعوة، أدَّى إلى وهن في العقيدة، وقد جاء الأمير السيَّد عبدالله ليضع الأمور في نصابها الصحيح ويجمع الرسائل ويحققها ويزيل الدخيل منها ويشرحها بعد أن وضع أُسسَّاً جديدة للتراث والتقاليد الدرزيَّة العريقة.
نشأ الأمير السيَّد عبدالله في عائلة تنوخ الدرزيَّة، والتي تزعمَّت الدعوَّة الدرزيَّة في بدءها وتولَّت الحكم في لبنان حتى بداية العهد العثماني عام ١٥١٧.
كان أسلافه من ذوي السيادة والعلم والدين، نبغ منهم الكثيرون من الحُكَّام والعلماء والأدباء والشعراء ومع هذا فقد أراد الاستزادة من العلم وقضى في طلبه ثلاثين عاما في دمشق وهناك درس ودرَّس ونبغ في علوم الدين والشرع والفلسفة وألمَّ بالطُّب والفلك.
بالرغم من أن الأمير السيِّد عبدالله كان من المقربين إلى السلطة وكان باستطاعته تسلمها إلا أنه آثر الدين على الدنيا وانصرف يعمل لآخرته مهملاً دنياه الفانية.
يكشف الدكتور فؤاد أبو زكي في كتابه عن الأمير السيِّد عبدالله أنه شخصيًة أدبيَّة كبيرة طوَت معالم أدبها أيدي السِّتر والصيانة ولم تُعرف إلا في أوساط الموحِّدين الدروز الذين رأوا في شخصه طهارة القلب وصفاء النفس وصدق القول والعفَّة والتقوى والتديُّن.
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين لعَلَّ أكبر شخصية علميَّة بين الدروز منذ بهاء الدين المقتني، هي شخصيَّة الأمير السيِّد جمال الدين عبد الله التنوخي، ولشروحه لبعض رسائل الحِكْمَة أثر بالغ.
يقول الكاتب سليمان علم الدين في كتابه، المدارس الفكرية والتيارات السياسية ودعوة التوحيد الدرزيَّة. ( يعتبر الأمير السيَّد عبدالله بحق مُحيي المذهب التوحيدِي الدرزي بعد أن كاد يندثر ويزول نتيجة الجهل وعدم الاطلاع على الرسائل أو تفسير ما بقي منها، فانبري بكل قوته وجهده إلى ترتيب القواعد وشرح النصوص ووضع قواعد السلوك وبجهده وعمله المتواصل أصبح لمذهب التوحيد هويَّة، فرقة مميزة لها قواعدها الدينيَّة المسلكية وكتبها التي تُحدِّد معتقداتها الروحانية )
وحتى يستطيع الأمير السيَّد عبدالله أن يقوم بكل هذه الجهود كان يتطلَّب منه أن يقتني مكتبة ضخمة، حيث كانت مكتبته زاخرة بالمراجع والمخطوطات، وبلغ عددها ٣٤٠ مرجعاً تحتوي على الكُتُّب النفيسة والمخطوطات النادرة، عن مكتبة الأمير السيِّد عبدالله يقول الدكتور فؤاد أبو زكي ( رغب الأمير عبد الله منذ حداثته في اقتناء الكُتُّب ومطالعتها فجمع الشروحات والتفاسير منها تفسير القرآن الكريم، وكتب اللغة العربيَّة والفلسفيَّة والفقهيَّة والنحويَّة وسيَر الملوك وأخبار الأنبياء، ودواوين الشعراء وكتاب إخوان الصفاء وجهَّز إلى مصر رجلاً لابتياع معجمي"المُحكَّم" لإبن سيدة و"القاموس المحيط" للفيروزبادي، وغيرهما من الكُتُّب.
أمَّا المؤرِّخ الْمُحدِّث عجاج نويهض الذي اعتمد في سيرة الأمير السيَّد عبدالله على المؤرخ الدرزي إبن سباط الذي عاصر الأمير وقال :
أنَّ الأمير السيِّد عبدالله كانت لديه خزانة عامرة من نفائس الْكُتُب في الشرع والدين والتاريخ والشعر واللغة والأدب وقصص الأنبياء فضلا عن كتب السيرة والتفسير والفقه على المذاهب الأربعة، وجملة ذلك ٣٤٠ مجلداً ما عدا الصغير من الكُتُّب والكراريس المفردة أو ما هو معروف في بيوت لبنان "بالسفينة" وكان يُحضر الكُتُّب التي يسمع بها من القاهرة ودمشق والقدس وغيرها.
الشيخ أبو صالح فرحان العريضي
يقول (تسرَّب إلينا نبأ سار من فضيلة القاضي ربيع زين الدين مفاده أنَّ في مدينة دمشق في المكتبة الظاهرية بالتحديد مخطوطات قديمة تتضمَّن أخبار السيَّد عبدالله التنوخي أثناء إقامته في دمشق وما جرى له وما كتبه عنه الأئمة والأدباء والمؤرخون وأثنوا عليه بما هو أهله، فبحمد الله تعالى وعونه وتوفيقه حصلنا على تلك المخطوطات تصويراً طبق الأصل وليس نسخاً عنها ). وقد جاء في إحدى هذه المخطوطات عن الأمير السيَّد عبدالله القول ( كان بيته قُبلة للعلماء والفقهاء والفضلاء، وكان له مكتبة عامرة بالكُتُّب القيمة يختلف إليها أهل العلم للإطلاع والبحث والدراسة وإفادة الناس وتفقههم في أمور دينهم ).
مرَّ على وفاة الأمير السيد ( تاريخ وفاته ١٤٧٩ ) أكثر من خمسة قرون، لكن تعاليمه ما زالت سائدة، منتشرة في أوساط الموحِّدين الدروز يسيرون على هداها ويتَّبعون أركانها وهم مطمئنون أنَّ العلوم الكبيرة الفائضة التي تمتَّع بها الأمير السيِّد هي الركن والأساس والقاعدة للإيمان العميق والتقوى الكبيرة التي يدعو إليها الأمير السيِّد عبدالله.
يقول المؤرِّخ إبن سباط "لم يكن الأمير يخالط أقرباءه لعلمه أنَّ أموالهم لم تكن حلالاً محضاً حتى أنَّه لم يرضَ أن يضيء عليه مصباحاً فيه زيت من رزقهم.
أضاف إبن سباط (ومما بلغ إليه أنَّ أفراداً من النصارى واليهود كانوا يأتون على خبره ويحضرون بين يديه في إختلافٍ بينهم في أمر الدنيا يسمعون له ويمتثلون بما يحكم به ويرجعون راضين بقضائه، لأنَّه كان إذا حضرت الأخصام عنده يبتدئ بالمواعظ عليهم، ثم يأخذ العهد عليهم في استماع كلامه ثم يتلطَّف بينهم بما يراه فيجيبون إلى حكمه من غير إكراه ولا إجبار. وكان مجرداً من الميل إلى جهة أحد الأخصام ولو كان أعز الناس عنده، وبهذا ارتضته الناس من الخاص والعام، وكانت الأخصام تختصم إليه مِن أطراف (الولاية أو المنطقة) ويعجز ولاة تلك الجهة عن الفصل بينهم فيقول الخصم لصاحبه ( بيننا الأمير جمال الدين التنوخي ) وكانت تأتيه الأخصام من نواحي صفد إلى أطراف حلب إلى حدود طرابلس إلى الشوف وبعلبك إلى أطراف دمشق، ولا يعلم من أين هم ولا من أي بلد قدموا عليه، ويرجع كل منهم راضياً بحكمه مثنياً عليه بكل جميل.
خلاصة القول عاش الأمير السيِّد عبدالله في القرن الخامس عشر وكان عهد جمود وتأخر ومقاومة لكل تجديد ومجدِّد، ولم يكن هذا ليثبط عزيمة الأمير السيِّد الوثَّابة ويجعله يتراجع عما يدعو إليه، ولمَّا لم يستطع إدخال إصلاحاته في بلده رحل إلى دمشق وقضى فيها سنوات عدة. لكن أهل لبنان ندموا على ما فعلوا، فكتبوا إليه وطلبوا منه العودة إلى بلاده، فأرسل لهم جوابا تضمن مطالبه للعودة ولما تلي جوابه وسمعه المشايخ، وقفوا إجلالاً له.
توفي الأمير السيد عبدالله في النصف الثاني من شهر أيلول سنة ١٤٧٩ وقد وصف تلميذه الشيخ أبو علي مرعي زهر الدين ساعاته الأخيرة وجنازته فقال، (ولبث على فراشه على الهيئة الجليلة وحُسن الصورة ووضع كفه تحت خده إلى أن نفذ قضاء الحكيم، والرب الرحيم وبادر إليه تلاميذه والإخوان تناديه ويقبلون أياديه ويتذكرون إنعامه ).
ويقول المؤرِّخ الدرزي إبن سباط إنَّ الذين وفدوا إلى عبيه لتشييع جثمان الأمير الإمام ( وكان عند وفاته بمرتبة الإمامة ) لا يقلُّون عن سبعة آلاف رجل وألقيت المراثي والخطب.
شُيِّد مقام الأمير السيِّد عبدالله في عبيه مسكن أمراء آل تنوخ، ويضم معبداً صغيراً بداخله قبة فيها ضريح الأمير كُتب عليه كلمات الرثاء وبعض أبيات من الشعر وإسم الأمير وتاريخ وفاته وفي الجانب الغربي الشمالي من المقام قبة فيها ضريح إبنه الأمير عبد الخالق الثاني.
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
١٤ شباط ٢٠٢٥
المرجع :
كتاب الموحِّدون الدروز عبر التاريخ
( المُدونَّات الفيصليَّة ) حزيران ٢٠١٨
مؤلفات الامير السيِّد عبدالله :
- شرح عقيدة التوحيد ١٤ مجلداً ويعتبر المرجع الديني الرئيسي لدى الموحِّدين الدروز، شرح فيه أُمور دينيَّة واجتماعية وشمل إصلاح النفوس وحسن التربيه وصدق المعاملات وجمال الاخلاق وهذه الكُتُّب متداوله بين الموحِّدين الدروز فقط يتناقلوها بطريقة النسخ.
- معجم للغة العربيَّة أسماه اللغة العرباء.
- السيرة النبوية هو سياسة الأخيار في شرح كمالات النبي المختار.
مِن أقوال الأمير السيِّد عبدالله :
- الرضى بحكم الله وقدره فرض لازم، علم السبب أم لم يعلم.
- المعرفة أساس الخير جميعه.
- إياك أن تقول إن الله غفور رحيم يغفر ذنوب العصاة، فتضيع العمل وتتوكل على الرحمة.
- لا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع.
- من لم يكن صادقا بلسانه فهو بالقلب أكذب.
- فرائض الله على القلب لا تعد ولا تحصى.
- يهلك الناس في شيئين فضول المال، وفضول الكلام.
رواية تنصيب الأمير السيِّد عبدالله إماماً كان الشيخ أبو مرعي زهر الدين ريدان شيخ المشايخ وإماماً على طائفة الموحِّدين الدروز وهو من بلدة الفساقين ( اليوم البساتين ) قد دعا الامراء والشيوخ من إمارة الغرب التنوخية وأهالي المتن والشوف وغيرها إلى اجتماع عام يعقد في عبيه.
في هذا الاجتماع وبعد حضور الجميع وقف الشيخ زهر الدين ريدان وفاجأ الحاضرين بتنازله عن رئاسة الموحِّدين الروحية للامير السيِّد عبدالله، لحسن تدينه وصدقه وزهده بالدنيا وحسن مسلكه التوحيدي، وتقواه وورعه وحبه لله تعالى.
كذلك ألبسه عباءة المشيخَة وعمَّم رأسه بعمامَّة ناصعة البياض، وكان ذلك اليوم يوماً تاريخياً في تاريخ مشيخَّة العقل باختيارهم أميراً تنوخياً لإمارتهم.
مِن أوامر الامير السيِّد عبدالله.
- تُغلق أبواب مجالس الذكر على مرتكبي الزِّنى والقتل، حتى يتوبوا توبةً نصوحاً (التوبة الصادقة).
- تقطع مناداة الميت ونواح النساء في المآتم.
- تكون المعاملة حسنة في البيع والشراء بين الناس.
- أن لا تُقرأ الأبيات الكريمة ولا تنشر إلا عند المؤمنين ( المتدينين )
- أمر بزواج المتدينات للمتدينين.
- لا تزوَّج البنت إلا برضاها ورضا وليّها ( والدها أو ولي امرها ).
- على الوالدين تعليم اولادهم الذكور والاناث من غير تمييز .
- أن يُعامل الزوج زوجته معاملة حسنة ُينصفها ويساويها بنفسه، وعلى المرأه الواجبات نفسها تجاه زوجها.
- أن يحافظ الاخ على أخيه ويساعده عند الحاجة.
- أن يكتب الانسان وصيته وهو في كامل قواه العقلية والجسدية، بجميع ما يملك لوارث ولغير وارث. أخيراً ...
مرَّ على وفاة الأمير السيِّد أكثر من خمسة قرون، لكن تعاليمه ما زالت سائدة منتشرة في أوساط الموحِّدين الدروز، يسيرون على هداها ويتبعون أركانها، وهم مطمئنون أنَّ العلوم الكبيرة الفائضة التي تمتَّع بها الأمير هي الركن والأساس والقاعدة للإيمان العميق والتقوى الكبيرة التي يدعو إليها.
0 comments: