الموحِّدون الدروز والباحث عن الحقيقة
سلمان الفارسي.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
بعد أن نشرت مُدونَّتي ( عملية السيِّد عبد الله التنوخي العسكريَّة ) وردتني تعليقات عدة استوقفني إحداها وفيها هل أنا رجل عسكري خاض الوغى، لأنَّ مُقدمتي كانت عن تاريخ العمليات العسكرية لدى الأمم والشعوب، وقد سرَّني هذا الاستفسار.
وقبل ذلك، لَمَّا بدأت نشر مُدونَّاتي عن الموحِّدين الدروز، سألني الكُثُر هل أنا رجل دين أعتمر عمامَة في فلوريدا، لأني اجتهدت وكتبت في هذا المضمار، وقد سرني هذا الاستفسار أيضاً.
من باب الصراحة المُتناهية، لا أنا ذاك العسكري المُدجَّج بالسلاح ولا ذاك الشيخ المُتمرِّس بالدِّين، بل أنا ذلك الانسان العادي الذي انفطر على معرفة الحقيقة باحثاً عنها إقتداءً بالسلف الصالح.
بالإضافة إلى ذلك يُلفتني عندما أشاهد أمراً ما ويُحَفِّزني على الكتابة كما يحصل معي وأنا أصغي إلى صبياً مُعتمراً قلنسوة بيضاء أو فتاة في عمر براعم الزهور تُرخي منديلاً على رأسها يُقسِمان ( ب سيدي سلمان ).
وكانت هذه المُدونَّة عن المُوَحِّدين الدروز والباحث عن الحقيقة سلمان الفارسي.
المُدونَّة : تعريف.
الإسم : مابه بن يوذخشان.
مكان الميلاد : بلاد فارس.
الوفاة : ٣٣ هجرية.
الكنية : أبو عبد الله.
اللَّقب : سلمان الخير أو الباحث عن الحقيقة.
يرتبط الموحِّدون الدروز بأنبياء ورُسُل زهُّوا وعاشوا قبل الدعوة التي أطلقها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله منذ حوالي الف سنة، وحتى قبل ظهور أنبياء الأديان السماويَّة الثلاثة موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.
وقد ذكرت في مُدوِّناتي السابقة الارتباط الوثيق للموحِّدين الدروز بالنبي شعيب والنبي أيوب عليهما السلام.
في هذه الْمُدوِّنة سأذكر سلمان الفارسي الباحث عن الحقيقة ومدى قُدسيَّة هذه الشخصيَّة لدى الموحِّدين الدروز، كذلك سأذكر تاريخ المعتقدات الايمانية والوجدانية التي انتشرت بين الشعوب قبل هبوط الاديان السماويَّة الثلاثة، والذين أُطلق عليهم العرفانيين أو الغنوصيين ومنهم ( الموحِّدون الدروز ).
تعريف العرفانية التي زهَت بين الشعوب قبل الاديان السماويَّة. العرفانيون هم فئة من الناس تعمقَّت وبحثت عن الحقيقة، وآمنت بوحدانية الله، وقد أطلق عليهم المؤرخون والفلاسفة بالعرفانيين أو الغنوصيين، الذين انعزل أتباعهم عن العالم المادي، وانغمسوا في العالم الروحاني كما سنلاحظه من سيرة سلمان الفارسي في رحلته الايمانية حيث بوصلتها المعرفة أو التنوير أو الخلاص والتحرُّر، أو التوَّحد مع الله والوصول إليه من خلال ممارسة الخير والزهد في المال حتى الفقر، والتبتُّل، والسعي وراء الحكمة في بحثهم المُضني والمُتعب.
وقد ذكرت سابقاً، الموحِّدون الدروز هم من أهل العرفان، شأنهم شأن الفئة التي ظهرت قبل الأديان السماويَّة، وانخرطت كلها أو معظمها فيما بعد، في مسلكية الأديان السماويَّة لانها كانت سُدرَّة منتهى ترحالهم.
هذه العرفانية، هي أصل عقيدة التوحيد، عند الموحِّدين الدروز، الذين مارسوا طقوسهم العرفانية ولهذا إلتصق الاسم على المُسَّمى وأمسَّت هذه الفئة من الناس تُعرف فيما بعد بالموحِّدون الدروز.
هذه الْمُدوّنة ستوضح العلاقة ما بين الموحِّدين الدروز، وسلمان الفارسي من خلال توضيح وتفصيل سيرته ومسيرته الايمانية.
سيرة ومسيرة سلمان الفارسي في بحثه عن الحقيقة في رحلاته.
روى عبد الله بن عباس عن سلمان الفارسي قوله : ( مقتبس حرفياً للدقة )
كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها جي وكان أبي دهقانها ( كاهنها ) وكنت أحبُّ خلقُ الله إليه، فلم يزل في حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسيَّة حتى كنت قاطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوماً فقال لي : يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها.
وأمرني ببعض ما يريد.
فخرجت ثم قال : لا تحتبس علي، فإنك إن احتبست علي كنت أهم إليَّ من ضيعتي.
فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يُصَلُّون، دخلت إليهم أنظر ماذا يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه.
فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم :
أين أصل هذا الدين قالوا : في الشام.
ثم رجعت إلى أبي، فلما جئته قال :
أي بني، أين كنت ؟ قلت :
يا أبة، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس.
قال : أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قلت : كلا والله، إنه لخير من ديننا.
قال : فخافني فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته.
فبعثت إلى النصارى، فقلت : إذا قدم عليكم ركْبٌ من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم.
فقدم عليهم ركب من الشام، فأخبروني بهم.
فقلت : إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة، فأخبروني. ففعلوا، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام.
فلما قدمتها، قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟
قالوا : الأسقف في الكنيسة.
فجئته، فقلت : إنِّي قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقَة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئاً إكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً. ولمَّا مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم : إنَّ هذا رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتم بها كنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين.
وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة، فلمَّا رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدًا.
فصلبوه ثم رموه بالحجارة.
ثم جاؤوا برجل جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة.
فقلت : قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإنِّي والله ما أحببت شيئاً قط فماذا تأمرني وإلى من توصيني ؟
قال لي : يا بني، والله ما أعلمه إلَّا رجلاً بالموصل فآته، فإنَّك ستجده على مثل حالي.
فلمَّا مات لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد، فقلت له :
إنَّ فلاناً أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك. قال : فأقم أي بني. فأقمت عنده، حتى حضرته الوفاة، فقلت له : إنَّ فلاناً أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني به ؟
قال : والله ما أعلم، أي بني، إلا رجلاً بنصيبين.
فلما دفناه، لحقت بالآخر فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره الموت. فأوصى بي إلى رجل من أهل عموريَّة بالروم. فأتيته فوجدته على مثل حالهم، واكتسبت حتى كان لي بعض الغنم والبقر.
ثم احتضر فكلمته إلى من يوصي بي؟
قال : أي بني، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي يُبعث في أرض سبخَة، ذات نخل، وإن فيه علامات لا تُخفى بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقَة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فإفعل.
فلما واريناه، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم غنمي وبقراتي هذه.
قالوا : نعم.
فأعطيتهم، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني هناك وباعوني عبداً من رجل يهودي بوادي القرى، ومن ثم قدم رجل من بني قريظة، فإبتاعني، فخرج بي حتى قدمنا المدينة، فوالله ما إن رأيتها، فعرفت إني في مكان بٓعْث الله نبيه.
ويُكمِّل سلمان الفارسي قصته، ويُضيف.
حتى قدم قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي، ونزلت أقول : ما هذا الخبر ؟.
فرفع مولاي يده فلكمني لكمةً شديدة، وقال :
ما لك ولهذا، أقبل على عملك.
فقلت : لا شيء، إنما سمعت خبراً فأحببت أن أعلمه.
فلما أمسيت، وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله وهو بقباء.
فقلت له : بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقَة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد، فهاك هذا، فكل منه.
فأمسك، وقال لأصحابه : كلوا.
فقلت في نفسي : هذه خِلَّة مما وصف لي صاحبي.
ثم رجعت، وتحوَّل رسول الله إلى المدينة، فجمعت شيئًا كان عندي.
ثم جئته به، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية. فأكل رسول الله وأكل أصحابه.
فقلت : هذه خلتان.
ثم جئت رسول الله، وهو يتبع جنازة، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف. فلما رآني عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي.
فقال لي : تحوَّل.
فتحوَّلت، فَقَصصْتُ عليه حديثي، فأُعجب رسول الله أن يسمع ذلك أصحابه أيضاً.
كانت غزوة الخندق أول معارك سلمان الفارسي التي يخوضها مع النبي محمد، وهو الذي أشار عليه بحفر الخندق حول المدينة المنوَّرة للدفاع عنها أمام جيش قريش، وحلفائها حيث كان الفرس يحفرون الخنادق للدفاع في الحرب.
فقال سلمان : يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. ثم شهد معه باقي المشاهد.
وبعد وفاة النبي محمد شارك سلمان في فتوح العراق، وتَوَلَّى إمارة المدائن.
توفي سلمان الفارسي في خلافة عثمان بن عفان في المدائن سنة ٣٣ هجرية.
وكانت لسلمان الفارسي زوجة من قبيلة كندة إسمها بُقيرة، وقيل أنه كانت له بنت بأصبهان لها نسل وبنتان في مصر.
أما صفته فقد كان سلمان رجلاً قوياً طويل الساقين، كثير الشعر.
قال عنه الذهبي : كان لبيباً حازماً من عقلاء الرجال وعُبَّادهم ونبلائهم.
منزِلَة ومقام سلمان الفارسي الدينية. روى أنس بن مالك عن النبي محمد قوله :
الجنة تشتاق إلى ثلاثة، علي وعمار وسلمان.
كما روى أنس قول النبي محمد :
أنا سابق ولد آدم، وسلمان سابق الفُرس.
وفي يوم الأحزاب لمَّا تحاجج المُهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، كل منهم يقول : مِنَّا سلمان.
قال النبي : سلمان مِنَّا أهل البيت.
كما أن سلمان كان سبباً في نزول آية :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
وذلك، عندما أخبر سلمان الفارسي النبي محمد خبر أصحابه من القسيسين الذين صحبهم قبل إسلامه. فقال : كانوا يصومون ويصلون ويشهدون أنك ستبعث.
فقال النبي محمد : يا سلمان، هم من أهل النار.
فإشتدَّ ذلك على سلمان.
وقال : لو أدركوك صدقوك واتبعوك.
فنزلت الآية أعلاه.
كما كان الصحابة يُعظِّمون قدر سلمان الفارسي.
فقد رُوي أنه لما حضر معاذ بن جبل الموت، قال له أصحابه : أوصنا.
قال : إلتمسوا العلم عند أربعة :
أبي الدرداء وسلمان وإبن مسعود وعبد الله بن سلام الذي كان يهوديا فأسلم.
وحين سُئل علي بن أبي طالب عن أصحاب النبي محمد.
فقال : عن أيهم تسألون ؟
قالوا : سلمان؟
قال : أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو مِنَّا أهل البيت.
كما أنه حين قدم سلمان الفارسي، على عمر بن الخطاب وهو الخليفة، قال عمر للناس :
إخرجوا بنا نتلَّق سلمان.
وقال إبن عساكر :
هو سلمان إبن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وحدَّث عنه.
أخيراً …
بعد أن أوضحت قيمة سلمان الفارسي، لدى المعتقد الفارسي المجوسي، ومن ثم بحثه عن الحقيقة وصولاً إلى النبي العربي محمد صلى الله عليه وَسَلَّم، فلا عجباً أن نرى قيمة سلمان الفارسي عند الموحِّدين الدروز، وهو المُكرَّم والمُبجَّل والمُقدَّر، في سيرته ومسيرته وحياته حتى المقام الأخير، حيث سلكها وما يزال يسلكها الموحِّدون الدروز في كل من سوريا ولبنان والجليل والكرمل والأردن وفي غير بقاع حيث وجدوا، فإنهم ما زالوا يُعَظِّمونه ويقدِّسونه، لأنَّ له شأن عظيم، منذ أيام الرسول العربي.
وهكذا نرى الموحِّدون الدروز في حياتهم كان سعيهم البحث عن الحقيقة، يلهثون وراءها ويحاولون التعرُّف عليها، لان الموحِّد وجد لأجل هذه الغاية، إقتداءً بالسلَف الصالح.
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
٧ أيار ٢٠٢١م.
0 comments: