يتم التشغيل بواسطة Blogger.

السبت، 9 يناير 2021

قِصَّة كراون دايسي وكريستل. تأليف فيصل المصري. المُدونَّات الفيصليَّة.

نشر من قبل Faissal El Masri  |   10:15 ص

 قصة كراون دايسي وكريستل.  

تأليف فيصل المصري

من ٨ أجزاء

و ٢٢ فصلاً

طبعة أولى حزيران ٢٠١٨م


تعريف :


كراون دايسي وكريستل هي قِصَّة من واقع الحياة وليست أُسطورة كشقيقتها ( إمرأة الوادي المُقَدَّس ) فهي تُقارب الحقيقة وتُصلح أن تكون سيرة ذاتية للعديد من الْقُرَّاء


( كراون دايسي ) هي زهرة بريَّة تنمو في جبال لبنان وهضابه وسهوله ويُطلق عليها باللغة العربية أُقحوان إكليلي برِّي


أمَّا ( كريستل ) فهو إسم الغنج والدلال أو ( الدلع ) لبطلة هذه الرواية

أحداث هذه القُصَّة حصلت في إحدى جامعات لبنان في أواخر ستينيات القرن الماضي، ومعظم أحداث هذه القصَّة حقيقيَّة، مع تعديلات أجراها الكاتب لزوم السرد القصصي


واسم الدلع ( كريستل ) مُشتقّ من حجرة الكريستال المشهور بصناعتها معمل ( شواروفسكي ) العالمي.


الجزء الأوَّل

الفصل الأوَّل


أحداث هذه القصَّة حدثت في حَرَم إحدى جامعات لبنان في أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث كانت أروقة وقاعات إحدى الكليَّات مسرحاً ومكاناً  لهذه الرواية


كانت الجامعات اللبنانية في ذلك الوقت من الزمن أرضاً وحقلاً خصبة للأفكار التحرريَّة، في عالم عربي مُدلهِمّ ومُكْفهِّر، مُدجَّج  بعقليَّة حُكَّام تعود إلى أزمنة تخلُّف وتقهقُر فكري ومعنوي


كانت عقليَّة شباب ذلك الزمن تنحو إلى تطلُّعات مستقبليَّة زاخرة بالأحلام وزاهية بطُموحات تصل إلى حدود السماء، بعد أن ظنُّوا واهمين أنَّ الاستقلال من نير الاستعمار الفرنسي هو طريق الخلاص، والبدء بالسير في درب تكافؤ الفرص وتطبيق مبدأ سيادة القانون.  


من بين شباب وشابات الجامعة، التقى شاب بإحدى الشابات :

هو

يعود في أصله وفصله، إلى عائلة معروفة بين الأهل، وقد جار الزمن على جَدَّ هذه العائلة، بأن رزح تحت وطأة نكبة الحرير، والمادة الجديدة للنايلون المبتكرة، حيث تمَّ إغراق الاسواق العالميَّة بالنايلون وإغلاق معامل الحرير في طول البلاد وعرضها، فبيعت الاراضي وحُجزت الأملاك تسديداً للديون

أمَّا هي … 

فإنَّها تنحدر من أُسرة ثريَّة يرافقها ويُصاحبها نُفوذ واسع، ونُبلٌ في التعاطي وعفوٌ عند المقدرة


كانت هي … 

إن دَخَلت الجامعة، لا يُدرك أي شاب أو شابة من رفاقها، مدى الثراء الذي تتمتَّع به، ووفرة النعيم الذي تعيش فيه، لأنَّ تواضعها ينسحب إلى ملبسها ودماثة خُلقها، وكانت إن خرجت تسير سيراً إلى محطة توقُّف حافلة الركاب ومن ثم تختفي



تشابكت وتقاطعت النظرَات، ما بين هذا الشاب وتلك الفتاة. كان يُلفتها جدِّيته واجتهاده وانكبابه على الدرس والمطالعة في مكتبة الجامعة


أمَّا هو … 

فقد أذهله انكبابها على تدوير زوايا الخلاف فيما بين زملاء الصف، فإن إختلفوا على الجلوس في الصف الأمامي كانت تُعطي مكانها، فينفضُّ النزاع خجلاً منها



ذات يوم، لم تاتِ إلى الجامعة كعادتها، وتكرَّر الغياب لأكثر من أسبوع، أفتقدها الطلاب والأساتذة، حتى أنَّ أحد الأساتذة سأل :  

هل يعلم أحد منكم عن سبب غياب زميلتكم ؟


ساد الوجوم والصمت قاعة المحاضرات، وأضاف المُحاضر عجيب أمركم، تحلمون ببناء شركات  في مخيَّلاتكم، وتتراكضون نحو سراب المستقبل، ولا تفكرون حتى برفاق الدرب الطويل، ولا تعلمون ولا تعرفون من أنتم


إنتهت المحاضرة، وتدافع الطلاب للخروج إلَّا  هو ... 

بقي على كرسيه يُفكر بملاحظة المُحاضر، وبدأت الأفكار تأخذه كيف السبيل للوصول إلى عنوان سكنها أو حتى رقم هاتفها


لم يطل الأمر كثيراً، وبينما هو شارد الفكر  وإذ بصوت أحد زملائه يناديه قائلا :

في الباب ثمَّة شخص يسأل عنك

نظر إلى هذا الشخص واستغرب فهو لا يعرفه

تقدَّم الشاب إليه وقال له :

أنا شقيق زميلتك في الدراسة، وهي مريضة طريحة الفراش، لذلك ترجو منك أن تُرسل لها المحاضرات التي أُلقيت في غيابها، وقالت لي إذا سألك لماذا ( أنا ) أجبه فوراً  بأنِّي أعرف أنَّك من الطلاب الأنشط والأذكى في الدورة


أيَّام مرَّت قبل أن تعود وتتعافى زميلته إلى الجامعة، لكنَّها كانت ضعيفة، مُنهكة شاحبة الوجه ومُتعبة


تقدَّمت منه وشكرته على المحاضرات،  وسألته إن كان لديه بعض الوقت، لأنَّها عجزت عن فهم بعض ما جاء فيها.  


كعادته دخل معها مكتبة الجامعة وسألها لماذا أتيت وآثار المرض لا زال بادياً عليكِ، وعرض عليها أن يستمر في إرسال المحاضرات بشكل يومي، ومن فرط شفقته الممزوجة بالاهتمام على صحتها، عرض عليها أن يزورها طبيب عائلته القادم لتَوِّه من أميركا  من دون  مقابل

استغربت هذا الاهتمام الممزوج بعاطفة قلَّ نظيرها، وأدركت في تلك اللحظة أنَّه لا يعرف مدى الغنى والترَّف الذين تنعم فيهما


أبدت جزيل شكرها، وقالت له قد أستعين بك في حال لم تتحسَّن ظروفي الصحيَّة


في تلك اللحظة لمعت في مخيلتها أن تُبقي هذا الصديق الجديد، في جهله المُطَبق لوضعها المادي، وشعرت أنَّ هذا الإهتمام بشخصها  يُثير إعجابها، بالإضافة إلى إدراكها أنَّه مُتمكِّن في الدراسة


في المكتبة

وضعت أمامها أحد الْكُتُب، وكانت عندما تُشير وتُقلِّب صفحاته تقوم بسحب زهرة من كل صفحة، تُرِيد إستفساراً أو توضيحاً، وتكرَّر ذلك في الكتاب الثاني والثالث، وكانت تنزع الأزهار ثم تُعيدها إلى الصفحة ذاتها.

في المكتبة طال الشرح والتفسير، لكن تبيَّن له أنَّها أجهدت نفسها كثيراً فقال لها

سنكتفي بهذا القدر اليوم، وغداً نُكمل إن إحتجت تفسيراً


وعندما همَّت  بالانصراف، استمهلها وسألها :

هل تستعملين هذا النوع من الأزهار كعلامة ( ماركر Marker ) بين الصفحات.  

أجابت  ب نعم

وأضافت : أُحِب هذه الزهرة إنَّها زهرة بريَّة تعشق الشمس وتُحب الربيع، ومُتمردة لا تهاب الأشواك من حولها، فيها اللون الأصفر هو قلبها، وفيها اللون الأبيض علامة نقاؤها. وتقول الأساطير أنَّها كانت تُستعمل إكليلاً وتأجاً  لأجمل النساء

وتابعت مُتوجِّهة بالسؤال : أنت من الساحل  ولا تعرف هذه الزهرة ! وإنَّ إسمها  ( زهرة أُقحوان إكليلي ). ثم استدركت، لكن أنا أفضل إسمها باللغة الانكليزية  ( كراون دايسي ).  

أجابها فوراً : للتوضيح أنا أتحدَّر من الجبل، وأعرف هذه الزهرة تمام  المعرفة، لكن لم أُعرها يوماً أي إهتمام، لكن من الأن وصاعداً أعِدك كُلَّمَا أنظر إلى هذه الزهرةسأتذكَّرك


علت وجهها ابتسامة ناعمة ... 

رسمت خيوطاً  حمراء على مُحَيَّاها خجلاً

 

فبادرها قائلا :

لقد أشرقت شمسُ وجهكِ، وها أنت تبتسمين ...

لكنَّها ازدادت خجلاً


وتواعدا إلى غدٍ  أخر ...

وودَّعته وبقيت تنظر إليه وهي تسير وهو ينظر إليها، وكأنَّها نسيت معه سِراً لم تقُّله، وكأنَّه نسِي معها سِراً لم يقُله




الفصل الثاني :


كعادتها حيث تأتي باكراً إلى الجامعة وتجلس في المقاعد الأماميَّة، دخلت وبقيت تشيح بنظرها إلى المقاعد الخلفيَّة لعلَّها تراه


كانت تنظر إلى ساعتها، بين الفينة والأخرى وتعيد وتكرِّر النظر إلى الوراء إلى أن دخل المُحاضر وبدأ بإلقاء محاضرته


أمَّا هو، خلافاً لما درج عليه، فإنَّه تأخَّر في الدخول إلى قاعة المحاضرات، عمداً، لأنَّه كان يرغب في استرقاق النظر إليها من المقاعد الخلفيَّة، علَّه يُشبع نظره المُتهالك لرؤيتها


كان ينظر إليها

فاستدارت فجأة إلى الخلف، وتلاقى نظرهما فابتسمت له وأشار إليها بيده بسرعة فائقة وكأنَّه صيَّادٌ مُحترفْ.  


ما إن إنتهت المحاضرة، وعلى غير عادتها، أسرعت في الخروج وكان بانتظارها. ضحكت كثيراً عندما قال لها لا تعتمدي عليَّ في شرح هذه المحاضرة، لأنَّي لم أفهم شيئاً منها، بل يُمكنني أن أُعدِّد المرَّات التي نظرتِ إلى الوراء، وعدد المرَّات التي وقع قلمك على الأرض


ارتاحت أساريرها وابتسمت، ولمَّا سألته لماذا تأخَّر، ولماذا يبدو مُنهكاً ؟


اجابها دون تردُّد ...

كان ليلي طويلاً  ...

وأرقي مُتعباً ...

وقلقي عليك مُنهكاً ...

فرجوتُ القمر أن يغيب ...

وتضرَّعت للشمس أن تشرق ...

كلُ ذلك  .. بسببك !! 


وسألها:

كيف حالك أنتِ ...


قالت :

كان ليلي قصيراً ...

لأنَّ النُعاس غلبني ...

واتكأت جفوني على بعضها ...

ونِمت قريرة العين ... 

لم يكترث لأنَّها إدعَت ذلك، بدليل أنَّها طلبت منه الدخول إلى كافيتيريا الجامعة، لأنَّ التعب بدأ يجتاحُها ولا يُخَفِّف من وطأته إلَّا  القهوة


في الكافيتيريا وهي ترتشف القهوة، أخرجت من حقيبتها قلم باركر نصفه الأعلى ذهباً ونصفه الآخر لونه أزرق، وقدَّمته هدية له


رفض إستلام الهدية لأنَّها غالية الثمن، وقال لها عليكِ أن تُنفقي ثمن القلم على صحتك  بدلاً من أن  تشتري قلماً لن استعمله


طلب إليها إعادة القلم واسترجاع ثمنه.

وإدراكاً منها بصدقه واهتمامه بصحتها، أخذت القلم وأعادته الى حقيبتها، وأردفت قائلة :

لم أشترِ القلم فهو لوالدي تركه على طاولته بعد أن استعمله، لكنَّه يبدو جديداً.



كسابقة النوم قريرة العين طوال الليل … 

لم يُعِر إدعاء مقولة القلم أنَّه لوالدها أي إهتمام


كان ذكاؤها حاداً لأنَّها تركته يتخبَّط بافكاره وجهله عن مدى الثراء الذي تتمتَّع به، وهذا بحدِّ ذاته سبباً كافياً للهيام به


عرض عليها أن يُرافقها إلى محطة توقُّف الحافلة، فشكرته قائلة :

أنَّ والدها سيمرُّ عليها لأخذها إلى المنزل.  


افترقا إلى غدٍ أخر، من قِصَّة ستطول



الفصل الثالث :


كان هذا اليوم عاصفاً ماطراً، وكانت الشوارع المُحيطة بالجامعة تُزمجر أنهاراً وزادت سرعة الرياح عن المألوف



لم يتحمَّل أن يمُرُّ هذا اليوم دون أن يراها، لأن سُحُب الحب بدأت تتجمَّع في قلبه، والشوق إليها ما لبث أن تسلَّق إلى أسوار عقله، فدلف إلى قاعة المُحاضرات يائساً من طول الانتظار.  


دخلت القاعة على عجَلة من أمرها، لم تجول نظرها كثيراً لأنَّه كان على عتبة الباب مُطأطأً  رأسه


ربتت على كتفه وقالت :

ما بك ؟

أجابها :

ماذا بكِ  أنت ؟

لماذا تأخَّرت ؟


قالت :

أخذني وقت كبير حتى أصل من محطة الحافلة إلى الجامعة، وأشعر الآن بالبرد القارس. المطر الغزير بلَّل ثيابي والشوارع باتت جداول ماء


تركها تُكمل وصفها وأشفق عليها. مسك يدها مصافحاً لعلَّه يعطها بعض الدفء،  فَذُهِل عندما شعر بأنَّ الدفء في يدها تماماً. أطبق يده الثانية على يدها فبادرت إلى وضع يدها الأُخرى فوق  يده. نظر إلى وجهها وقد غطَّاه الخجل


فقالت له : ما الأمرماذا حصل لك ؟

قال : خِفت عليك كثيراً! وانتابني القلق لأنَّ موقف الحافلة  بعيد عن الجامعة


ثم أسقط  عمداً  قلماً  وانحنى ليلتقطه، فإذ به يُصاب بالذُهول لأنَّ حذائها الكُحلي اللون، والمخملي النوع  لم يتبلَّل بنقطة ماء واحدةهذا الأمر حفَّزه ليُدقِّق في ملابسها وما إذا كانت مبلَّلة  بالماء، فوجدها جافة ولَم تطاولها نقطة مطر


عادت وسألتهماذا حصل لك ؟

بقي صامتاً ولم يُجِبْ !  

ساد صمت رهيب، لم يقطّعه إلَّا  خياله الذي انحصر متأملاً نعومة  يديها، وطراوة ملمسهما

شيئ ما نهاه عن تأمله فراح  يضرب إخماساً بأسداس !كيف تسير من موقف الحافلة حتى مبنى الجامعة، دون أن تتبلَّل بنقطة ماء ؟


وكيف تقول أنَّ البرد أخذ منها ويديها دافئتان !  

لحظات لمعت في مُخيَّلته وكأنَّها سنوات.  


تألَّم  كثيراً لأنَّه وقع طريح سهم من حب قاتل، أطلقته إمرأة  يجهل من هي، ولكنَّه يعرفها


من إمرأة إحتلت قلبه دون قتال

من امرأة  تشغُل حياته، وهي ليست من هذه الحياة


توقَّفت هواجسه ومخاوفه عندما همست في أُذنه وقالت : سأترك القاعة الآن، لأنَّ الأرصاد الجويَّة أعلنت بالأمس أنَّ العاصفة ستشتدُّ بعد ساعات وتصبح أكثر ضراوة، وأنا مضطرَّة للعودة إلى المنزل قبل أن تشتدّ، ولكنِّي وبالرغم من هذا الطقس العاصف، جئت لسبب واحد فقط هو أن ألتقي بكَ !. 


زاده الذهول ذهولاً ...

أعطته يدها فانحنى يُقبِّلها، بكفيه

وقالت : أخبرني لاحقاً عن المحاضرة إن شئت


تركها تُهرول مسرعة، إلَّا  أنَّه تسلَّل خلسة من قاعة المُحاضرات دون أن تراه وتنتبه له


سار مُسرعاً ووقف أمام نافذة الدرج التي تُشرف على مدخل الجامعة وعلى الطريق العام


لم يتمالك ذلك المشهد الذي رَآه بأُم العين

سيارة أميركية فارهة متوقّفة على باب الجامعة، سائقها يلبسُ بدلة كحلية اللون، ويعتمر على رأسه قُبَّعة وكأنَّه جنرال من جنرالات الوغى، يُسرع في فتح باب السيارة الخلفي لتدخل هي التي كانت معه منذ لحظات !.


أقفل السائق الباب وتراجع هو إلى الوراء، فلمحها من ثاقب نظره وهي تُسرِّح نظرها للأعلى ومن حولها، فاطمأنت أنَّه لم يشاهدها أحد


كان ذهوله هذه المرَّة أشد من وقع الصاعقة عليه.

لم يدخل قاعة المُحاضرات واجتاحت خياله ذكرياته معها وانتابته الظنون


ظنَّ  أنَّها أقلُّ  يُسْراً منه !. 

ظنَّ أنَّها أكثرُ  صُدقاً منه !.

ظنَّ أنَّها تُحبُّه !. 


وعادت ظُنونه وشُكوكه تساوره،  بأنَّ لا بد من سبب لهذا الكذب المُتمادي والتكتُّم الشديد عن وضعها المادي


عاد إلى منزله  والسماء تعصف وتسيل أنهاراً من المطر تنهمر عليه دون أن يكترث لها


لم تبرح من مُخيَّلته ....  


الفصل الرابع :


في مساء ذلك النهار الصاخب عاطفةً، والعاصف أجواءً، وإذ بجرس الهاتف يرنّ، ولَم يتوقَّع أبداً أن تكون هي على الجهة المقابلة

بادرته قائلة :

لن اسألك عن المحاضرة لأنَّها لا تهمُّني بقدر قلقي عليك كيف وصلت إلى المنزل ؟؟


 وانهمرت عليه بالاستفسارات

هل اصابك مكروهوهل ... وهل ... ؟

إلى ان توقَّفت عن طرح الأسئلة


أجابها فوراً :

أنا بدوري انتابني القلق عليك، لانَّ تساقط المطر لحظة مغادرتك الجامعة كان من الغزارة بأن تغرقي فيه 

أجابته : تبلَّلت ثيابي كثيراً، وتأخَّرت الحافلة، وشعرت بالبرد الشديد ...


أجابها ساخراً ... 

كم تمنيت لو كنت معك ...


فقالت مُستغربة : لماذا ؟؟

فأجاب مغازلاً : لأنِّي كنت سأُخبئك تحت معطفي وأدفع عنك المطر والبرد


قالت له : أتمنى لو تهبُّ عاصفة ثانية حتى ننزل سوياً تحت المطر لأنعم بدفئك ولأتمتع بحمايتك


فقال لها متسائلاً : هل ما تقولينه هو على سبيل المزاحأو السخرية ؟

أجابته : ابداً ... وأعدك بأنَّه إذا طال وقت هبوب العاصفة حتى الغد، سأطلب اليك مرافقتي تحت المطر إلى محطة الحافلة


أجابها بحدَّة والحُنق بادياً من لهجته : وماذا ستفعلين بسائقك الخاص ؟

ولماذا تهزئين مني ؟

ولماذا

ولماذا ... ؟


 وأنهى المكالمة طالباً منها عدم الإتصال به مُجددَّاً..


لم تتمالك نفسها فانهارت  باكية، وسالت الدموع على خدَّيها بغزارة

سمعت  والدتها بُكاءها المرير، فأتت مُسرعة مُستفسرة عن سرّ هذا البكاء، وانتابها القلق على إبنتها

أخبرت والدتها بتفاصيل الموضوع … 

من كتمان إلى تنامي الحب بينها وبين ذلك الشاب، وكيف أنَّه أحبَّها وهي تُخْفِي عنه مستواها المادي


قالت لها والدتها :

لن أطلب منك تفاصيل إضافية

لكن الشاب يستحقك

وكفى بكاءً

أضافت :

دعيني أُصلح ذات البين، بينكما

وطلبت منها رقم هاتفه.



الفصل الخامس :


مع تزايد واشتداد العاصفة، هبَّت رياحٌ قوية أدَّت إلى انقطاع الكهرباءوعلا في أرجاء المدينة أصوات وكأنَّها عواء ذئاب جائعة. تطاير الزجاج  وانهارت الأبنية القديمة وامتلأت الشوارع بمياه الأمطار


 أغراه وأغواه مشهد العاصفة  برياحها وأمطارها، فنزل إلى الشارع بالرغم من معارضة الأهل وفي مُخيَّلته أنَّها معه وتحت معطفه

أنهكه السير تحت المطر وهو يُحاكي نفسه في خضِّم هذه العاصفة الهوجاء، عاد ادراجه إلى المنزل وهناك سبح في أحلامه حتى صباح اليوم التالي، حيث أيقظه والده من سُباته العميق،

قائلاً  له :

هناك سيدة تطلبك على الهاتف  وتريد أن تتحدَّث معك

وعلى الجانب الآخر من الهاتف أجابه الصوت :

أنا والدة زميلتك بالجامعةأطلب إليك أن تقبل اعتذار إبنتي  عن الذي حصل بالامس، ولو كانت في حالة صحيَّة  جيدة  لكانت هي من قام بالاعتذار، لكنَّها الآن ترقد في المستشفى لعارض صحي مفاجئ أصابها

وليس عليَّ أنا … 

تغيَّرت لهجته وقال كلاماً ارتطم صداه أرجاء الغرفة،


ما الذي حصل ؟

وكيف ؟

وأين هي ؟.  

وفِي أي مُستشفى ؟

وفِي أيَّة غرفة ؟


أجابته : هدِّئ من روعك  ...

إنَّها الآن بخير ...

ولا أرى مانعاً إن قمت بزيارتها ...

وختمت قائلة :

إلى اللقاء


في تلك اللحظة :

انقشعت الغيوم السوداء، من سماء عقله، وجفَّت الدماء السوداء  من  جدران قلبه، وانبسطت أساريره ونسي عتّبه، وفاضت في وجدانه موجات من العطف والشفقة والحنان عليها.  


فتح نافذة غرفته، ورأى الشمس كعادتها تُشرق وترسل أشعَّتها وكأنَّها تضحك وتبتسم له

هدأت العاصفة وانحسرت

إنقلبت حياته وتبدَّلت رأساً على عقب وشعر أنَّه تقمَّص حالاً أخرمن جيل الخيبة إلى جيل الأمل ..

تراكمت وتزاحمت الأفكار في مُخيَّلته ...

ماذا سيفعل ؟

كيف ومتى سيزورها ؟


لكن في ظلّ تزاحم هذه الأفكار، طرأ أمرٌ لم يكن يخطر في البالشائك صعب المنال والتحقيق وهو الهديَّة التي سيقدمها أثناء زيارته لها في المستشفى


إنَّها تُحِّب وتعشق زهرة ( كراون دايسيلكنه فصل الشتاء وهي زهرة بريَّة ربيعية


ماذا سيفعل ؟


الفصل السادس


في تلك الليلة الليلاء، وبعد ان أخذت رقم هاتفه من إبنتها

سألتها :

الآن وحالاً وفوراً

ما قِصَّة هذا الشاب ؟

وتابعت أسئلتها بسرعة متتالية :

ولماذا الكذب ؟

ولماذا إخفاء من انت ؟

ولماذا ... ولماذا ... وكيف


أسئلة ... أُم :

أجهدت نفسها لتجعل من إبنتها صديقة لها، حتى تعود إليها في أحلك الأوقات

وكانت إبنتها خير صديق وخير جليس لها


إذن ما الحكاية ؟

قالت لوالدتها :

أنت تعلمين لماذا تركت الجامعة الأولى ، والتحقت بهذه

أنت تُدركين كيف كان شباب الجامعة يتملَّقون ويتودَّدون  لي


كل ذلك بسبب الثراء الذي أنا فيه

ما زلت يا أُمي أتذكَّر نِفاق الشباب في تصرُّفاتهم الرعناء، وتسابقهم مع سائق سيارتي لفتح الباب ليوأنت الوحيدة التي وقفت بجانبي حتى وافق والدي بأن أغيِّر الجامعة إلى أخرى بالرغم من عُلوّ شأنها، والثانية أقلُّ منها.


كل هذا جعلني اشمئز  من الجامعة ومن الطلاَّب والشباب فيها، فأحسست أنَّي لا شئ لولا هذا الثراء ومال أبي


ساد الصمت قبل أن تُعقِّب الأم على حديث إبنتها :

وما دخل كل هذا بهذا الشاب ؟


أجابت والدتها :

منذ اليوم الأوَّل لدخولي الجامعة، طلبت  من السائق أن لا يقترب من  باب الجامعة كما كان يفعل سابقاً، بل طلبت منه أيضاً أن يوصلني إلى قرب محطة وقوف حافلة الركاب، بجانب أحد الحوانيت  الصغيرة حيث إتفقت مع صاحبه أن يسمح لسائقي بالوقوف لقاء أن أشتري كل يوم منه حلوى أو ماء، حيث أُقدمها إلى أُم وابنتيها الصغيرتين اللواتي يتوسلن دائماً المارَّة أمام باب الجامعة، ويطلبنَ منهم المساعدة.

تابعت الفتاة حديثها :  

بقي الحال على هذا المنوال إلى يوم هبوب هذه العاصفة الشريرة، عندما شاهدني وشاهد سائقي، حيث وقعت الكارثة، وحصل المأزق الذي أنا فيه


قالت الأم باستهجان :

لا زلت عاجزة عن فهم ما جرى

هل إرتكبت جريمة ؟

فأجابتها :

توطَّدت علاقتي بهذا الشاب بشكل سريع ونمى الاحترام، والمودَّة بيننا، وفِي  ذهنه أنِّي من بيئة فقيرة متواضعة


وأردفت بحسرة :

أحبني كما أنا ..

أحبَّ  صفاتي وأُعجب بأخلاقي ..

أحبَّ ثيابي البسيطة والمتواضعة

أحبَّ تعلُقي بالزهرة البريَّة لميزتها المعنوية، وليس المادية ..

أحبَّني ( أنا ) التي أنا ..


تصّوري يا أُمي عندما مرضت  وتغيَّبت عن الجامعة ماذا فعل. لقد عرض أن يأخذني إلى عيادة طبيب عائلته، وعرض أن تكون تلك المعاينة مجَّانية، مُعتقداً أنَّني أعيش في ضائقة مالية وأتحدَّرُ من بيئة فقيرة


كان دوماً يرسل لي مُلخَّص المحاضرات ويرفقها برسالة بخطه يُعلمني بكل شاردة أو واردة حصلت في غيابي


كانت رسائله لي أهمُّ من المحاضرات، لأنَّها ابقتني حاضرة، وأعطتني البهجة، والسرور، ولم  يتطرَّق بأي خبر يُزعجني، حتى جعلني أظنّ أنَّ الجامعة بطلابها وأساتذتها وعميدها، افتقدوني طالبين بالصوت العالى ...

 تعافي وعودي ...

نحن بشوق اليك


كانت رسائله لي :

دائماً وأبداً تبدأ بحرف ( و )

كقوله :

وبينما ...

وعندما ...

ومتى ...

و، الخ

تتابع  بشغف حديثها لوالدتها :

سألته مرة واحدة لماذا تبدأ رسائلك لي بحرف ( الواو )

أجابني :

ل وٓصْلِ، ما انقطع ...

إن انقطع

ولن ينقطّع ...


قلت له وكيف :

قال :

منذ اليوم الأوَّل لتعارفنا،  عاهدت نفسي أن تبقى أيامي وأيامك موصولة إلى الأبد ...


وهكذا، 

وهذا ما  أعنيه  … وٓصْلِ، ما إنقطّعْ ...

......

......


لم تستطع تمالك نفسها ومتابعة حديثها

أجهشت بالبكاء، 

وغابت عن الوعي ولَم تصحو على نفسها ألَّا  وهي ممدَّدة على سرير المستشفى



الفصل  السابع :


بقي يفكِّر ويفكِّر كيف الوصول إلى كراون دايسي، إنَّه الشتاء والصقيع وتراكم الثلوج، فكيف سيستطيع التفتيش في جبال قريته والتنقيب عن تلك الزهرة حتى ولو كانت ذابلةً.  


لم يترك متجراً  لبيع الزهور والورود إلَّا  وسأل عن تلك الزهرة. كان الباعة يتعجَّبون ويقولون له

هذه الزهرة  بريَّة لا تُباع لأنَّها تنمو على حافة الطُرق لا قيمة ماديَّة لها، فضلاً  عن ذلك فإنَّ موسمها في الربيع  ونحن في الشتاء

لم يترك مكاناً لليأس أو للإحباط لكي يسيطران عليه، فدخل أحد المتاجر التي يُباع  فيها كل شيئ يخصُّ المرأة، 


وقال لإحدى البائعات :

زميلتي في الجامعة تُحِّب زهرة بريَّة إسمها بالعربية وبالانجليزية كذا، وكذالذلك أودُّ أن أشتري لها هدية عليها رسم تلك الزهرة

لم تفهم البائعة ما طلبه، ولكنها رغبت في المساعدة فقالت له

هذه رزمة أقلام ملونة، أُرسم لي تلك الزهرة، وساساعدك


استجمع كل قواه الذهنيَّة والفنيَّة وراح يرسم ( كراون دايسي )، فرسمها بدقَّة  مُتناهية بالأبيض والأصفر والغصن الأخضر

عندما شاهدته العاملة في المتجر ماذا يفعل قالت مهلاً وأتت بالعقود والسلاسل وكل شيئ فيه صورة ( كراون دايسي ). 

 بعد وقتٍ طويل أخذه في التأمُّل بالقطع، أعجبته من بينها قطعة واحدةمرآة صغيرة يُمكن وضعها في حقيبة نسائية، في وجهها الاوَّل مرآة تُعطي الصورة حجماً أكبر، وفي الوجه الآخر، رسم ناتئ  وبارز لهذه الزهرة بكل تفاصيلها


وبينما كانت العاملة في المتجر تهِّم  بتغليف الهديَّة، سألها إن كان لديها ورق هدايا عليه  رسم ( كراون دايسي ). 


لم تتمالك العاملة نفسها، فبان عليها علامات  الابتسام والضحك، وبادرت إلى سؤال زميلاتها في المتجر إن كان يوجد هذا النوع من الورق


بعد وقتٍ من الانتظار وطول غياب العاملة والذي أمضته في التفتيش عن ذلك النوع من ورق الهدايا، جاء الفرج حيث أطلَّت إحدى العاملات حاملةً معها رزمةً من ذلك النوع، فانفرجت أساريره ومعه ظهرت علامات الفرح على وجه البائعة اكثر منه

حضَّرت البائعة ورق الهديَّة ونظرت إليه قائلة : هل هناك تصميم معيَّن ترغب به في لف الهدية

فأجابها بسرعة الواثق من رؤيته لتغليف الهديَّة  قائلاً :

رسم الزهرة الذي  رسمته أُريدة مع المرآة  وفِي داخل العلبة

والباقي أترك لك حريَّة الاختيار فيه


قبل مغادرة المتجر سألته البائعة بفضول :

لماذا إصرارك على هذه الزهرة ؟

تمهَّل قليلاً ثمَّ أخذ يقصُّ عليها الجزء الاول من قصة  كراون دايسي. 


0 comments:

Blogger Template By: Bloggertheme9