يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الاثنين، 11 يناير 2021

قِصَّة كراون دايسي وكريستل. الجزء الثاني. المُدونَّات الفيصليَّة.

نشر من قبل Faissal El Masri  |   12:45 ص

 


الجزء الثاني :

الفصل الثامن


لم يكن المشهد في المستشفى والاستعلام عن غرفتها أمراً عادياً. فالممرّ المؤدي إلى جِناحها كان مكتظاً بسلال الورود وباقات الأزهار من شتَّى الألوان  والأجناس والأشكال

اعترته الدهشة وقادته إلى المقارنة بين هديَّته المُتواضعة مع تلك الصفوف من السلال

استقبله شقيقها مبتسماً وهو  الذي كان صلة الوصل بينهما ناقلاً المحاضرات والرسائل.

بادر إلى مهمة التعريف عنه أمام الحشد الكبير المتجمهر  في قاعة الضيوف، ومن ثمَّ قدَّمه إلى والدته مُعرِّفاً عنه


بادرت الوالدة إلى أخذه جانباً، شاكرةً له على الزيارة. أدخلته مباشرة إلى غرفتها، وهناك وقف صامتاً جامداً لا حِراك فيه، شخصت عيناه إليها هي غارقة مُمدَّدة في سرير صغير، وجهها أصفر باهت وشاحب، ويدها ممدودة ومربوطة إلى أنابيب من الأدوية


مرَّت الدقائق كأنَّها سنون. حاولت فتح عينيها لكنَّها لم تستطع، وكأنَّ أثقالاً وضعت على جفنيها. حاولت جاهدة أن تراه لكنَّ محاولتها باءت بالفشل، فعادت وأغمضت عينيها على دموع سالت سخيَّة  كحبات اللؤلؤ في مهد أصدافها

سحبت يدها من تحت الغطاء بتمهُّل وصعوبة، فما كان منه إلَّا أن أمسكها بيديه الاثنتين  وقبض على يدها بإحكامٍ.   

اغرورقت الدموع …  وسالت ... ومن ثم قالت :


إن كنت تفهم  لغة دموعي فلا حاجة لي أن أتكلَّم … 

وإن كان قلبك كبيراًفاترك  مجالاً لقبول عُذري


قال لها :

دموعك أغلىمن حبَّات اللؤلؤ ...

أمَّا عُذرك، فهو من قبيل  وٓصْلِ ... ما انقطع ...


كلماته هذه كان لها وقع مدوِّ في داخلها، فتكشف عن ابتسامة ساحرة أزالت معها شحوب الوجه والحزن الذي لفَّه لأيَّام

التفت ناحية والدتها والبسمة تعلو محيَّاه وقال :

يبدو أنَّ الشمس في المستشفى تأخَّرت اليوم في الشروق !

فترة الاطمئنان على صحَّتها انتهت وحان موعد تقديم الهديَّة، فأخرجها من جيبه، فبادرته بالقول ...

افتحها أنت ...


فتح الهديَّة قائلاً لها :

أُنظري في المرآة، حينها ستشاهدين آلهة الجمال

أُنظري إلى الخلف. زهرة الإكليل هذه  ستكون دائماً وأبداً تاجاً فوق رأسك ؟


لم تتمالك نفسها من البكاء

فتدخَّلت والدتها، وقالت :


بُكَاء الحزن قبلنا به،  أمَّا بُكَاء الفرح ... فإنَّه مرفوض

التفتت إليه قائلةً :

إنَّها أجمل هدية تلقيَّتها طوال حياتي

ثمَّ سألته سبب وجود صورة زهرة  ( كراون دايسي ) مع الهديَّة ...

أخبرها حادثة الهديَّة بالتفصيل

تأمَّلت الهديَّة مطولاً ثم رفعت وجهها وخاطبته قائلةً :

سأضع لهذه الصورة إطاراً  من الذهب الخالص، وسأضعها على مكتبي طوال حياتي.    


الفصل التاسع :



واظب على زيارتها في المستشفى طوال المدَّة التي أمضتها وهي سبعة أيَّام، وفِي خلالها كان يحمل  إليها المحاضرات  ويُخبرها كعادته بكل شاردة أو واردة، حتى يُضفي الحبور والبهجة في نفسها


حتى في مرضها كان يراها أجمل الجميلات، وكانت نظراتها إليه كلَّما زارها، ترسم علامات فرحٍ وسعادة.  

في إحدى الزيارات لم تكن كما عهدها، فوجهها بدا عليه الحزن والكآبة، ووالدتها مُنزعجة، وهي ترجوها أن تهتَّم بصحَّتها قبل كل شئ

فسألها لماذا الوجوم  وكأنَّ قناطير الهموم تنهمر عليك من  السماء ؟

فتدخَّلت الأُم قائلة : إنَّها كئيبة منذ الصباح الباكر، لأنَّها انقطعت عن تقديم الحلوى والعصير لابنتي المتسوِّلة التي تقف على باب الجامعة


ضحك وابتسم، 

فقالت له  بنبرة  حادَّةأنت مثل أُمِّي أيضاً تهزأ بي

قال لها مهلاً مهلاً ... 

منذ  اليوم الأوَّل لغيابك وأنا أقوم بالمهمة ذاتها ...


لم يكْد يُنهي حديثه حتى اغرورقت عينيها  بدموع الفرح، وهبَّت والدتها وأعطتها منديلاً  وهي تقهقه من الضحك والبهجة تعمَّ أرجاء الغرفة، 


إيَّاك إيَّاك ( والكريستال ) أن يتدحرج أرضاً التقطيه، واحفظيه في هذا المنديل


قالت له وقد تُحِّولت إلى إنسانة تعج بالسعادة

أنت اليوم وكعادتك تجلب لي السعادة، وطلبت إليه أن يمدَّ يده

حضنت يده وقامت بوضعها على وجهها


كان يُلاحظ أنَّ والدتها تُوليه اهتماماً خاصاً، وبدأت تخبره أنَّ ابنتها كل شئ فيها مثل ( الكريستال ) دموعها وقلبها ورقَّتها، وما عليك إلَّا  أن تُحافظ على حبَّات الكريستال كما أفعل دائماً


لم يُعلِّق كثيراً،  ولكنَّه توجه بحديثه إليها  وسألها إن كانت مرتاحة

أجابت الوالدة  فوراً  بكلمة واحدة

بوجودك

ساد صمت رهيب عمره  وكأنَّه  .... قرون



في يوم خروجها من المستشفى  قالت له :

أُحِبُّ أن  أُبلغك أنَّني لن أُغيِّر عادتي وهي قدومي سيراً من محطة الحافلة إلى الجامعة

وأضافت : أيضاً لن يكون معي، مظلَّة حتى تقيني من المطر

قال لها :

ولماذا تتحمَّلين  كل هذه المشقَّة، فالأمور أصبحت واضحة بيننا، فضلاً عن ذلك الأرصاد الجوية، تُحذِّر من هبوط درجة البرودة، وأنت لا زلت بحالة صحيَّة غير مستقرَّة


أجابته :

السير من محطة الحافلة إلى الجامعة، كان هو السبب الذي أدَّى إلى تعارفنا، وسأستمر في سلوكه من دون السائق وكما جرت العادة.  


تابعت باسترسال :

بالاضافة لذلك، إذا كنت تتذكَّر ليلة خلافنا تمنيت حينها لو ترافقني إلى محطة الحافلة إذا استمرت العاصفة لأنَّي  أُحب أن أسير معك تحت المطر


اليوم أُكرِّر طلبي، وأقول لك إنَّه لن يكون معي مظلة  لأنَّي أودُّ أن استظل تحت معطفَك ومظلتك

أجابها متسائلاً :

ماذا تريدين منِّي أن أفعل ؟

قالت له : الأمور ستتغيَّر الآن. أُريد أن نكون في قاعة المحاضرات والمقصف معاً وسوياً ...  لأنَّها من أجمل لحظات العمر

أُريد أن ترافقني من الدكَّان بالقرب من محطة الحافلة، وندخل سوياً إلى الجامعة


قال لها :

هذه أمور كنت أحلم بها وقد تحقَّقت الآن، ولكن لي سؤال واحد ...

قالت : ما هو ؟

قال : والدتك تقول أنت مثل .. حبَّات ... الكريستال ....

ولكني أنا اقول أن  إسمك  سيكون من الآن وصاعداً  ( كريستل )  وسأترك  لوالدتك دمعة واحدة من الإسم، وهي حرف ( الألف ). 


ابتسمت واشترطت :

أُقبل بذلك لكن لي شرطٌ واحد وهو أن لا يناديني أحد في الكون بهذا الإسم إلا أنت ...

وتابعت حديثها : أمَّا أنا فسأناديك ب مستر ( واو )


فليكن هذا سرَّنا ...

أجاب : قَبِلْتْ  ...  يا  ... كريستل ...



الفصل العاشر :



بدأت الأيَّام السعيدة تتدحرج على كريستل وحبيبها، وتجرُف معها كل الهموم،  وتضفي البسمة والفرحة

كانت كريستل تغرف من الحب الذي وفَّره حبيبها، بنهِّم دون اكتفاء

كانت تقول له أنا عطشى وأكاد أموت من الظمأ، فيهبُّ مسرعاً لجلب الماء لها، فترفض بدلال وتقول :


أنا عطشى لحُبِّك وحنانك  واهتمامك

كانت تتصِّل به يومياً في الصباح الباكر، وقبل أن تخلد إلى النوم، وتسأله السؤال نفسه :


ماذا أكلت ..

ماذا شربت ..

ماذا لبست ..

ماذا فعلت ..

وماذا، وماذا  ؟؟؟



كانت إذا دعته إلى العشاء لا تقبل إلَّا أفخم المطاعم وأغلاها سعراً  ..

كان إذا دعاها إلى العشاء تتعمَّد وتدَّعي أنَّها مُشتاقة إلى صحنٍ من الفول أو الحمُّص ( صحن شعبي في لبنان، زهيد في سعره )


كانت إذا قدَّمت  له هديَّة، وغالباً ما تكون من الهدايا الفريدة وباهظة الثمن، تشترط عليه أن تكون هديته لها بالمقابل، زهرة أو وردة إلى حين قدوم فصل الربيع

كانت تطلب إليه في فصل الربيع أن يقدِّم لها يومياً  باقة من أزهار (كراون دايسي )، حتى تقوم بجمعها على شكل تاج، أو عقد أو إسوارة ، ثم تضعها في كتاب


كانت والدتها تُلاحظ تعلُّق كريستل بحبيبها، وتحاول جاهدة  أن  تلقى من زوجها قبولاً لهذا الواقع


كان الأب في خِصام شبه يومي مع كريستل، حتى تلاشت مقاومتها وانهارت عندما سأل الأب حبيبها في تحدٍ  صارخ :

( ما هو الأجر الشهري الذي تتوقَّعه فور تخرُّجك من الجامعة هذه السنة ) ؟؟ 


نهض حبيبها ممتعضاً وقال للأب :

أجري الشهري الذي سأناله سيكون مثله مثل كل شاب يبدأ حياته من أول الطريق

امتعضت الأم ولامت زوجها وخاب ظنها

أمَّا كريستل وكعادتها في لغة الدموع والعيون، نظرت الى حبيبها وهو يغادر منزلها وهمست في إذنه :

 سأتصل بك

خرج حبيبها مكسور الخاطر، تسبق الخيبة  خطواته على السلالم.  

نادته كريستل :

مستر ( واو )  

Take care !!!!

I, love you !!!


كانت كلماتها بلسماً على جراح

لم يتوقَّف نزيفه

وزاد الألم على مرِّ الأيام

وزادت القروح على تراكم السنين


فلا دواء عليل ناجع يُخمد البركان الذي انفجر، وبدأ ينفث الحِمم دون هوادة

ولكنَّه لم يستسلم

طالما كريستل تحبه حُباً ما بعده حُب

واقتنع أنَّ جذوَّة الحب لن تخبو مهما طال الزمن



الفصل الحادي عشر :


كعادتها كل مساء، إتصلت به وانهمرت عليه بالاسئلة ذاتها.

كان الْحُزْن والاختصار باديين وواضحين من الأجوبة.

كانت تُحاول التخفيف من وقع الصاعقة عليه.   

 قالت له ممازحة لترطيب الأجواء

 ولماذا التجهُّم .. يا مستر واو ؟؟


غداًستدعوني إلى العشاء، لأنِّي أُحِب واشتهى أن أتناول البصل والزيتون والفول واللبنة والخبز المرقوق، وأغرف بيدي ولا أنظِّف أصابعي ألَّا  بفمي ...


هذه هي أنا :

أحبُّ الأُمور إلى قلبي أن أكون معك ...

أن أمشي معك تحت المطر ...

أن يكون غدائي حُبُّك … 

لا تهتمَّ  لكلام والدي … 

طالما أُمي بجانبي ومعي … 

وتفضِّلك على سائر الشبان الذين تقدَّموا لي ...

بالأمس نشب خلاف بين أُمي وأبي ... وبيني ...

كنت واضحة، صريحة معه وقلت له :

إمَّا هو ... أو لا أحد ....


غضب والدي وخرج من المنزل … 

لم تنفع كل هذه التوسُّلات والأخبار مع حبيبها، لأنَّه لا يُرِيد أن يتسَّبب بخلاف بين العائلة بسببه


كانت الأمور والأيام على قلَّتها تسير كالسلحفاة

كان التحفُّظ بادياً وهو سيِّد المواقف.   


حلَّ فصل الربيع  وحلَّت معه الحرب الأهليَّة في لبنان، ومع تقدُّم الأيَّام كانت هذه الحرب تشتدُّ ضراوةً وقساوةً ...


كانت السماء تُمطر القذائف كهطول المطر في فصل الشتاء

بدأت اللقاءات تتقلَّص بسبب انقطاع الطرق وإنهمار  القذائف وتكاثر الحواجز الأمنيَّة

كانت كريستل، ُترسل سائقها إلى حبيبها يحمل منها الرسائل والأخبار، ومع كل رسالة زهرة ذابلة من ( كراون دايسي ). 

سألها لماذا ترسل زهرة ذابلة، وهو لم ينقطع عن إمدادها  مع السائق بكميَّات من الأزهار النضرة


كان جوابها :

لأني حزينة

روحي ذابلة

وشوقي إليك

كشوق هذه الزهرة للماء

وإن كنت تُحبُّني  إسقي الزهور الذابلة وأحفظها …  

وإن ماتت لا ترمها، بل إدفنها داخل كتبك ...


بقي يرسل لها في ذلك الربيع والصيف، أزهاراً من كراون دايسي، وهي تُعيد إليه الذابلة منها ...


وبقي يضعها داخل كتبه

وبقيت هي تصنعها أكاليلاً وعقوداً وأساور، وتضعها أيضاً في كتبها


إلى أن أيقظه والده يوماً ذات يوم على خبر هزَّ  كيانه ونال منه مقتلاً وأجهض أحلامه وأطبق على حياته


تُوفيت  والدتها إثر نوبة قلبيَّة حادَّة وخرجت الصُحف  في ذلك الصباح باللون الأسود، وتوقَّفت الإذاعة الرسميَّة عن بثّ برامجها كالمعتاد حداداً على هذه السيدة الفاضلة



الفصل الثاني عشر :


لم يهدأ ذلك الصباح

استاءت صحته وبدا كالمجنونكيف السبيل للوصول إليها

حاول مراراً وتكراراً الإتصال بها عبر الهاتف لكن دون جدوى، خطوط الهاتف في العاصمة قُطعت ذلك الصباح، الأمر الذي زاد حظَّه سوءاً

منذ الصباح بدا اليوم رهيباً، بقسوته وشراسته وظلمه

كيف لا يكون بجانب كريستل في أصعب يوم ٍ يمرُّ في حياتها

تمرُّ اللحظات ثقيلة كئيبة يقطعها طرقٌ على الباب. ركض باتجاه الباب وإذ بالعم فؤاد سائق كريستل، الذي اعتاد أن يراه بالبذلة الرسميَّة والقُبعة، لكنَّه اليوم كان مختلفاً، شعره الأبيض الذي ملأ رأسه زاده كِبراً وهمَاً، وزاد اليوم حزناً


قال له العم فؤاد :

أرسلتني الست الصغيرة، لأُخبرك عن وفاة والدتها، وهي تطلب منك أن لا تحضر مناسبة العزاء، لأنَّها تخاف أن يحصل لك مكروه، فيكفيها وفاة والدتها ولا تريد أن تخسرك أنت الآخر في هذه الحرب القذرة


وأضاف : يوم الدفن تقرَّر يوم غدٍ  في مسقط رأسها

وتقول أيضاً أنَّها ستتكلم معك أو سترسلني إليك، وهذه رسالة منها ...


على عجلٍ ولهفة  فضَّ الرسالة حيث بانت الكلمات التي بدأ يقرأها بنهم المتعطِّش لشوق اللقاء ومعرفة أي  تفصيل يروي ذلك العطش

بدأت عيناه تتنقَّل بين كلمات الرسالة التي قالت  فيها :


خسرت أُمي وعضَدي  وسندي ..

لم يبق لي إلَّا حِلْمٌ  واحد ..

هو أنت ...

حافظ عليه، وإهتم بنفسك، لا أريدك إلَّا أن تبقى مَثَلي الأعلى، وحبِّي الذي لا ينضب


توالت الأيَّام واحداً تلو الآخر تمضي وتزيد نار الشوق والحنين، تنهشه وتحيل أيَّامه جحيماً لا يُطاق


في اليوم الذي تمَّ فيه تحديد موعد للدفن، توجَّه إلى قريته حيث أمضى أيَّامه يجمع ويقطُف أزهار كراون دايسي، فيأخذ الذابلة منها ويسقيها حتى امتلأت صفحات كُتُبه بالأزهار الذابلة.

بقي على هذا المنوال إلى أن وصل فجأة إلى قريته العم فؤاد، حاملا إليه أزهار كراون دايسي الذابلة، والتي كانت استلمتها قبل وفاة والدتها

لم تكن تلك الأزهار وحدها ذابلة، فمن خلالها فهم أنَّ كراون دايسي أزهاراً وحبيبة أصبحت جميعها ذابلة


حاول أن يعطي العم فؤاد باقة من الأزهار النضرة، والتي يقطفها صباح كل يوم، إلَّا أنَّ العم فؤاد قال له :

الست الصغيرة أوصتني أنَّه إذا لم تكن تلك الأزهار جاهزة فإيَّاك أن تطلب منه. والحمدلله أنَّ باقة الأزهار حاضرة جاهزة دائماً ككل يوم

وتابع العم فؤاد حديثه فرحاً :

اليوم  ستفرح الست الصغيرة  لهذه الأزهارسأُخبرها أنَّك ما زلت تقطف هذه الزهرة كل يوم


عندها قاطعه بلهفة المتحدِّث : قُلْ لها أيضاً سأبقى إلى نهاية العمر، أقطف وأقطف وأقطف زهرة كراون دايسي


بسبب الحرب الأهلية الطاحنة، قرَّرت إدارة الجامعة إعطاء إفادات لطلبة السنوات الاخيرة باجتيازهم السنوات المُقرَّرةوقد استندت الجامعة في قرارها، إلى أنَّ طلاب السنوات الاخيرة، منهم من تمَّ  قُبوله في جامعات أجنبية،  ومنهم من حاز على على وظيفة


من جملة الطلاب الذين إستفادوا من قرار الجامعة كريستل، وحبيبها

لم يكن القرار مُفرحاً للثنائي العاشق، لأنَّه سيتسبَّب بوضع حدٍ  لكل اللقاءات فيما لو استأنفت الجامعة عملها من دون هذا القرار


عودته إلى بيروت لم تُبدِّد من رتابة الأيَّام ولَم تغيِّر ما أصبح بادياً على وجهه من تعب وإرهاق لاحظه الأهل وساءهم وضعه الصحي وبدأوا يقلقون عليه


المفاجأة الوحيدة التي بدَّدت رتابة أيَّامه خبر من شقيقته  المتواجدة في أميركا تُبلغه فيه أنَّ عليه، السفر إلى قبرص لتسلُّم  سمَّة دخول إلى الولايات المتحدة الاميركية


الخبر لم يكن مُفرحاً بالنسبة إليه ولَم يعنيه، فأحلامه ترقد هنا بين زهرات كراون دايسي و ( كريستل )، وليست في أميركا !  

تلكأ في السفر إلى قبرص، وتمهَّل في الموافقة على عرض شقيقته، إلى أن إتصلت به كريستل عشية يوم من أيَّام الخريف بعد طول غياب 



الفصل الثالث عشر :


الضياع والتردُّد هما سيِّدا الموقف.  

الأهل يحثُّونه على السفر، والظروف في لبنان تزداد سوءاً يوماً بعد يوم على جميع الصُعُد

حرب وفوضى وانهيار إقتصادي وشيك !   


هتف قلبه عند سماع رنين الهاتف حيث كانت المفاجئة الكبرى !  

كريستل تناديه وبالعادة ذاتها المُحبَّبة إلى قلبه. لم تتوقَّف  اسئلتها واستفساراتها، حتى قال لها :

من أين ابدأ ؟؟

أجابت : كيفما تشاء، ما يعنيني هو أن أسمع صوتك ....

أخبرها عن سمَّة الدخول إلى اميركا

فسألته : ماذا ستفعل ؟


فأجاب : ما زلت أتريَّث وأتلكأ.

 قالت : ولماذا ؟


أجابها : حتى أسمع منك شيئاً ...

قالت : هذا يعني أنَّك لم تتخِّذ قرارك بعد ...

أجاب : نعم لم أتخذ قراراً بعد


فبادرته بالقول والهواجس تعتريها :

أفهم أنَّك ما  زلت  تنتظرني ؟؟


أجاب إجابةً سريعةً وحادة :

بالطبعأنت ظلِّي وخيالي والعمر من دونك، سراب أرجو ألَّا  أقع  فيه ... 


تنفَّست الصُعداء وقالت له : هل تريد أن تسمع أخباري ؟

أجابها متلهِّفاً  بالطبع ... أُريد !!

فبدأت : بعد انتهاء  مراسم الدفن والعزاء لوالدتي واللذان استمرا  لأسابيع عديدة، فاجأني والدي بدخوله غرفتي موجِّهاً كلامه لي :


هل ما زِلتِ على الوعد ؟؟

قلت له : أي وعد تقصد ؟

قال : الوعد الذي  قطعتيه لي  وقبلتُ بموجبه أن تنتقلي إلى الجامعة التي تخّرَّجت منها شرط أن تُكملي شهادة الدكتوراه في فرنسا


أجبته : الظروف تبدَّلت والأحكام تغيَّرت، وأنا في  الوقت الحاضر أُفتش عن وظيفة هنا في لبنان


أجابها والحُنق بادياً  على وجهه :

وظيفةهنا ! ...

وأجرٌ لا يكفيك أيام عِدَّة

تابع غاضباً : أرفض رفضاً  قاطعاً  عِنادك وإصرارك على عدم السفر، والسبب أعرفه وهو زميلك في الجامعة  ...


أضاف مُهدِّداً مُتوعِّداً، فليكن معلوماً لديك، لن تتوظَّفي ولن تبقي في لبنان، وستُتابعي دراستك العليا في باريس، وقد اتفقت  بذلك مع سفير فرنسا عندما منحنا جميعاً سِمَّة الدخول إلى فرنسا


أجبته ببرودة : طالما  تفاهمت مع السفير، أكمل تفاهمك معه والتحق بالجامعة  وارجع  لنا بالدكتوراه


بالرغم من تأجُّجه غضباً  قلت له :

لن اسافر ..

لن أُكمل تعلمي ...

إفعل ما شئت ...

بعد تلك الواقعة أي منذ أسبوع تقريباً لم يُكلِّمني، ولم ألتقِ به


أجابها مُتنهداً : الأقدار  هي مَن  يرسم مصيرنا ! أتُلاحظين ذلك ! وهل تُلاحظين أنَّنا  نواجه المعضلة ذاتها، ألا  وهي السفر طلباً للعلم


تابع مُتسائلاً : لماذا لا نفكِّر أنَّ باب العلم المفتوح لي في أميركا، هو  باب العلم ذاته الذي سيأخذك إلى فرنسا ؟


أسئلة كبيرة تُشكِّلُ تحدِّياً لنا يا حبيبتي كريستل لا تحتمل إلَّا  جواباً واحداً وهو أن  نقرِّر سوياً الآن وهذه الليلة  ... السفر


لمعت الفكرة في رأسها وقالت له :

بوفاة والدتي خسرت النصيحة، وبوجودك أنت استعدتها

وختمت كلامها له : إلى فرنسا .. سأذهب أنا . .. 

وإلى أميركا .. ستذهب أنت


هذه المكالمة في ذلك اليوم  الخريفي، كانت الأخيرة بينهما

ختمها بكلمتين :

إلى اللقاء  يا كريستل

يا حبيبة العمر


فأجابت : سنلتقي يوماً يا حبيب العمر

فأنا مثلك مُقتنعة بمبدأ :

وٓصْلِ ما انقطع ...

ولن ينقطع ...


ولتكن أخر كلمة أقولها لك ..

... و .. أُحِبُك ٓ ...

حتى آخر عمري



0 comments:

Blogger Template By: Bloggertheme9