يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الخميس، 25 أغسطس 2016

رواية إمرأة الوادي المُقَدَّس ... كاملة.

نشر من قبل Faissal El Masri  |  in دراسة  12:55 ص

إمرأة ألوادي ألمُقدّٓس .... 

كاملة.

إمرأة الوادي المقّدس،
رواية نشرتها بالعام ٢٠١٤م. 



 

تدور أحداث  هذه القصة  الخرافية في الحقبة التاريخية المعروفة بالحضارة البابلية، وما سبقها من فترات كانت البشرية تبحث عن وسائل وطرق حتى ترتقي الى معرفة سر الكون والخليقة. 


في احدى البقاع، نشأ شاب وفتاة، تعارفا، وتحابا، وعشقا بعضهما البعض، وكان يلتقيان في السهول والحقول، والهضاب، يساعدان الأهل في الزرع، والحراثة ويلتقيان في المواسم، والأعياد وكانت الفرحة تغمر قلوبهما، لا يعّكر صفاء حبهما اي حاجز، او مانع.

في جو من المعتقدات، والطقوس المختلفة، ترعّرع  حبهّما لانه هو كان يمارس طقوسا ً دينية تختلف عن طقوسها، ولم يتقاتلان او يتخاصمان لان الشعوب، في تلك الفترة من الزمن كانت تنعم برقي في المعتقدات والنظم   بحيث  تحترم عادات، ومعتقدات الشعوب الاخرى، لا بل كانت الشعوب  تترك ممارسة المعتقدات للكهنة، والسحرّة  والمنجمين،  دون تدخل او عبث او خصام،  في معتقدات الطرف الاخر. 

كان حبهما حديث الأهل، ولكنهما اعتقدا ان هذا الحب قد أخذ مداه واتفقا على ان يوقفا هذا القصة وان يرحل كل منهما في سبيله. 

اعتقد الشاب والفتاة أنهما أدركا أقصى درجات الحب، ولكنهما لم يدركا سر الكون، والخليقة في حياتهما هذه، ولهذا ..... 

تعانقا وافترقا، على أمل ان يلتقيا في جيل اخر. 

كان هذا الشاب، وهذه الفتاة قد خُلقا  من اجل غاية تختلف عن بقية من عاش حولهما. 

هو، ذهب غربا ً مكان غروب الشمس. 
وهي، ذهبت شرقا ًمكان شروق الشمس. 

كان الوداع،  صاخبا ًوقد كره الأهل ان يهاجر الابن،  وان ترحل الابنة، ولكن الإصرار من الطرفين كان سيد القرار. 

ما ان حطّ رحاله بعد حين  في ارض خصبة، حتى بدأ يقارع الحياة وهو في عزّ شبابه، بالحراثة والكّد والتعب، وكان حنينه دائما وأبدا ً الى حبيبته يتذّكرها ويحلم كل ليلة بان يلتقي بها. 

زاد حنينه وشوقه وحبه وشغفه بها سنة بعد سنة. 

ولكن هذا الحب الدفين، لم يمنعه من البحث والتقصي عن سر الكون، فبقي ينهل من العلوم بحثا ً عن الحقيقة. 

الى ان خطّرت  له فكرة ان يبدأ جديا ً في البحث عن رفيقة وحبيبة الصبا، بعد ان ادرك من العلم ما كان مخفيا ً عليه. 

كان ينتظر ويراقب  الطيور المهاجرة كل سنة، تمّر من سماء مكان وجوده، وتعود ادراجها بعد غياب فترة من الزمن. 

سأل نفسه،  لماذا لا يستعين بهذه الطيور في البحث عن حبيبته، خاصة وانه بات، قاب قوسين او أدنى من دنو اجّله، وهو العالم والمدرّك نظرا ً لوصوله الى خواتيم العلم والمعرفة. 

لمّا حان موعد مرور الطيور المهاجرة، أشار اليها بالتوّقف،  وطلب من الطيور التي تقود الأسراب ان تاخذه  معها في رحلتها السنوية،  وإعادته الى مكان إقامته، وأبلغهم قصده في  ان تساعده في البحث عن حبيبته. 

إجابته الطيور،  بالسمع والطاعة. 

واتفقوا على ان تاخذه هذه   في هجرتها، كل سنه، على ان تعود به في رحلة العودة  الى محل إقامته. 

وتعدّدت  سفراته، على مدى سنوات طويلة، دون جدوى، وأحّس ان العمر بدأ ينهشه وخارت قواه وغزا الشيب مفرقه وسيطر الندم عليه، لان العمر ضاع من دون ان يلتقي  حبيبته ومعشوقته. 

الى ان قرّر ان يهاجر مع الطيور للمرة الاخيرة. 

في هذه المرّة  وبينما كان يأخذ قسطا ً من الراحة بعد عناء نهار طويل، جلس واستراح  على أكمة تطل على وادٍ، فيه من الأغصان المتشابكة، والاشجار المتطاولة،  والأعشاب داكنة الخضرة، والنباتات دائمة النضرة. 

 شاهد امرأة  عن بُعد، تعيش وحيدة في  الوادي، لفت نظره انها فائقة الجمال وأنها تمشي حافية القدمين، يرافقها في حلّها  وترحالها سربٌ من طيور الهدهد، تصدح الجو،  بالألحان الجميلة، وتأكد له من ثاقب نظره ان هذه الامرأة  كانت  فيما مضى عظيمة الشأن في اَهلها، ودخل الى مكامن عقلها،  وبان له كم  من العلم والمعرفة تدركه، لانها تقوم بنشر العلم والمعرفة على أوراق الأغصان، بعد ان تمشقها. 

خطر في باله ان ينزل الى هذا الوادي ليتعّرف على هذه الامرأة. 

كانت كل صباح وفي وقت محدّد تمر هذه الامرأة وعلى جري عادتها تمشق من الأوراق وتكتب، وتكتب، وتكتب، الى ان قرر في الصباح الباكر  ان يسبقها ليقرأ ما كتبته في الأيام السابقة. 

في اليوم التالي،  وقبل بزوغ  الفجر بقليل وصل الوادي وبدأ يلتقط الأوراق المتناثرة أرضا ً يقرأها، ويقرأها ويحتفظ بها، لانها تتضمن  من العلوم التي وصلت اليه بعد سنوات طويلة  من عمره قضاها يبحث عنها، وتبين له ايضا انها تحوي  على  علوم جديدة لم يتوصل اليها، وها  هو يجدها في أوراق مرمية على الارض وقد اعتّرته الدهشة والاستغراب ان القوافل التي في عدادها اقوام من البشر تمّر في هذا الوادي، وتدوس هي والدوّاب  على هذه الأوراق التي تختزن العلم والمعرفة وبواطن الأمور، دون ان تدرك مضامينها. 



في هذا الوادي كانت القوافل تمر، وتاخذ ما طاب لها من طعام وشراب ولم تكن امرأة الوادي ترغب في  ان يقيم اي إنسان من بني البشر بالوادي، اذا كان جاهلا، لا يفقه من العلم والمعرفة، لهذا السبب اهتمّت   بتنظيم حقوق وواجبات الحيوانات، والطيور المقيمة، وكان السمع والطاعة أساس بقاء هذه الحيوانات والطيور، وإلا كان ترك الوادي والنفي الى جهة مجهولة مصير من لم يطّع اوامرها. 

كانت امرأة الوادي  المقدّس  تأمل في  ان تلتقي من بين  ركاب القوافل برجل تاخذه زوجا ً لها يؤنسها في وحدتها، ولكنها لم تفلح بايجاد رجل من بني البشر يأسرها اويعجبها، لان الجهل والغباء كان يسيطر على ارجاء المعمورة في ذلك الوقت. 

الى ان التقت بهذا الكهل العجوز في الوادي يقرأ أوراق الأغصان التي تكتب عليها، ويقوم بجمعها، ويفرغ من جعبته وجيوبه كل مأكل او مشرب، ليحتفظ بأوراق الشجر. 

تعجّبت  من هذا العجوز كيف أدرك  مقاصد علمها،  وفهم  معاني كلماتها. 

لم تأبه كونه عتيا ً في العمر، بقدر ما لفت نظرها العلم الواصل اليه. 

فاجأت امرأة الوادي المقدَّس الرجل العجوز وهو يلمّلم  أوراق الأغصان ويقوم بتوضيبها، ونهرّته  بصوت عالٍ، ماذا تفعل هنا ؟؟
 وما هذا.. الذي تجمعه من أوراق أغصان ٍ متساقطة، ذابلة وضامرة. 

لم يقوى على إجابتها،
وانهارت قواه بعد ان تجمّعت حوله الوحوش الكاسرة، والحيوانات الضارية تزأر كل بصوتها، واختلطت الأصوات حتى قامت امرأة الوادي بزجر الحيوانات طالبة السكوت والخنوع والخشوع لها، فأمتثلت لها.

وراق الجو من الأصوات، وتقدمت نحو العجوز ...
تسأله من انت ؟
ولماذا انت هنا ؟
وطلبت اليه ان ينزع  حذائه، لانها ارض مقدّسة. 

بدأ الرجل العجوز، بالكلام بعد ان هوّنت عليه الجزع، والخوف الذي اصابه، وقّص عليها قصته حرفيا ً..
وسمحّت له ان يُكمل  جمع ما شاء من أوراق الشجر. 

وبينما العجوز منهمك في عمله، التفت حوله حتى يشكرها، ولكنه لم يجدها، فاختفت عن ناظريه، ودبّ الحزن على وجهه وأكمل جمع ما يراه مفيدا ً.

وقد لفت نظره انه التقط ورقة من الارض وقد كتبت  له هذه المرأة  على احداها ان ينتظر رسالة تخبره من هي. 

عندما رجع العجوز الى دياره، لم يكن يعلم ان سحر هذه المرأة قد اخذه بعيدا ً
وبدأ يتحّسر على ايام الشباب، ولاحظ ان عقله وقلبه انتقل فجاة من التي كان يبحث عنها طوال سني عمره  الى هذه المرأة. 

وبينما هو في غربته ينتظر الطائر الميمون كعادته كل يوم، يحمل له قصقوصة ورقية تحكي له امرأة الوادي المقدس أخبارها واحوال رعيتها،  إستلم  يوما ً.. قصقوصة ً  حملها له طائر الهدهد تقول له فيها :

إنّ  غيابك عني هذه السنه قد آلمني. 

والشوق إليك يزيد من أحزاني. 

والنوم غاب  عن اجفاني. 

وحبك هو كل  أحلامي. 

عُد إليَّ، لان وجهك ما زال في خيالي. 

وغيرك، لا يفهمني ولا يقرأ اوراقي. 

بعد ان قام الرجل العجوز بقراءة هذه الرسالة، اعتّرته  الدهشة، ولم يصدّق عيناه ان هذه المرأة فائقة الجمال، تكتب اليه هذا الكلام، وبدأ بالتفكير المضني والقاتل كيف له ان يذهب اليها، وقد طلب من الطيور المهاجرة عدم التوقُف في هجرتها. 

فضلا عن ذلك، ان صحته تدهّورت،  وساء حاله وبدأ يعّد أيامه المعدودات وقد غلبت حياته  التعاسة، ونهش قلبه الندامة، وسطّرت  احزان الكون في وجهه شقوقا ً لا تمحى، منها الندم على حبيبته الاولى، ومنها الشيخوخة التي لا تخوّله قضاء بقية عمره مع شابة في مقتبل عمرها.  

اما امرأة الوادي المقدس ، تضايقت لان الهدهد تأخر في العودة، ولم تعد ترتل كل شروق شمس، أغنياتها الرقيقة، وصوتها الشجي الذي يملئ الوادي سحراً وخشوعا ً حيث كانت الطيور تسجد لرقته ، وتتوقف زقرقة  العصافير لان صوتها كان سيد الأصوات. 

تاتِي الطيور لتغني معها، تمنعهم. 

تحاول الوحوش المفترسة، التودد اليها تزجرهم. 

الى ان طلبت من الجميع ان يتركها. 

جلست على حافة جرداء ملساء تنظر نحو الأفق، حيث بان لها الهدهد فانقشعت اساريرها وأرخت ابتسامة تميل الى الانشراح والحبور، وشهقت شهقة عودة الروح، وبسطت يدها لاستقبال الهدهد الذي ما كاد يستقر حتى بدأ بتقبيل يدها وخدّها وكل ما سمحت له بان يفعل.

وقالت توقف. 
 اخبرني عنه. 

لم يكن الهدهد سعيدا، لانها منعته من إظهار حبه وطلبت اليه ان يخبرها عنه، فدّبت  الغيرة بالطائر المسكين المتعب من الطيران والتحليق.

فسجد لها وبدأ.. يخبرها. 

لما وصلت اليه، أعطيته القصقوصة، قرأها مرتين ثم تناول صندوقا ً خشبيا ً مرصّعا ً بالجواهر الثمينة من ثلاث جهات ووضع القصقوصة داخل الصندوق. 

ثمّ سألته. 
 ماذا قال لما قرأها ؟

أجابها الهدهد، كان حزينا ً محبطاً الهمّ ينهشه والكآبة تنخر وجهه، ونزلت من مقلتيه دمعتين روت الارض وكان الشيب يغرس أنيابه في رأسه وقد تقوسّ ظهره وبان عليه التعب والضمور. 

قالت للهدهد ... 
كفى .. كفى  .. يا هذا. 

وانهالت الدموع مدرارا ً من عينيها تسقي  الوادي سقياً غير ذي قبل ، فقدمت الطيور تواسيها ولم ينقطع بكاؤها وحزنها الا بعد ان اخبرها الهدهد قصة الصندوق المرّصع. 

قال الهدهد ...
 سألته عن الصندوق المرّصع، ولماذا يحتفظ بكل قصاقيص الورق التي ترسليها له. 

أجابني، الرجل العجوز ان هذه الأوراق تحتوي على كنوز وجواهر، فيها العلم المكنون في صدور الآلهة وقد التقطها من الوادي المقدس وانا أنهل منها ما لذّ وطاب لي من معرفة أتوق لان ادرك مقاصدها،  ومعانيها. 


ولما بدأ الهدهد الكلام عن الصندوق الخشبي المرصع بالجواهر، انقشعت غيمة سوداء كانت تلف الوادي، وتوّقفت  الرياح العاتية، وساد السكون وسجّدت  الطيور وعبق الوادي بروائح الزهور وبانت روائع رسومات الحواري على مداخل الوادي وعكست أشعة الشمس اقواس من قُزح الألوان. 

اما هي ابتسمت، وكأن الشمس والقمر والنجوم أُخلي سبيلهم  فتعطّر الجوّ برائحة فمها، وقالت بحنان ما بعده حنان، ومدّت يدها برفق ما بعده رفق الى وجه الهدهد، واسقته من ريق عسلها حتى يحلو في تغريداته ويمضي دون ان ينسى. 

وقالت له، تعالى يا حبيبي. 

وضمته اليها قائلة ان حواسي معك، أخبرني ما قصة هذا الصندوق. 

قال لها :

أمر هذا الصندوق عجيب، غريب مرصّع من ثلاث جهات لم ارى في حياتي جواهر او احجارٍ كريمة تضاهيها، حتى اني لم أر ٓ في الوادي، مثيلا ً لها. 

لمّا سألته، 
قال لي :

هذا الصندوق كان هديتي الى التي ابحث عنها منذ عقود،  لما افترقنا أبّت ان تأخذه معها، وقالت خُذه معك، لتتذكرني.

 ومنذ ذلك الوقت،
 وفي كل يوم على فراقنا أضع حجرة ثمينة حتى أُحصي الأيام التي غابت عني. 

لمّا سألته أيضاً عن سبب عدم إكمال الجهة الرابعة :

أجابني، انه توقف عندما التقى بك يا سيدتي وأصبح بدل الجواهر والأحجار يحتفظ برسائلك التي ارميها له كل يوم. 

ضحكت وقالت إذن،

احبني وانه نسي التي يبحث عنها، وأني اذا ذهبت اليه يستقبلني ويحبني كما أحببته انا منذ ان التقيت به هنا. 
أجابها الهدهد :

كلا يا سيدتي انه كاد ان يحّبك ويقع صريع غرامك، لولا قصقوصة حملتها اليه من  الوادي ، اخافته، وأرعبته ودّب الذعر في كيانه. 

انتفضت من مكانها وصرخت، ما هي القصقوصة ؟ 
التي خاف منها ؟؟

تغيّر الجو،  
وتلبّدت الغيوم.
وغابت الشمس.
وهربت الطيور.
وجفلت الوحوش.
وأمسكت بالهدهد، وزجرته وكادت ان تقتله. 

هل  أخدت قصقوصة غير التي أعطيك إياها كل يوم ؟؟

اجاب وهو يرتجف خوفا ً ...

نعم يا سيدتي. 

أطلقت امرأة الوادي المقدَّس  تراتيلا ً ذي مقام حزين.
فانسحبت مياه الأنهار الى منابعها. 

وعادت الطيور الى أعشاشها. 

وخلد ملك الأسود الى عرينه. 

وعادت الشمس من حيث  أشرقت. 

ولم يبق أمامها الا الهدهد. 

نظرت اليه واضاءت الوادي. 

بعين فيها انتقام.
وعين اخرى، فيها آسى، وحزن عميقين. 

انه الهدهد ...
 حبيب قلبها ...

ورفيق دربها. 

وكاتم أسرارها.

 وكليمها منذ الصغر بعد ان تركها أهلها. 

وقالت بغضب واضح. 

ماذا أعطّيته  ؟

أيةٌ قصقوصة ؟

أجابها الهدهد، والخوف يلف كيانه. 

أعطّيته القصقوصة، التي كتبها والدك لما ترك الوادي وفيها يقول  انه رجل سماوي، تزّوج من امرأة بشرية التي هي أمك، وإنها قد هلكت من الحزن بعد رحيله الى السماء  فور ولادتك. 

وأعطّيته قصقوصة ثانية، التي فيها ان أسراب طيور الهدهد، هي التي قدّمت لك الغذاء والحماية والرعاية. 

وأعطّيته  قصقوصة ثالثة،  التي فيها انك تمقتين وتكرهين الرجال بسبب ما فعله والدك السماوي بان هجر والدتك وهي في ريعان الشباب. 

وأعطّيته  قصقوصة رابعة،  التي فيها اسماء الرجال الذين تقضين وطرّك  منهم، ومن ثم تعدميهم. 

وسألته امرأة الوادي المقدَّس ...
لماذا ... 
ولماذا .... 
ولماذا قمت بهذا ؟

استشاطت امرأة الوادي المقّدس، غضبا ً من هذا التصرف الارعن الذي قام به الهدهد، واعتبرت ان الخيانه فعل عظيم، ومن الكبائر التي لا يمكن السكوت عنها او التستر عليها، لان انتظام حكمها على رعيتها لا يقوم الا على الولاء،  المطلق. 

ادركت امرأة الوادي المقّدس ان الذي كانت تبحث عنه،  ضاع بفعل خيانة الهدهد المقرّب اليها والى قلبها. 

عاشت لسنوات طويلة في هذا الوادي تبحث  ...
عن رفيق.
عن صديق. 
عن حبيب.  
عن زوج. 

ضاعت الأحلام التي بنتها. 

خابت الامال التي علقتها. 

بدا عليها الغضب،  والانتقام. 

وقرّرت،  محاكمة الهدهد. 




إستدعت ملك الأسود من عرينه. 

ونادت التنين من مغارته. 

وساقت قطعان الغزلان من مراعيها. 

وأشارت لسرب من الهدهد ان يغّط. 

وأعادت الشمس الى قرص السماء. 

وأمرت الأنهار ان تعود لتتوقف من ينابيعها. 

على يمينها جلس ملك الأسود. 

وعن يسارها وقف التنين. 

وأمرت الأسد...
 بزئرة بدء محاكمة الهدهد. 

فارتعدت الجبال.
 وتكاثرت بلبلة الأصداء. 

وزجرت التنين،  بان يقذف حممه. 

فاشتعل الوادي.

وأُضرمت النار في كل مكان. 

وقف الهدهد، يرتجف خوفاً .

تقدم سرب من الهدهد، والدموع تنهار من عيونهم، يطلبون العفو،  والمعذرة، والغفران. 

سألت الهدهد :

لماذا أعطيته القصقوصة التي فيها ان ابي رجل سماوي ؟

انا أريده ان يعلم اني من والد بشري وأم بشربة أيضاً ً، انت جعلته يهاب مني ويخاف من هيئتي. 

زئِر الأسد وما لبث الهدهد ان أُغشي عليه مدّت يدها وإعادت اليه توازنه. 

لماذا قلت له ان اسراباً من الهدهد قدمت لي الغذاء والحماية، والرعاية. 

هذا شأنكم يا أهل الوادي، بان تمدحوا أعمالكم وتجعلوا من قدمتم له خدمةً ان يكون عبدا ً لكم طيلة حياته. 

وصرخت امرأة الوادي بأعلى صوتها،
يا أهل الوادي ...

ليس عندكم نبتة العطاء. 

فالشمس من عندي تعطيكم النور طوال النهار. 

والقمر والنجوم، ينيران دروبكم بالليل. 

والأزهار من حقلي ان اعطتكم، لا تعطوها شيئا ً.

كل فعل، تأتوه تطلبون مردودا ً.

في القصقوصة الاولى. 
وفي القصقوصة الثانية. 

سأعفي عنك أيها الهدهد ...

 لان الوفاء يسري في عروقي، والغدر ليس من شيمتي، ونكران الجميل لست من أهله. 

انت أيها الهدهد رفيقي منذ الصبا. 

أفشيت سراً ، يمكنني ان اتجاوزه. 

تعالت تغريدات أسراب الهدهد فرحة ً وسجدوا لامرأة الوادي المقدّس.

وقالت لهم ان المحاكمة في القصقوصة الثالثة والرابعة ستبدأ غداً. 

وطلبت من ملك الأسود ان يزئر اعلاناً لرفع الجلسة. 

طلبت ان تخلد للراحة،
وان تبقى وحيدة. 

إعتادت ان يكون الهدهد معها كل ليلة يكلمّها، يناجيها يقصّ عليها، قصصا ً حتى تنام. 

هذه الليلة هي غير كل الليالي. 

منذ ان التقت ذلك الرجل الذي وطأ الوادي تعلقّت روحها بروحه وأقسمت ان تبطل عادتها في الانتقام لوالدتها بعد ان هجرها والدها الى السماء. 

لم تقض ِ وطّرها مع اي رجل من الوادي منذ ان التقت به. 

ان جذوة الإخلاص له جعلتها تتوقف عن عادة الانتقام. 

قلقها،  وعدم نومها حتى انبلاج الفجر، انهك قواها واتعبها وخارت قواها لان رياح الحنين للهدهد قضّت مضجعها، فنادت المنادي ان يأتوها بالهدهد. 

لما دخل عليها كان محبطاً مدركا المخاطر التي تنتظره. 

طلبت اليه ان يستمع اليها جيدا. 

ويجيب على أسئلتها. 

انت تعرف اني توقفت عن عادة الانتقام. 

وانت تعلم اني وقعت في غرامه وعشقه. 

أجابها ..
نعم. 
 
لماذا إذن. 

قال، اني ...
 
خائف عليك. 

وخائف عليه. 

خائف عليك، لانه رجلٌ. كهلٌ. مسنٌ. لا. يصلح لك. 

وخائف عليه، انه سيتوقف عن البحث عن حبيبته الاولى. 

انتفضت، وقالت له :

هل دبّت الغيرة في قلبك يا أيها الهدهد. 

هل تصرفك هذا يمنعني من الالتقاء به. 

هل تعتقد ان العمر يقف حاجزاً بيني وبينه. 

ان روحي تعلقت بروحه. 

وقد ارجع الى عادة الانتقام. 

اليك فرصة وحيدة. 

حتى لا تكون اول ضحايا الانتقام الرهيب. 

ارتعد الهدهد خوفاً  ...

وقالت له :

حتى غروب النهار، عليك ان تتدبر لي لقاءً سرياً معه .... 
وإلا  ...

استأذن الهدهد امرأة الوادي المقّدس بان يصطحب معه رفاقه للاجتماع بالرجل. 

رفضت هذا الطلب.

لان الاجتماع الذي تريده سرياً  قد تنتشر أخباره بالوادي. 

وقالت له ما زلت يا هدهدي كاتم أسراري. 

وكيف لي الوثوق برفاقك. 

وبناء ً ... لإصراره. 

قبلت ان يصطحب معه رفاقه شرط ان تضع عينها محل احدى عينيه حتى ترى كيف تسير الامور. 

 وتراقب رفاقه. 

لم يكد الهدهد ان وصل الى قومه حتى علّت الصّيحات ودبّت الفرحة وأقيمت حفلات الغناء، والرقص، والموسيقى. 

توقف الهدهد  ...

وقال لقومه :

ارتكبت في حياتي اخطاء عديدة. 

ولكن هذه أعظمها. 

في  إشارة الى المحاكمة. 

كانت امرأة الوادي تحاول افهامنا من خلال تصرفاتها، وعاداتها، أنّ علينا اتبّاع طقوس جديدة في حياتنا. 

كان سبب انتقامها من الرجال،

افهامنا بان لا نترك أولادنا صغاراً 
كما فعل والدها، لمّا رحل تاركاً والدتها مع طفلتها. 

كان وقف إعدامها للرجال أعلامنا،  بان العفو عند المقدرة هو الأسمى. 

كان عشقها لهذا الرجل دليلا على انه لا عوائق، او حواجز أمام الحب، وان الأعمار أن زادت لا تقف حجر عثرة امام جبروت الحب. 

وكان إصرارها ان أتدبّر لها لقاءً سرياً مع ذلك الرجل دليلا ً ساطعا ً على نيتها في بدء حياة مثل أهل الوادي ألمقدّس. 

من منكم على استعداد لمرافقتي لإقناع ذلك الرجل للقاء امرأة الوادي المقدّس. 

تطّوع عدد كبير من طيور الهدهد للذهاب معه.

 لان الامر يحتاج  الى حيلة ذكيه لإقناع  العجوز بان يأتي معهم الى الوادي المُقَدَّس.
 
لحق بركب الهدهد سرب ٌ من الحكماء. 

وكانت عين امرأة الوادي تحرس وتراقب. 

بقيت امرأة الوادي المقدَّس تراقب الهدهد ورفاقه.

وقد صممت ان أتى باي هفوة، او غلطة يرتكبها فإن صاعقة قد جهزّتها للقضاء عليه ورفاقه. 



لمّا حطَّ سرب الهدهد امام الرجل العجوز، أخذته الدهشة ولم يتمالك نفسه من إبداء الاستغراب لهذا العدد من طيور الهدهد. 

وبادره  السؤال. 
 
من صحبُك، أيها الهدهد. 

ومن أرسَلك. 

أجابه الهدهد.
 انهم وفد من علماء الوادي المقدس أتينا لمقابلتك. 

وان امرأة الوادي المقّدس هي  التي أرسلتنا. 

وهذه هي القصقوصة ، التي طلبت ان أقوم بتسليمها لك. 

كانت على غير عادة القصاقيص التي سبقت. 

بدءُ الاحرُفِ عطرٌ، ونهايتهُ سِحرٌ. 

فيه من الظاهر، والباطن ما يعجز عن فهمه إلا هو. 

احس برائحة العطر. 

 ونال منه السحر. 

أدرك باطن الكلام من ظاهره. 

رفض ان يحتفظ بها بالصندوق المُرصّع أسوة بالتي سبق واستلمها. 

نظر الى الهدهد ورفاقه. 

وقال :

قُل  لها لن يكون هناك لقاءً سرياً. 

بالرغم،  من انها قد هزّت كياني، ووقعت في شباكها، ولكني لست مستعدا للموت على يدها وفقا ، لطقوس أكل الدهر عليها،  وشرب. 

قُل  لها :

يكفيني انها تمكّنت  من ان أطوي صفحة الماضي بعد عقود من البحث عن حبيبتي. 

وَقُل  لها أيضاً :

 باني أقفلت الصندوق الخشبي المرّصع بكل القصاقيص التي استلمت. 

وقُل  لها أيضاً :
طال انتظاري لان ملاك الموت يحوم حولي. 

نظر اليه الهدهد ، وقد احمّرت احدى عيناه .. فخاف عليه الرجل وحاول ان يداويه. 

قال الهدهد :

 دّعك من هذا. 

معي وفد العلماء أتينا لنبلغك انها تبدّلت، وتغيرت. 
 
وقد  تركت هذه العادة.

 وأنها تطلب ،ودُّك وتأمل ان تلتقي معها، لتبث لك مشاعرها وحبها وتعلقها بك. 

أجابه الرجل :

أدركت ذلك من باطن النص، لا من ظاهره، وأنها توقّفت  عن قتل الرجال بعد ان تقضي وطّرها منهم. 

ولكني لست مستعداً لهذا اللقاء السري       

اني رجل عجوز، مثقل بهموم الدهر لا أقوى على السفر. 

أمرت الهدهد، من خلال عينها التي ترى وتراقب، ان يسأله اذا قدمت هي اليه هل يستقبلها. 

أجابه، كيف لي ان استقبلها وانا على باب القبر، وملاك الموت يحوم فوق راسي ..  إيذانا بالرحيل. 

قالت للهدهد ...

قل له :

سأقضي على ملاك الموت فوراً  ...

وعاجلته بشهب مضيئ  ...

 وأضرمت به، ناراً مشتعلة ...

وهدر صوته من الألم، وخيّم صراخه وعويله في المكان.

ثم ما لبث ان وقع صريعا في مكان بعيد. 
 
وقالت للهدهد :

قُل  له اني قادمة. 

قُل  له، اني مثل ابي امراة سماوية. 

قُل له، ان ينظر في عينك ليرى صورته الجديدة. 

وما ان تقدم الرجل العجوز  نحو الهدهد، حتى بدأ شكله يتغير، الى عمر اقل، الى ان اصبح في ريعان الشباب. 

لم يُصدَّق  الرجل ماذا حلّ به. 

رقص، من كثرة فرحه. 

وما لبثت، ان مرّت غيمة بيضاء كلون الثلج، غمرت المكان. 

وما لبث،  ان أينعت ثمار الأشجار في غير ميعادها. 

وما لبث،  ان غطّى المكان حشيش احمر. 

إيذاناً بقدوم زائر ٍ ....

وما لبث، ان نبتت زهور ورياحين متعددة الألوان والأشكال. 

وما لبث، ان عبق الجو برائحة البخور والعنبر. 

وانفلقت السماء. 

ونزلت امرأة الوادي المقدس من على صهوة حصان ابيض له جناحان. 

يرافقها،   نسرٌ وعقاب. 

وأمرا الجمع بالسجود. 

تمايلت امرأة الوادي المقدس وهي تسير، وتطاير الغنج والدلال منها. 

وأومأت بيدها للهدهد.
 ان يترك المكان وصحبه. 

تقدمت امراة الوادي المقدس نحو حبيبها. 

وكان بأجمل حلةٍ  ...

واذكى رائحةٍ ...

 وجسم ممتلئ ...

وتصافحا ...

وأذنت للشمس بالمغيب ...

وتبادلا القبل على ضوء القمر ...

واختلت به  ...

وبعد ان قضت وطّرها منه  ...

اصطحبته معها للوادي المقدس. 

حبيبا ...

رفيقا ...

 وزوجاً  .....



فيصل المصري 

اورلاندو / فلوريدا

تموز ٢٠١٤
الحقوق الأدبية محفوظة لدى ولاية فلوريدا.  

0 comments:

Blogger Template By: Bloggertheme9