الفصل الثالث والأخير من رواية :
الجِسْر وحوريَّة النهر.
بعد سماعه كلام الجِسْر ...
سقط جاثماً باكياً حزيناً مهموماً ...
أين منه والفراق ...
الموت أصبح مرامه وهيامه ومُبتغاه ...
القبر أدنى إليه مِن فِراق حبيبة العمر .... حوريَّة النهر.
وقبل أن يترك ألجِسْر ...
انتابه الذهول والهلع والخوف والإحباط ...
وأحسَّ بهول الخسارة وهو يودِّع حوريَّة النهر ...
اكتفى وبكل قناعة وإيمان ورجولة ...
أنَّ القدر هو نصيبه ...
وقد إعتاد على مظالم القدر ...
واجتاحه شعور غريب وكأنَّه برداً وسلاماً ...
أنَّ حوريّة النهر تُبادله ذات الشعور ...
وأنَّه يحمل في يدِه هديَّة من صديقه الجِسْر لا يدري ما قيمتها ...
أمَّا الحوريَّة وهي تودِّع حبيبها وجفناها تُطبقان كستارة إيذاناً بانتهاء قصة حُب أُسطوريَّة ...
قالت له :
إلى اللقاء ...
يا حبيب العُمر ...
أجابها والغصِّة تقتله :
آن الرحيل ...
آن الرحيل ...
العيش من دونك في هذه البلاد، جَهَنَّم وعذاب ...
قالت له ...
لا تتركني ...
لا تتركني ... وحيدة.
استغرب وتعجَّب الرجل العجوز من قولها، وهو يلِّوح مُغادراً ...
استحسن الجِسْر فروسيَّة الرجل البشري وشهامته...
واحترم رِفعة شأنه وتصرُّفه النبيل وهو يقبل هذه النهاية الحزينة والمؤلمة ...
وبِطلِّب من حوريَّة النهر وهي تشهق بالبكاء ...
أمر الجِسْر ...
قطعان الغزلان والبط والأرانب والطيور والأحصنة الوقوف صفاً واحداً لوداع الرجل البشري الشريف ...
كذلك طلب الجِسْر ...
من أغصان الأشجار أن تنحني إحتراماً لصديقة البشري ...
ومن قُضبان القصب أن تصدر ألحاناً حزينة ...
ومن النهر أن ينفخ غِناءً كنائسياً ...
صعقّه ما شاهدَ ...
وبهره ما رأت عيناه من التكريم والتبجيل ...
قفِل عائداً إلى منزله مطأطأ الرأس، يتكئُ على عِكاز من خشب الأبنوس أهدته إليه الحوريَّة مُطرَّزاً ومُرصَّعاً بأجوَد الأحجار الكريمة ...
لم يطق العيش في تلك البلاد ...
قرَّر العودة إلى موطنه ... في مشرق الأرض .
فركِب البحور السبعة، قاصداً بلاد أهله ...
تاركاً حبيبة عمره خلف هذه البحور ...
ذاق العذاب المّر وقٓبِل الهوان وعاش الحرمان ...
وكانت نوبات حُبِّه للحوريَّة تقضُّ مضجعه ...
بدا هزيلاً مكموداً مهموماً حزيناً ...
فاستسلم لنوم عميق لم يعهده منذ سنوات ...
ثمَّ ما لَبِث أن صحا على صوت الجِسْر ...
قُمْ إلى هديَّتي وافتحها ...
قُمْ الى هديَّتي وافتحها ...
هبَّ كالمجنون مُتسائلاً عن الصوت ومصدره !
إنَّه حِلْم مُزعج ...
أقنع نفسه بأنَّه يهذي في نومه ...
وعاد إلى فراشه لينام ...
ولكنَّه نهض مذعوراً من سريره على صوت الجِسْر يُناديه ...
قُمْ إلى هديتي ...
قُمْ إلى هديتي ...
قام مُسرِعاً وبدأ يبحَث عن هدية الجِسْر ...
وما أن وجدها حتى نفخ الغُبار عنها ومزَّق غِلافها ...
وإذ بالهدية عبارة عن نافذة ...
بدت النافذة يُحيطُها إطار من الذهب الخالص مُرصَّع بأثمَن الأحجار الكريمة كالزمُرُّد والياقوت والعقيق والفيروز والتوباز واللازورد والزبرجد واللؤلؤ والأُلماس ...
كانت النافذة مُقفلَة بإحكام بواسطة مِفتاحٍ قديم من الفضَّة على شكل حوريَّة ...
وما إن فتح شِبَّاك النافذة حتى هبَّت رِيَاح عاتية شديدَة، ثمَّ خَفُتت، وأحسَّ وسمع صوت الريح يحمِل الحنين والنسيم الرقيق ...
بسط ناظريه من خلال النافذة ...
رأى ما لم يرَه مخلوق ...
شاهد ما لم يُشاهدْه إنسان ...
أمره الجِسْر بأن يفتح النافذة على مصراعيها ويبسط ناظريه ...
وعندما فعل ما طُلب منه …
حتى شعر بأن بساطاً يحمله ويطير به فوق بحور وجبال ووديان ...
قطع البحور السبعَة بلمح البصر...
وكأنَّه على بساط الريح ...
مرَّ فوق الوديان والبرارِي والبحار ...
وما إن وصل فوق الجِسْر في المقلب الآخر من الأرض …
حتى لمح حوريَّة النهر تُمارس طقوسها اليوميَّة ...
نظرَّت إليه والابتسامة تعلو ثغرها ...
أوقفَّت طقوسها ونادت :
يا حبيب العُمر ...
كم تمنيت ورجوَّت ودعوَت أن أراكَ ثانية ...
وأنتَ أبعدُ من السبعة بُحور ...
وأجابها ...
وكٓمْ تمنيت أنا أن أراكِ ...
بيني وبينك سبعة بُحور ...
أن يكون لي نافذة ...
حتى أراكِ ...
وأنتِ تبتسمين ...
إيذاناً للشمس بالشروق ...
وأنتِ تغمضين جِفنيكِ ...
أمراً ...
للشمس بالمغيب ...
وكان لقاء الأحبَّة كما أراده الجِسْر ...
وأشرقت الشمس إيذاناً بيوم جديد.
وغداً يومٌ أخر .
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
إنتهَّت قِصَّة الجِسْر وحوريِّة النهر ...
0 comments: