الجِسْر وحوريَّة النهر.
قصة قصيرة.
تأليف فيصل المصري.
إهداء إلى كل مَنْ تجاوز سن التقاعد.
الفصل الأول :
قِصَّة قصيرة، من واقع الحياة.
فيها من اليأس، والأمل.
فيها من الشيخوخة، والشباب.
فيها من الجحود، والوفاء.
فيها من الحب، والخيانة.
وفيها من يباس العمر القاتل.
وفيها أُمور أُخرى.
كان يأتي الى الجِسْر كل يوم ...
بعد أن تقدَّم بالعمر عتياً ...
وبعد أن تقوَّص ظهره، وغزا الشيب مفرقه ...
وبعد أن أمسَت الوحدة أنيسته لا تفارقه ...
كان يسير كل يوم مع إشراقة شمس الصباح على ضفاف نهر قرب منزله ...
وكان يستريح إن تعِبَ على ضفة النهر قُبالَة جِسْر قديم ...
يسندُ وجههُ على راحة ِ كفَّيه متأملاً، سارحاً ...
الهمّ يكاد أن يَقْتُله ...
والحُزنُ يكاد أن يَعْصُرَه ...
والألَم يكاد أن ينخره ...
ملَّ الحياة ...
وأوجعته الخيبات ...
وأنهكته الخيانات ...
يستعجل الرحيل ...
ويُردِّد بأعلى صوته ...
آن الرحيل ...
آن الرحيل ...
تكرر هذا المشهد اليومي الحزين أمام الجِسْر إلى أن
وذات مرَّة فاجأه الجِسْر وخاطبه بكلام بشري ...
إنتفض مذعوراً من صوتٍ صادر من جِسْر قديم.
تلفَّت يُمنة ويُسرة وعلَت قسمات وجهه دهشة واستغراب. كأن لوثةً قد حَلَّت في عقله.
تسمَّر في مكانه لا يدري ماذا يفعل، يسكنه الارتباك والقلق.
عاد الجِسر وصرخ فيه بنبرة قاسية غاضبة :
توَّقف يا هذا ...
توَّقف يا هذا ...
أوقِف هذا النحيب والاحباط والتشاؤم ...
ردَّدت الوديان صدى صوت الجسر مرَّات ومرَّات وتابع حديثه آمراً :
إغرُف من ماء النهر ...
وإغسِل وجهكَ …
وإمسِح عرقك …
وإمشي.
وإمشي.
لم يحِن مِيعادُكَ بعد …
لم يحِن مِيعادُكَ بعد …
أنهى الجِسْر موعظته الغاضبة والشديدة اللهجَة وتابعت من بعده تردِّد صوته الوديان وتهتزُّ له الأرجاء ...
ساد صمتٌ رهيب لم يقطعه إلا ما حصل ما لم يكن بالحسبان ...
وقف مشدوهاً مذهولاً على ضفة النهر لا حِراك فيه ...
نظر إلى النهر فإذ بالماء تنحسر وتغيب وتتوقَّف عن الخرير.
مسحَ عينيه لعلَّ غشاوة ما حجبت ناظريه، لكنَّ الوضع لم يتبدَّل ولَم يرَ شيئاً جديداً. أشاح نظره عن النهر ثمَّ عاد وفرك عينيه من جديد متأمِّلاً النهر لكن دون جدوى.
المشهد هو ذاته.
انحبست المياه واختفت فجأة ...
ليس النهر واختفائه هو كل ما رأته عيناه في تلك اللحظات التي مرَّت وكأنَّها يوم القيامة.
أشاح وجهه عن النهر ونظر الى الجبال المحيطة به فإذا بها تكسوها الثلوج وتغطيها من كلِّ حدبٍ وصوب.
تذكَّر أنَّ المطر في الليلة الماضية، كان كثيراً ومنهمِراً بغزارة.
تملَّكته الحيرة وأخذته الرهبة يفكِّر في أمر هذا النهر !
كيف توقَّف عن الجريان.
أصابه الخوف، وانتابه شعور غريب، وتوجَّس خِفية من حدوث ظاهرة غير طبيعية، في المكان.
آثر الرجوع الى منزله ...
وبينما كان يهمُّ في العودة حزيناً كئيباً لإختفاء النهر، سمع صوتاً مِن بعيد يُناديه :
إنَّه الجِسْر مُجدّداً...
يقول له :
عُدْ إلى هنا !
لا تذهب !
وكيف تذهب !
ألا تريد أن تعرف سبب انحسار مياه النهر وتوقُّف جريانه ؟
أجاب العجوز بصوتٍ أجش والخوف يتملَّكه والحزن يقبض على روحه، فقال له :
نعم أُريد أن أعرف السبب !
أجابه الجِسْر :
إنَّه مِثْلُكَ ...
يُعاني ....
يُقاسي ....
ويتحمَّل ...
خيبات وجحود وقلَّة الوفاء ....
مياهه تصُّب في البحر ...
سُدوده تروي أراضٍ بغير ذي زرع ...
توَّقف وانحبست مياهُه ....
مِثْلكَ أنت.
مِثْلُكَ أنت.
عاد الصدى يتردَّد في الوديان وعادت الأرجاء تهتزّ مُنذرةً بتصدُّع البُنيان !
قال العجوز للجِسْر مُتعجباً يعتصره الحزن، مُنهكاً لا يقوى على الحراك.
إنِّي مُتعب ولا أقوى على انحباس مياه النهر، واستميحك عذراً بالعودة لمنزلي فأنا لم أعُد أحتمل ما تراه عيناي.
أجابه الجِسْر :
حسناً إذهب الآن، لكن عِدني أن تعود غداً.
عُدْ غداً ...
عُدْ غداً ...
هناك مفاجأة بانتظارك ...
وعاد الصوت يردِّد صداه !
تملَّكت الحيرة العجوز بعد هذه المحادثة مع الجِسْر، واحتار في مسالة العودة والسير على ضفاف النهر.
بدأت الأفكار تتجاذبه والهموم تنتابه.
ندب حظَّه السيئ الذي ما انفكَّ يلاقيه وينتظره ...
انحبست مياه النهر في ذلك النهار، وعاد العجوز أدراجه إلى منزله، لكن الذي لم يكن يتوقَّعه وأذهله ولَم يكن بالحسبان وهو يهمُّ بالعودة، ...
أنَّ أسراب الطيور ملأت فضاء السماء ترافقه، وُقِطعان الغزلان والبط والأرانب تسير جنباً إلى جنب معه ...
أثارته الدهشة ممَّا يجري، فتوقَّف مُجدَّداً يُلقي نظرة الوداع على الجِسْر والنهر، تملَّكه التعجُّب مرَّة أخرى.
كلَّ شيئ غريب والدنيا لم تعد كما كانت، انقلبت رأساً على عقب.
لَمْ يَعُد يرى أي طيرٍ يطير …
أو حشرةٍ زاحفةٍ ...
ولم يَعُد يسمع ...
نقيق الضفادع ...
ولا ضغيب الأرانب ...
ولا سليل الغزلان ...
ولا مأمأة الخرفان ...
ولا ثُغاء الماعز ...
ولا فحيح الافاعي ...
ولا صهيل الأحصنة ...
ولا نِباح الكلاب ...
ولا خفوق الطيور ...
ولا زقزقة العصافير ...
ولا دندنة البعوض ...
ولا وغي النحل ...
ولا نقّ العقارب ...
ولا صرير الجُندُب ...
كلُّها اختفت …
توقَّفت الحياة عن الدوران في ذلك النهار بعد انحباس مياه النهر.
انقطع عن زيارة الجِسْر والسير على ضفاف النهر لأيام عِدَّة.
ولكنَّ الحنين الى الجِسْر عاد ليجتاح تفكيره، وهو الرجل العجوز الذي فارقه الخِلاَّن والاصحاب ...
لم يُكلِّمه أي أحد سوى هذا الجِسْر المُعلَّق فوق النهر، بعد رَحِيل عائلته وأولاده عنه ...
لم يتأخَّر في اتخاذ القرار فحزم أمره وقرَّر معاودة زياراته إلى صديقه الجديد ذلك الجِسْر، كليمه وأنيسه ومُبدِّد حدته.
استفاق فجر ذلك الصباح الذي قرَّر فيه العودة إلى الجِسْر والنهر مصعُوقاً حيث سمع عن بُعْد أصواتاً تَصدُر عن الجِسْر.
صوت أغصان الشجر وهو يُصدر صفيقاً ...
صوت أوراق الشجر وهو يُصدر حفيفاً ...
صوت العشب اليابس وهي يُصدر هزيزاً …
صوت القصب وهو يُصدر غِناءً …
وصوت الصباح وهو يُنشد ألحاناً مُفرحة ...
استعجل القدوم للجِسْر صعقه ما شاهده، وبهره ما رأت عيناه ...
إنهَّ ماء النهر يتدفق خريراً ...
إنَّه الجِسْر يقهقهه عالياً ...
قال للجِسْر ...
ما بك ٓ يا صديقي الجديد ...
في الأمس كنتَ غاضباً واليوم تضحك فرحاً !
أجابه الجِسْر:
نعم كنت غاضباً على انحباس ماء النهر ...
وكنت غاضباً منك بالذات على تشاؤمك ...
كنت أبكي مع حوريَّة النهر ...
أجاب العجوز والدهشة تعلو مُحيَّاه :
ماذا ؟؟؟
حوريَّة النهر !!!
هل توجد في النهر حوريَّة ...
لم أُشاهد طوال حياتي ولَم أسمع بالرغم من تقدُّمي بالسن بأنَّ الحواري تسكن الأنهار، فكيف لها أن تأتي إلى هذا النهر وكيف تنتقل من شواطئ البحار إلى ضفاف الأنهر، بالله عليك أفهمني !.
أجابه الجِسْر مُبتسماً ...
نعم، ثمّّ نعم، ثمَّ نعم ...
لهذا النهر حوريّة جميلة، عندما انحبست مياه النهر حَزِنت، وحزِنْت أنا معها ...
أصابنا البكاء وانهمرت دموعنا حتى فاضت ضفَّتيه من تلك الدُموع.
وها هو الآن يتدفَّق.
يتدفَّق.
وسيتدفَّق.
وبدأ الجِسْر يتكلَّم ويتكلَّم فَرِحاً وسعيداً ...
وقال له :
يبدو أنَّ وضعنا متشابه، ومُتماثل، أنت أصبحت كبيراً في العمر وقد غزا الشيب مفرقك، وأنا اصبحت جِسْراً قديماً هزيلا ً مُعلَّقاً بين الأرض والسماء آيلاً للسقوط.
تابع الجِسْر حديثه للرجل العجوز :
سأخبرك كل يوم قِصَّة، شرط أن تعدني وعداً قاطعاً ...
أجابه العجوز :
ما هو.
قال له الجِسْر :
أن تأتي كل صباح وكل يوم إلى هنا !
أجابه العجوز :
هذا أسهل شرطٍ اشترطه عليَّ أحد.
ولكن لماذا أيُّها الجِسْر هذا الإصرار وهذا الإلحاح الذي لم أَجِد له تفسيراً بعد !
قال ...
عندما عجزت ودخلت في العمر عتيّاً، أحسست نفسي عاجزة لا تقوى على شيئ.
شعرت أنَّ المارَّة ينفضُّون عنِّي ويغربون وجوههم عني إلى أماكن أُخرى، ولا يكترثون لحالي ...
هذا بعد أن كنت :
أسمعُ همومهم ...
أفرحُ لقصصهم ...
أتحمَّلُ أكاذيبهم ...
وقد :
مللت من زيفهم ...
وتغاضيت عن كيدهم ...
وعفوت عن ذنبهم ...
فأتكأت جانباً حزيناً مهموماً ...
سمع العجوز بتأنٍّ وإنصات للجسر وقال له :
هذه هي طبيعة البشر الذين مَرُّوا عليك ...
وهذا ما أشكوه أنا ايضاً ...
لا تٓعْتب ... ولا ... تيأسْ ...
فأنا أصبحت أراك مصدر إلهامي، وآمالي وبهجة أحلامي
وساعة راحتي ...
بعد أن نهرتني ذاك اليوم، وطلبت منِّي أن أتوقَّف عن التشاؤم ودُعاء الرحيل، أخذت بنصيحتك وخضعت لمشورتك وقبلت رأيك ...
واعتبرتك صديقي وكليمي ومخبأ سِرّي ...
وقرَّرت العودة والسير على ضفاف النهر حتى ألقاك كل صباح.
أجابه الجِسْر والسرور والسعادة والبهجة تعِمُّ المكان :
أهلاً بك صديقاً صدوقاً ...
غداً ألقاك يا صديقي.
أجابه العجوز ...
إنَّ غداً لناظره قريب … غداً ألقاك ..
لأنَّه يومٌ آخر ...
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا.
٣ كانون الثاني ٢٠٢١م.
الفصل الأول من رواية :
الجِسْر وحوريَّة النهر.
0 comments: