الجزء الخامس :
الفصل السابع عشر.
الزواج عندي الآن هو أن أُوَّمن لك وريثاً من بعدي ...
هذا ما قالته الدكتورة كريستل لوالدها ودخلت غرفتها وأجهشت بالبكاء.
لم تعد تحتمل كريستل أعباء الحياة، تُصارع وحيدة الضربة تلو الأُخرى. لكن يبقى موت شقيقها الوحيد خلال حادث سير مروِّع على طريق ساحل النورماندي، الضربة الأقصى التي تلقَّتها في حياتها وأنهكت قواها وبقيت طوال حياتها ترزح تحت وطأتها حيث اعتبرت نفسها المسؤولة عن تلك الحادثة.
انقطاع أخبار حبيبها مستر واو وبُعدها عنه أحدث فراغاً عاطفياً لدى كريستل التي أرادت أن تملأه من خلال الانخراط في الأنشطة الاجتماعية، حيث كانت التحرُّكات الطلابيَّة في جامعة السوربون حيث تدرس الحقوق، وفِي الجامعات الأُخرى في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تشهد نشاطاً مُتزايداً، كان يؤدي في بعض الأحيان إلى اصطدامات مع الشرطة.
لكن بالرغم من ذلك لم تكن كريستل تُلبِّي أي دعوة من الدعوات التي كانت تنهمر عليها بكثرة، فغياب حبيبها ( مستر واو ) والفراغ الذي أحدثه لم يستطع أحد أن يملأه، لذلك أدارت وجهها باتجاه الجمعيَّات المدنيَّة وانخرطت فيها، وشيئاً فشيئاً زاد شغفها بالدور التطوُّعي وتنامى دورها في هذه الجمعيَّات، حتى باتت محط أنظار الجميع.
العمل في الحقل التطوُّعي والجمعيَّات المدنيَّة أعادها بالذاكرة إلى ( مستر واو ) الذي كان يشبِّهها دائما ويُطلق عليها ( مدام همرشولد ) وذلك بسبب قُدرتها الفائقة في حل مشاكل زملائها وتدوير الزوايا أثناء خلافات الطلاب.
همرشولد هذا كان أميناً عاماً سابقاً للأُمم المتحدة، وقد أُشتهر بدبلوماسيته وقدرته على فضِّ النزاعات.
لقب مدام همرشولد عندما يُناديها به حبيبها كان يُضحك كريستل كثيراً، ولإغاظته واحراجه ومن باب التدلُّل والغنج والعشق كانت تسأله من تُحِّب أكثر …
كريستل أم مدام همرشولد.
فيُجيبها : كريستل همرشولد …
فتضحك ( وتحرد ) ليجيبها بأنَّها الوحيدة التي تتربَّع على عرش قلبه، فتتنفس الصعداء.
لم تفعل كريستل شيئاً في فرنسا ألَّا وله دلالات في علم الأرقام يشير في مضمونه إلى حبيبها ووالدتها المتوفاة !
ذاع صيت كريستل في أواخر سنوات الدراسة في كليَّة الحقوق في أروقة السوربون ولمع إسمها خصوصاً في المجال التطوُّعي الطلابي والهيئات والجمعيَّات المدنيَّة، فهي الثريَّة والذكيَّة والقديرة ذات الأخلاق الرفيعة والصيت الحسن.
استدعاها عميد الجامعة وأخبرها أنَّ شهري أيار وحزيران من هذه السنة سيكونا مُختلفين، حيث ستُقام حفلات وطنيَّة في النورماندي بمناسبة ذكرى الإنزال البحري للحلفاء وتحرير فرنسا من النازيَّة في نهاية الحرب العالمية الثانية.
تابع عميد الجامعة موجِّهاً حديثه لكريستل إنَّ رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس وزراء إنكلترا سيكونان من بين الحضور، وقد طلبت الحكومة الفرنسية من جامعة السوربون القيام بالتحضيرات اللازمة والمشاركة في الحفل من خلال إلقاء الضوء على المعاهدات القانونيَّة التى تلت هذا الاجتياح، وأنَّ إدارة الجامعة اختارتك على رأس فريق من طلاب الحقوق يُشرف عليه الدكتور جاك .......
فرحت كريستل كثيراً ولكنَّها اشترطت أن يكون اللقاء الأوَّل لها في النورماندي يوم ٢٥ أيار.
لم يفهم الدكتور جاك ،،،،،، السبب في تحديد هذا اليوم.
لكن رضخ لطلب كريستل وتواعد الفريق أن يكون التئام اللقاء الأوَّل لهذا الفريق في اليوم الذي قرَّرته كريستل.
وصل شقيق كريستل لتوِّه من بيروت، وما إن وصل حتى أهداه والده على المطار سيارة جديدة، إختارت كريستل اللون الأحمر الذي تُحبه كثيراً ولا تفضِّل لوناً آخر عليه، وتختاره حتى في تلوين أظفارها.
قالت كريستل لشقيقها، بعد غد في ٢٥ أيار سنذهب إلى النورماندي في سيارتك الجديدة، أنت تمضي إجازتك هناك على الشاطئ اللازورّدي وأنا أنهي عملي.
سجَّلت كريستل نجاحاً باهراً، فلم تترك معاهدة دولية إلَّا وذكرتها، بحيث نالت اعجاب الجميع.
غالباً ما كانت كريستل تخوض نقاشات صاخبة مع الدكتور جاك وتغمز دائماً من قناة دور فرنسا في إنهاء انتدابها لوطنها لبنان، وتُقارنه مع دور الولايات المتحدة الأميركية بعد إنزال النورماندي.
كانت تقول جِهاراً وعلناً أنَّ فرنسا تركت لبنان بعد انتهاء انتدابها يتخبَّط بالمشاكل، بينما أميركا بعد إنزال النورماندي، جعل من فرنسا دولة عُظمى.
سِعة إطلاعها وثقافتها الواسعة كانا السبب في لفت نظر الجميع إليها، على رأسهم زُملاؤها الذين كانوا يكنُّون لها واسع الاحترام والتقدير خاصة رئيس الفريق.
لكن بالرغم من تلك النجاحات، لم تكن نار الشوق تخبو داخلها حين تجتاحها الذكريات والأيام ( الملاح ) لدرجة أنَّها أصبحت تؤمن وتعتقد بأنَّ أي مكروه يحدث لها، هو بسبب عدم وقوفها إلى جانب حبيبها مستر واو، وأكثر ما يُشعرها بعقدة الذنب هي تلك اللحظة التي لم تواجه فيها والدها يوم وجَّه كلامه القاسي لحبيبها.
العودَّة إلى تلك اللحظات القاسية كان يزيد كريستل ألماً وغضباً،
حيث كانت تناجي ربُّها دائماً كيف لم يمنحها القوَّة لكي تتدخَّل
وتدافع عن حبيب العمر مستر واو بدل أن تتركه وحيداً يُقاسي ويُعاني.
خلال أحد إجتماعات النورماندي وقبل حفل الافتتاح وقعت الفاجعة الكبرى، وما لم يكن بالحسبان.
مات شقيق كريستل في حادث سير مروِّع على الشاطئ الذي كان لازوردياً لكنه تحوَّل إلى أسود عشيَّة ذلك النهار المشؤوم.
إلتفَّ الجميع حول كريستل، زملاؤها والمشرف على الفريق وإدارة جامعة السوربون، التي طلبت من الحكومة الفرنسية إنهاء التحقيق بأقصى سرعة ممكنة.
كل ذلك ارضاءً لحُزن كريستل …
وتخفيفاً لشجون كريستل …
عادت كريستل إلى باريس برفقة جُثمان شقيقها الوحيد.
وبزغ في حياتها فجر العذاب والألم والقهر.
وخيَّم عليها خريف الأحزان والحرمان.
وصار الندمُ رفيقاً لها طوال أيامها.
يقضُّ مضجعها ويؤرِّق لياليها.
لم تيأس كريستل عندما رأت والدها ينهار فخاطبته أمام الجُموع :
صبراً يا أبي، فالأبناء لا يموتون بل يُرزقون أحياء من جديد، وهذا ما أعدك به أمام الملأ وأمام الله.
الفصل الثامن عشر
على جري عادتها في فرض الشروط التعجيزية، طلبت كريستل من الدكتور جاك ،،،،،، الزوج المُعلن والمُتفق عليه، ان يُعلمها عن الهدية التي سيقدمها لها قبل الزواج.
وبما أنَّه ينتمي إلى عائلة ثريَّة وسياسية، بدأ بتعداد ما سيؤول إليها من حقوق عينية ومادية وجواهر وأملاك وعقارات منها مزرعة في ريف باريس.
أجابته كريستل :
كل ذلك لا يعنيني ولا يهمُّني ولا يُثير فضولي.
أجابها جاك متعجباً :
ماذا، تطلبين إذن ؟
شيء واحد فقط أُريده ويكون هدية زواجي، الجنسية الفرنسية.
بعد هذه الجملة صمتت كريستل ليجيبها الدكتور جاك دون ترَدُّد :
بعد عقد القران بأقل من ثلاثة أشهر، سيصلك بالبريد شهادة تُثبت حصولك على الجنسية الفرنسية.
لكن كريستل بصوت واثق قالت :
أعلم ذلك … لكنِّي أريدها قبل الزواج فشروط استحقاقي للجنسيَّة
متوفَّرة، لكن القانون الفرنسي وَمِسخه القانون اللبناني ينخرهما الفساد الاداري، والمُعاملة فيهما تحتاج إلى توسُّط وغش وخداع وكذب لنيل الجنسيَّة، بخلاف القانون الأميركي الذي لا يؤمن إلَّا بسيادة القانون.
هذا هو شرطي حتى أُعلن قبولي بالزواج منك.
قالت كريستل كلمتها ومشت غير آبهة بأيَّة ردود فعل.
لم يحتّمل والدها هذا الشرط التعجيزي فسألها :
لماذا كل هذا … ما دمت ستحصلين على الجنسيَّة الفرنسيه دون هذا الشرط.
التفتت واجابت كريستل بعنفوان وتحدٍ وكبرياء يُخفي في حناياه الغصَّة والقهر وحتى فقدان الأمل.
أُريد تغيير إسمي وهويِّتي وجنسيَّتي وانتمائي قبل الزواج، وعلى الطريقة التي أريدها.
إسمي القديم ( …… )
أصبح من الماضي.
إسمي الجديد هو كريستل ….
أجابها الزوج المُتفق عليه :
سأفعل كل ما بوسعي.
وفَّى الدكتور جاك بوعده وبأقل من ثلاثة أشهر وصل إلى كريستل كتاب يدعوها إلى مقابلة … وامتحان خطي في تاريخ فرنسا.
نجحت فيهما.
وأصبح إسمها الجديد كريستل ....
كريستل فخامة الإسم تكفي …
وهو الذي يُرضي سِراً دفيناً ستحتفظ به كريستل ما دام قلبها ينبض بالحياة، وكيف لا وهو الإسم الذي أطلقه عليها حبيبها مستر واو منذ عقود واشترطت في وقتها أن يبقى سِراً بينهما.
الجنسية الفرنسية هو ما أصبحت تحمله كريستل على هويَّتها وجواز سفرها وشهادتها الجامعية التي حازت عليها من السوربون.
ساءت صحة العم فؤاد بعد سنوات طويلة أمضاها في فرنسا. نهشه المرض وأُصيب بهزال شديد. كِبَر سنُّه وعجزه جعلاه لا يبرُح غرفته، إلى إن سمعته كريستل يوماً وخفيةً عنها يطلب من والدها أن يُعيده إلى لبنان حتى يموت هناك.
تدخَّلت كريستل وانتفضت كالسيل الجارف لتقول :
لن يحصل هذا قبل أن يسمح الأطباء الذين يعالجونك بالسفر.
قال لها العم فؤاد :
بالرغم أنَّ لا عائلة لي في لبنان لكنِّي أفضل الموت هناك.
أجابته كريستل والحزن يعتصر صوتها :
أنت عائلتي …
لن أتركك تُغادر فرنسا إلَّا بعد موافقة الأطباء، وقد حجزت لك غرفة في المستشفى وسأكون معك حتى تنتهي من جميع الفحوصات الطبيَّة.
أضافت كريستل وقد تغيَّرت لهجتها لتصبح بلغة الأمر :
وليكن معلوماً لديك، ستبقى معي حتى انتهاء مراسم الزواج، وتسافر معنا إلى لبنان وتستقرَّ هناك تحت رعايتي وإشرافي مُعزَّزاً مُكرَّماً حتى أخر يوم في حياتك.
لم تستطع كريستل إكمال حديثها فأجهشت بالبكاء وضمَّت العم فؤاد إلى صدرها وقالت له :
سيكون لك ما تريد :
سأشتري لك أرضاً في قرية مستر واو.
وسأبني لك منزلاً قريباً من منزل أهله.
حتى أُوفِّر عليك عناء تقصِّي أخباره وتُعلمني إذا عاد.
سألها العم فؤاد:
إلى هذا الحد لا زلت تُحبِّيه ؟.
أجابت كريستل والدموع تلمع في عينيها :
… وأكثر …
لقد غيَّرت إسمي حتى يذكِّرني الناس من حولي به عندما ينادون بإسمي.
هذا الإسم لا يعلم به إلَّا ثلاثة :
هو وأُمي وأنت.
كلُّكم ستغيبون عني إلَّا إسم كريستل …
الذي أحبَّه .. حبيبي ووهبني نعمة سماعي صوته يناديني به …
سيقى هذا الاسم لي …
ومن هو بعدي …
مراسم الزواج كانت عادية جداً وبسيطة ... هكذا أرادتها كريستل.
إختارت يوماً لحفل الزواج يعود تاريخه إلى يوم قدوم العم فؤاد منذ سنوات عدة من لبنان، حيث أعلمها انقطاع أخبار حبيبها مستر واو، وقد كان النهار في الثالث من ذلك الشهر.
لم يُوافق والد كريستل عندما علم بأنَّ ابنته قررت أن يكون يوم زواجها في الثالث من الشهر المقبل، باعتباره يُصادف يوم الخميس وهو يريده أن يكون يوم سبت أو أحد.
كل من هو حول كريستل أصبح لا يُناقش قراراً تتَّخذه أو أمراً تُريده، خصوصاً فيما يخص الأرقام، حيث تحوَّلت الأخيرة هاجساً لديها تطوِّعه كيفما تشاء.
عاشت كريستل سعيدة مع زوجها وزادت سعادتها عندما رُزقت بإبنة أطلقت عليها اسم كريستل، وعاد العم فؤاد يُردِّد عبارته الشهيرة :
السِّت الكبيرة كريستل.
والسِّت الصغيرة كريستل.
راحت كريستل تتنقَّل ما بين باريس وبيروت. في الأولى تُدير، مكتباً للاستشارات القانونيَّة الدولية، وفي الثانية تُدير مكتباً لإدارة أعمال والدها الذي تقاعد عن العمل وسكن باريس يلهو ويمضي أجمل الأوقات مع حفيدته كريستل الصغيرة، والتي شارفت على دخول الجامعة ذاتها السوربون.
لم تعد تسمع كريستل بالعبارات المحبَّبة إلى قلبها ( السِّت الكبيرة كريستل، والسِّت الصغيرة كريستل ) …
مات العم فؤاد ودُفن كما أراد في قرية حبيب كريستل مستر واو.
وهناك واظبت كريستل كل سنة على زيارة ضريحه.
تختلي به وتسأله :
هل رأيته …
هل زارك يوماً …
هل … هل … ووو هل.
لم يمضِ وقت طويل على وفاة العم فؤاد حتى تُوفي الدكتور جاك أيضاً، وبناءً لطلبه كان مرقده الأخير في قصره في ريف باريس.
0 comments: