الفصل الثاني من رواية :
الجِسْر وحوريَّة النهر.
بعد هذا اللقاء، توطدَّت أواصر الصداقة بين الاثنين، وفي اليوم التالي وعلى جري عادته في السير باكراً مع طلوع الشمس، وبينما كان يسير على ضفاف النهر وإذ يرى مشهداً تسمَّر على إثره في مكانه.
توقّف العجوز مشدوهاً لا حِراك فيه.
فالمشهد الذي رآه لم يرَ له مثيلاً في حياته.
لمح بصره من بعيد إمرأة فائقة الجمال.
ليس جمال المرأة هو كل ما رأته عيناه.
فالمرأة كانت :
تطير حولها الطيور غِناءً ...
تنحني أمامها الأزهار غِنجاً ودلالاً ...
تسجُد لها الأغصان إِحتراماً ...
تجلس على ضفة النهر ...
نِصفها الأعلى إمرأة بشريَّة ...
والنصف الاخر سمكة ...
تُرخي ذيلها الأسفل ...
تُداعب به مياه النهر ...
تأتي الأسماك لتقبَّلها ...
ويعبِقُ الجو بعطرِ رائحتها ...
وبينما العجوز مشدوهاً لما تراه عيناه، وإذ بصوت ينهره من بعيد ...
إنَّه الجِسْر ...
يصرخ بأعلى صوته موجِّهاً كلامه للعجوز ...
إرحلْ من هنا ...
إرحلْ من هنا ...
إنَّها حوريَّة النهر ...
إنَّه وقت عِبَادتها ...
إنَّه وقت ممارسة طقوسها ...
أجابه العجوز وعلامات التعجُّب باديةً عليه ...
ما بك أيُّها الجِسْر .
بالأمس كنت صديقاً واليوم تطلب منِّي الرحيل ؟
أجابه الجِسْر ..،
وما زِلْت صديقك، وما أقوله لك ليس له علاقة بمدى صداقتنا ومتانتها، بل بما تقوم به حوريَّة النهر، فهذا وقت صلاتها وعبادتها وهي تؤثر البقاء وحيدة.
تسربل العجوز من كلام الجِسْر ووقف ولم يُحرِّك ساكناً، وما هي إلَّا لحظات حتى قفل عائداً حزيناً من حيث أتى.
لم ينم العجوز تلك الليلة، فما رآه من مشهدية الحوريَّة والأجواء المحيطة بها ألهب مشاعره وعقله وأشعل علامات التعجُّب داخله …
حوريَّة على ضفاف النهر وليس على شاطئ البحر !
مع إشراقة شمس النهار قام العجوز مُسرعاً على غير عادته مُتجهاً ناحية الجِسْر، لعلَّه يلتقي بحوريَّة النهر ...
وبينما هو ينتظرها، التفت يميناً وشمالاً وفِي كل الاتجاهات يفتِّش عنها دون جدوى.
وبينما هو على هذه الحال ينتظر ويتأمل، نظر الى أسفل الجِسْر فرأى المياه تتدّفق بغزارة راحت تُسْمِعُه خرِيرُها وهي تتراكضُ ضاحكة ً مُتزاحمةً.
أمعن النظر إلى من يسير على الجِسْر ...
رأى وجوهاً ...
غاضبةً ...
مُتجهِّمةً ...
عابسةً ...
قلَّما وجد وجوهاً ...
ضاحكةً ...
باسمةً ...
أو فرحةً ...
همَّ بالرجوع والعودَّة ...
استوقفه الجِسْر قائلاً ...
لماذا العجلة ...
إمكُثْ قليلا ً ...
قال له العجوز مُتأفِّفاً ...
انتظرتها كثيراً كما أنتظرها كل يوم ولَم تأتِ ...
أجابه الجِسْر :
إنَّها كئيبة اليوم ...
نَظَرَت إلى السماء لم تجِد إلَّا غيوماً مُلبَّدة تتراكض وتتقاتل، لَمْ تجد سوى رعود تتقاصف تنشقُّ لها السماء وتُنذِرُها بكوارثها، فآثرت عدم الظهور والخروج.
فقال له العجوز :
ما دخلي انا بالسماء والغيوم ...
ألَمْ تُخْبِرها أنَّي تعلَّقت بها ؟
وإنِّي أنتظرها كل يوم ...
أجابه ألجِسْر :
نعم أبلغتُها ...
ردَّ العجوز :
وماذا قالت لك ...
أجابه ألجِسْر ..
دعني أقِصُّ عليك قِصَّة حوريَّة النهر ...
صمت الرجل العجوز وسكنت نفسه، وبالرغم أنَّه يُرافِق شروق الشمس كل يوم في ذهابه للجِسْر، إلَّا أنَّ فجر الصباح كان مُختلفاً عن كل ما سبقه.
لأنَّ نُسيمات الهواء تحمل آمالاً له ...
وأشعَّة الشمس تنقل دفئاً لقلبه ...
وعلى غير عادة المارَّة فوق الجِسْر ...
فإنَّ البسمة كانت تعلو وجوههم ...
والسعادة تغمر قلوبهم ...
أمَّا الجِسْر فقد كان على غير عادته المعهودة ...
لم يكن كئيباً …
لم ينتظر العجوز لكي يرمي عليه سلام الصباح بل بادره القول :
هل أنت على إستعداد للاستماع إلى قِصِّة حوريَّة النهر ؟.
أجابه العجوز :
نعم وكلّني شوق ورغبة لسماع ذلك ...
قال له ...
إنَّها مثلي تعرف المارَّة الذين ساروا على هذا الجِسْر ...
إنَّها مثلي أصابتها الخيبة تلو الخيبة طوال هذه السنين ...
إنَّها مثلي تعرف قِصص المارَّة سواء كانوا رجالاً أو نساءً صِغَاراً أم كباراً ...
حَزِنت لرفيقها وحبيبها عندما علِق في شباك الصيادين وبقيت طوال حياتها تبكيه وتُرثيه ...
أخلصَّت لِذكراه ولم تتخِّذ، صديقاً أو عشيقاً ...
إهتمَّت بالزهور والرياحين والأشجار التي تنمو على ضفاف النهر ..
ساعدت الطيور التي إتَّخذت من الأشجار أعشاشاً...
صادقت الحيوانات الأليفة لإخلاصها ...
قاطعه العجوز بسؤال اعتراضي ...
ألَم يكن لديها أصدقاء من المارَّة ...
أجابه الجِسْر ...
كانت حوريَّة النهر تشهد على خِيانات المارَّة مِن بني البشر ...
كانت تشمئزُ من زيفهم ...
وكانت تتجنَّب سماع أكاذيبهم ...
كانت تُذهلها ألاعيبهم ...
حاول بعض المارَّة من الرجال أن يخطِبوا ودِّها ...
كانت تصدَّهم ...
وتمقُت تملَّقهم ...
وكانت ترفض محاولاتهم لأنَّها أدرى بقصصهم ورواياتهم ...
قال له العجوز ...
وما دخلي أنا بكل هذه الأخبار، هل أنا في عِداد هؤلاء ؟.
أجابه الجِسْر ...
أنت لست في عِدادهم لأنَّها تعرف أخبارك وأسرارك كلها !
وإنَّها تُحاول إقناع نفسها بأنَّك من غير طينة المارَّة.
ولكن هناك أمرٌ وحيد تجهله عنك حوريَّة النهر وستتحقَّق منه بنفسها، إن أرادت أن تلتقي بك.
أجابه :
ما هو ؟؟
فأجابه الجِسْر:
غداً أُخبرُك وأُعلمك ...
وما إن غادر الجِسْر ذلك الصباح حتى بدأت الشكوك تجتاح الرجل العجوز وتهزُّ كِيانه ..
الأسئلة بدأت تتدحرج عليه كالصخور من عالٍّ …
يسأل نفسه تارةً ...
ويُجيبها أطوراً أُخرى ...
خاف أن ينعته المارَّة بالجنون ...
سأل عقله :
هل يُحِّب حوريَّة النهر ؟.
أجاب العقل بالإيجاب ...
وما أن سأل قلبه هل يُحِّب حوريَّة النهر ...
حتى بدأ قلبه يتخبَّط داخل صدره تخبٌّطاً عشوائياً طالباً الخروج والهروب إلى أحضان حوريَّة النهر ...
أمَّا السؤال الذي حيَّره ونال منه مقتلاً ؟!
فهو :
ما هو الشيئ الذي لا تعرفه حوريَّة النهر عنه ؟.
هنا تداخلت شكوكه ومخاوِفه وإنعدام الثقة بنفسه والكون المحيط به.
أصبح مُقتنعاً ...
أنَّ هذا النهار سيكون الأطول في العام .. .
وأنَّ الشمس لن تغيب ...
وأنَّ الليل لن يسدُل ستائره ...
وأنَّ القمر لن يُهدي دُروب العشَّاق ...
وإنَّ الفجر لن يبزُّغ وليس بقريب ...
كل ذلك حتى لا يلتقي بحوريَّة النهر ...
وصل إلى قناعة مفادها أنَّ مؤامرة كونيَّة تُحاك ضدَّه وأنَّ شيئاً ما دُبِّر في ليل، كل ذلك حتى لا يلتقي بحبيبة العمر، حوريَّة النهر !
أمَّا هناك في الجِسْر ...
كانت حوريَّة النهر تقرأ أفكار ذلك الرجل البشري ...
تبتسم ...
وتفرح ...
وتشهق بالبكاء حين يعزُّ البكاء ...
ترتفع معنوياتها كلَّما كانت تتخبَّط أفكار ذلك الرجل البشري الذي عشِقّها وهام بها وأحبَّها حتى الجنون ...
أمَّا الجِسْر ...
فقد كان الشاهد والشهيد ...
على العوارض والمشاعر والهيجان العاطفي الذي إجتاح وسيطر وإحتلَّ قلب حوريَّة النهر صديقته القديمة ...
وكان عالماً بمشاعر صديقه البشري الجديد ...
أيقن الجِسْر أنَّ وراء أكمة هذا الحُّب العنيف والمجنون أكمة ...
توجَّس وتخوَّف من هذه العلاقة وتغيَّرت معالمه ...
مِن قُبول لهذه العلاقة ...
إلى رفضها بالمُطلق !
قالت له حوريَّة النهر :
ما بالك ؟.
أراك فرِحاً وحزيناً في آن !
أجابها :
قبل أن يأتي ذلك الرجل البشري كنت لا تكترثين ولا تهتمين بالمارة ...
أراك يا حوريَّة النهر قد تغيرتِ ...
أُريد أن أسألك ِ ...
هل تُحبِّين ذلك الرجل البشري ...
إنِّني أعرفك ِتمام المعرفة حتى أيقنت أنَّك تُحبِّين هذا الرجل، وإنَّ وراء أكمِّة هذا الحُّب العنيف الذي تٓكُّنيه لهذا الرجل البشري أكمِّات وأكمِّات ...
أعرف أنَّه لا توجد لديكِ أيَّة أشياءٍ تجهلينها تجاه هذا الرجل البشرِي ...
وأنَّك قرأتِ أفكاره وعايشتِ عواطفه وأدركتِ مقاصده ...
إنَّه يُحِبك حباً جماً ...
إنَّه على وشك أن يخسّر حياته أو يعيش مجنوناً تائهاً إذا لم يلتقِ بك ...
وأضاف الجِسْر ...
لكن توجد لديكِ مسألة واحدة تجهلينها أو تتجاهلينها عمداً ...
أجابته حوريَّة النهر :
وما هي المسألة التي أجهلُها أو أتجاهلُها ...
أجابها :
إنَّك الآن تغرُبين وجهك عني لتيمِّميه تِجاه صديقك الرجل البشرِي الجديد وتوليه محبَّتك واهتمامك ...
تابع الجِسْر حديثه بحسرة :
أغفلتِ سنوات عمرنا وصداقتنا ...
قاطعت حوريَّة النهر الجِسْر تسأله :
هل دبَّت الغيرة في كيانك أيُّها الجِسْر ؟.
أجابها الجِسْر :
كلا لم تدِبُّ غيرتي لكنِّي أتوجَّس خوفاً من هذه العلاقة ...
وأُصْدِّقُك القول ...
صديقك البشري يُحِبُك ويعشقك ...
وعليك أنت أن تُصدِّقيه القول ...
وسألها :
هل تُحبِّين هذا الرجل البشري ؟.
وبقي يسألها وَيَلِحُّّ عليها بالسؤال ...
كانت تمتنع بالإجابة حيناً وتُؤخِرها أحياناً أُخرى !
استغرب صمتها الذي تعتمده واستعجل تحديد علاقتها مع ذلك الرجل البشري إلى أن قالت له والحسرة تأكلها والدموع تغلي في مُقلتيها، والألم يعصِّر نبضات قلبها :
إنَّه العشق الممنوع الذي يؤخرني ...
إنَّ الحب المستحيل الذي يمنعني ...
إنَّه الجنون الذي يؤرِّقني ...
إنَّه الحب الذي يُحرجني ...
مراكبي تاهت بحبه ...
وأشرعتي مزَّقتها رياح الشوق إليه ...
أستيقظ كل صباح منذ أن عرفته ...
أرتشف جمال وجوده في خيالي ...
بكل شوق وحنين ...
ألهثُ وراء كل لحظة جميلة يمرُّ فيها فوق الجِسْر ...
لحظاتي السعيدة تهرب مني نحو الغروب عندما يغيب عني ...
إنَّه غروب ذاكرتي ...
إنَّه شروق واقعي ...
إنَّه نهاري الممتلئ بسحابة سوداء ...
وما بين الغروب والشروق ...
أشتاقُ إليه ...
أشتاقُ إلى ...
عِشقي الممنوع ...
وحُبِّي المستحيل ...
هذه هي الأكمات والجبال والحواجز التي أتجاهلها ...
ليتني كُنت أجهلها ..،
والآن ...
بماذا تنصحُني يا صديقي الجِسْر ...
أنا الحوريَّة التي أحبَّت ...
وَيَا ليتني لم أُحِّبُ ...
في المقلب الآخر ...
وبينما العجوز في ضياع تام ...
لم ينم طوال الليل ...
ولم يُصدِّق أنَّ الليل قد انجلى ...
وأنَّ الفجر قد بزغ ْ ...
فأقبل مُسْرعاً مهرولاً نحو الجِسْر ...
بعكس نهار أمس ...
ضحِك له الصباح ...
وزقزقت له العصافير ...
شعر برائحة عطِرة تحملها نُسيمات الصباح ...
وكلَّما اقترب من الجِسْر ...
عبِق الجو بالروائح الزكيَّة ...
وعلت تغريدات الطيور ...
ولكنَّه استغرب عدم وجود المارَّة على الجِسْر كما إعتاد أن يلتقي بهم كل يوم ..
أحسَّ بأمر غريب لم يعهده من قبل ...
كُلَّمَا إقترب من الجِسْر ...
خفُتت الأصوات وتلاشت حتى انعدمت ...
وما إن وصل إلى الجِسْر ...
شعر بأنَّ ساعة الزمن قد توقَّفت ...
إعتاد أن ينهره الجِسْر ويزجره ويأمره بالرحيل إذا كانت حوريَّة النهر تُمارس طقوسها ...
إلَّا هذه المرَّة ...
رأى حوريَّة النهر تنظْر إليه ...
تبتسم له ...
تمدُّ يدها الأُولى نحوه ...
وبالثانية تُداعِب خصلات من شعرها ...
ركض جاثماً …
يُقبِّل يدها بكلتا يديه ...
نظر إليها عالياً وكأنَّها الشمس في قرص السماء ...
جذبته إليها ...
وعيناها تذْرِف دموعاً من لؤلؤ ...
وثغرها ينفتح على أحجارٍ من ألماس ...
قالت له :
لماذا تأخَّرت كل هذه السنين والأزمنة ...
انتظرتك يا حبيبي حتى تقوَّص ظهري ...
وزاد همّي ...
وفقُد أملي ...
فرفع كفيّه ليحتضن البدر بكلتا يديه ...
وقال لها :
ها أنا رهْنُ إشارتك ...
نظر إليهما الجِسْر ...
فقال لهما :
منعتُ المارَّة من السير فوق الجِسْر ...
أمرت الطيور بالابتعاد حتى تختليان وتبوحا بمكنونات الصدور وقد حصل اللقاء كما تصوَّرت وتخيَّلت ...
والآن جاء دوري ...
أنتَ يا صديقي من عالم ٍ آخر ...
وأنتِ يا صديقتي من عالمٍ مُختلف ...
أنتَ يا صديقي من عالم التراب ...
وأنتِ يا صديقتي من عالم المياه ...
أنتَ يا صديقي من عالم المِلَّل والنِّحَل والديانات وما أكثرها ...
وأنتِ يا صديقتي من عالم الأساطير والخيال، وما أجملها ...
أنتَ يا صديقي من عالم الأحزاب والأرباب والملوك والامراء والأزلام ...
أنتِ يا صديقتي من عالم الرِبُّ الواحد الْقَهَّار الجبّار ...
لن أُكثر ...
ولن أُزيد ...
لن تلتقيان ...
ولن تجتمعان ...
هذا قدركما ونصيبكما ...
ولكن ...
حتى أجعل حُبَّكما أبدياً سرمدِّيا أُسطُورياً...
تحكي عنه الأجيال ...
ويتغنّى به العشَّاق والخِلَّان ...
سأُهديكما هديَّة لقائكما وفرحكما وحبَّكما وعِشقكما ...
هذه الهديَّة ...
إنَّها نافذة السبع بُحور ...
إنَّها ...
إنَّها ...
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
٣ كانون الثاني ٢٠٢١م.
الفصل الثاني من رواية الجِسْر وحوريَّة النهر.
0 comments: