الجزء السابع
الفصل العشرون.
اقبل ربيع العام ٢٠١٥ على الدكتورة كريستل الأُم شبيهاً بالربيع الجاثم على أُمَّة بلاد العرب.
في بلاد ما بين النهرين جرت الدماء أنهاراً وعلا عواء الكلاب المسعورة وماتت الضمائر ميتة الجياف، وأشرأب التزمُّت الديني وغرز أنيابه وأظافره في عقول البشر، فدخلوا الكهوف نياماً نوماً أبدياً سرمدياً.
سواء كانت في باريس أو في موطنها الذي كان لبنان، أقبلت الدكتورة كريستل الأُم على الستين من العمر، وهي تبدو رتيبة، حزينة، قلقة، شاحبة، شاردة، لا يوقظها إلَّا أمران :
الأوَّل مُناقشة أُطروحة إبنتها كريستل ... الذي بات على بُعد أشهرٍ عدة.
والثاني أسئلة إبنتها المتكرَّرة كزخَّات المطر في ليلٍ عاصف ماطر مُكفهّر بصورة شبه يومية عن زهرة كراون دايسي وعلاقتها بها
تألَّقت الدكتور كريستل الأُم في فرنسا، وفي البلدان الفرنكوفونية، وشقَّ صيتها طريقه ليصل إلى آفاق السماء، وعلا نارها أقواس المحاكم.
أمَّا كريستل الإبنة على بُعد قاب قوسين أن تنال شهادة الدكتوراه، في علم لم يجرؤ أحد على سبر أغواره.
حلِمَت الدكتورة كريستل الأُم طوال حياتها بلقاءٍ مع حبيب، لا يحدُث إلَّا بالأساطير والقصص الخرافيَّة. وهو ما وجدته بإبنتها
كريستل الناشطة جداً فى علوم الماورائيات.
الأحلام الأُسطورية للأُم كريستل تقاطعت مع العلوم الماورائية للإبنة كريستل.
الحزن العميق والدفين هو ما كانت تراه كريستل الإبنة في عُيون والدتها، حيث تحاول جاهدة أن تُقنعها بالسفر بهدف السياحة إلى الولايات المتحدة.
قادها هذا الأمر أن حرضَّت عميد كليِّتها وصديق والدتها، بأن يضغط عليها لتلبية الدعوة التي وجَّهتها إليها مؤسسة مارتن لوثر كينغ، لحقوق الانسان في ذكراه السنوية.
وعوضاً عن السفر إلى أميركا، آثرت السفر إلى مرقد العم فؤاد في ذكرى وفاته.
رافقت كريستل الإبنة والدتها إلى لبنان خوفاً وشفقة عليها لأنَّها راقبت والدتها قبل أيَّام من السفر فلاحظت أنَّها خرجت إلى مكتبها في يوم عطلة، فلحقتها إلى هناك لترى مشهداً لم تألفه في حياتها :
أمها تبكي …
تُقلِّب صفحات الْكُتُب …
تنزع الأزهار الذابلة …
تضعها داخل صندوق خشبي صغير بطريقة فاق ترتيبها كل تصوُّر.
تقدَّمت كريستل من والدتها وأطبقت عليها تغمرها وتقول لها :
ما بك يا أمي …
يا حبيبتي ...
لماذا تنزعين هذه الأزهار من بين صفحات الكتب ...
إنَّ عمر هذه الأزهار يفوق عمري ...
لماذا، لماذا ...
بكت الأُم وبكت الإبنة …
و … بكى الكريستال ! !
أمسكت كريستل يد والدتها وخرجنَ سوياً إلى الشانزليزيه، يمشين ويبكينَ والصندوق الخشبي الصغير مُقفل بأحكام ومشدود على صدر الوالدة ...
فور وصولهنَّ إلى مطار بيروت صباح ذلك النهار الربيعي، طلبت كريستل الأُم من السائق الصعود فوراً إلى قرية حبيبها حيث مرقد العم فؤاد.
لم تتمالك كريستل الإبنة العاشقة لوالدتها من أن تبقى طيلة الوقت مُلتصقة بجسم وحواس وعقل والدتها وعلى صدرها، وكأنَّها طفلة صغيرة تُقبِّلها وتُعانقها وتقول لها :
ماذا أنا فاعلة من دونك يا أمي …
إن غبتي عني فالشوق إلى رائحتُك وحنانك وعطفك لن أجد مثيلاً له في المعمورة كلها …
قولي لي :
ما بك ؟.
ماذا أصابك ؟.
لماذا حلَّت هموم الكون على أكتافك ؟
لماذا استوطنت الاحزان قلبك ولَم ترضَ مغادرته ؟
أنت تقتلين حبي لك بعدم البوح لي …
أنت تقولين عني أنَّي أسطورة حياتك التي ستتحقَّق.
بالله عليك أخبريني …
لماذا آثرت القدوم إلى هذه القرية في لبنان على دعوة تكريم أعظم رجل في تاريخ أميركا الحديث ؟.
ما الذي تنوين فعله ؟
أجابتها بهدوء :
سترين.
عندما وصلنَّ إلى القرية ودخَلنَ منزل العم فؤاد المقفل، لاحظت أنَّ
أزهار كراون دايسي البريَّة قد غطَّت معظم أرجاء الحديقة. فانفرجت أساريرها وطلبت من السائق أن يحفر حفرة صغيرة قامت على إثرها بدفن الصندوق الخشبي الذي حملته معها من باريس والذي يحتوي على أزهار كراون دايسي الذابلة.
بادرت إلى قطف أجمل زهرة من كراون دايسي في الحديقة وألقتها على الصندوق برفق وحنان، وبدأت بيدها تهبل التراب على الزهرة والصندوق حتى اختفى كل شيئ.
عادت ادراجها إلى السيارة.
ولم تغسل يديها من آثار التراب ذلك النهار.
الفصل الواحد والعشرون.
المواجهة ....
بدأ التوتُّر يُخيِّم في شهر تموز من العام ٢٠١٥ في المنزل الريفي في ضواحي باريس، حيث وصلت لتوِّها كريستل ومعها رزمة بريد تحتوي على ثلاثة كُتُب، كان عميد الكليَّة نصحها بالتمعّّن في قرائتها نظراً لأنَّ مؤلِّف هذه الكتّب هو الأستاذ القادم من أميركا لمناقشة أُطروحتها في الاوَّل من أيلول.
دخلت كريستل غرفتها على عجل وما أن فتحت الرزمة حتى هالها ما رأت أحد الْكُتُب مُجدِّداً بعنوان :
قِصَّة كراون دايسي وكريستل.
طبعة جديدة.
وصورة الغلاف لوحة زيتية، لنصف صورة وجه فتاة تُشبه إلى حد كبير والدتها عندما كانت صبية يافعة.
والغلاف الأخير من الكتاب عبارة عن باقة من أزهار كراون دايسي على شكل قلب.
أمَّا الإصدار كان في ٢٠ نيسان من العام الحالي ٢٠١٥م.
أمَّا الإهداء فهو موجَّه إلى :
يوم ٢١ نيسان … حيث يتقابل الليل والنهار.
لم تُلبِ كريستل الإبنة نداء والدتها للغداء.
بقيت تقرأ وتقرأ وتقرأ وكلَّما تعمَّقت في القراءة كانت دموعها تزداد انهماراً.
بدأت تفكُّ الألغاز وتحِّل الشيفرات والرموز.
حجبت دموع كريستل عيونها عن القراءة، لكنَّها تنفَّست الصعداء عندما بدأت تُمسك بناصية الحلول والألغاز.
لغز الأزهار الذابلة …
والأزهار بين صفحات الكتب …
المرآة التي لا تفارق حقيبة والدتها …
رسم الزهرة داخل الإطار الذهبي …
نظرت كريستل إلى تاريخين ٢٠ و ٢١.
تاريخ نشر الكتاب … وتاريخ الإهداء.
عرفت كل شيئ لكن غاب عنها لغة الأرقام التي تُجيدها والدتها وتؤمن بها.
دخلت الدكتورة كريستل الأُم غرفة إبنتها وهي تستعجلها لتناول العشاء بعد ان غابت عن طاولة الغداء.
فبادرتها قائلة :
كريستل حبيبتي يكفيك هذا النهار من القراءة …
لم تُجِب كريستل، لأنَّ الدموع كانت تُبلِّل وسادتها، فتقدَّمت منها والدتها ونزعت الكتاب من بين يديها ورمته جانباً، إلٍّا أنَّ شيئاً ما صعقها.
هالها ما رأت …
عادت بسرعة ولهفة والتقطت الكتاب بيديها لترى صورتها على الغلاف.
تصفَّحته على عجل.
نظرت كريستل إلى والدتها والدموع تنهمر وقالت لها :
لا أسئلة لدي …
زهرة كراون دايسي، عرفتها،
لكن رقم ٢٠ ورقم ٢١، ماذا يعنيان ؟.
والصورة الزيتية التي تُشبهك من أين … ؟.
أُريد تفسيراً يا أُمي … !
إنهارت الأُم على صدر ابنتها واجهشت بالبكاء …
وقالت لها سأخبرك كل شيئ.
دخلت الأُم إلى غرفتها، وأحضرت حقيبة يدها وأخرجت منها المرآة، وكان بداخلها …
صورة نصفها موجود … وهي صورة المُؤلِّف،
والنصف الآخر صورة غلاف الكتاب …
أمَّا رقم ٢٠ دلالته …
أنَّ جدتك كانت تصِّر حتى آخر يوم في حياتها أنَّه يوم مولدي.
أمَّا الحقيقة في تذكرة الهويَّة …
هو يوم ٢١.
ماذا تريدين أن تعرفي أكثر …
أجابت كريستل والدتها :
لا شيئ …
لكن أودُّ أن أُبلغك أنَّ رفيق الصبا وحبيب عمرك الذي لم يفارق كيانك هو الذي سيناقش أُطروحتي …
وقع كلام كريستل كالصاعقة، على والدتها …
صرخت كريستل بأعلى صوتها …
ساعدوني … ساعدوني …
هبَّ الجد صارخاً ما الأمر ما الأمر ؟.
انقلبت الدنيا رأساً على عقب …
عاد الزمن أربعين عاماً إلى الوراء.
حي نُقلت الدكتورة كريستل الأُم إلى المستشفى الآن.
كما نُقلت كريستل ( …… ) منذ أربعين عاماً إلى المستشفى حينها.
فتحت الأُم عينيها في المستشفى فبادرتها إبنتها وهي العالمة القديرة :
اليوم يا أٌمي أصبحت الأُسطورة قِصَّة حقيقيَّة.
0 comments: