سِرْ العلاقة ما بين الامبراطورية العثمانية، ( تركيا اليوم ) واليهود.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
بعد أن نشُط التحرُّك الدبلوماسي التركي خلال هذا العقد تجاه الدول العربية، خاصة سوريا ولبنان وفلسطين، ظاهره الود والمحبة والتقارب، يقابله تحرُّك دبلوماسي غلافه عداء سافر تجاه إسرائيل وباطنه غير ذلك.
وكعادتي التي لم ولن أغيِّرها، ما زالت نظرتي الى بعض المؤرِّخين العرب هي هي، لأنَي ما زلت أعتقد أنَّهم برعوا في التحريف، واستباحوا الكذب وشرَّعوا الأباطيل.
لقد اطَّلعت على ما دوَّنوه عن فترة الحكم العثماني للبلاد العربية الذي دام لقرون أربعة، حيث كان الخير الوفير والرغد في العيش من مُميِّزات هذا الحكم، كذلك خيَّم على هذه البلاد ظلال وافرة من العدل والتسامح، وقد أبحرت الحريَّة وسط الشعوب العربية دون عواصف وأعاصير ورفرفت أعلام العزَّة والكرامة في طول البلاد العربية وعرضها.
مما لا شك فيه أنَّ هذا الكلام مليئ بالارهاصات والتلفيق المُمنهج، لأنَّ تأريخ الحقبة العثمانية قام به كتبة مأجورين أطلقت عليهم فيما مضى مُسمَّى، مؤرِّخو المصاطب.
( المصطبة مقاعد جلوس أمام أبواب المحاكم الهمايونية، يجلس عليها حُثالة الأشخاص يتلقفون دراهم مُلوثة حتى يشهد بالشهادة كذباً أمام القاضي ).
حتى أكون منصفاً وصادقاً وعادلاً، أنَّ المؤرِّخين العرب في ناحية واحدة فقط صدقوا، وهي أنَّ الإمبراطورية العثمانية استعادت أمجاد المسلمين العرب، بعد ان طحنتهم الخلافات العربية منذ السقوط المدوِّي للخلافة العباسية وما بعدها.
إنَّ قبائل الشعب التركي الذين إتَّخذت من الاسلام ديناً، قدمت من آسيا الوسطى واحتلت القسطنطينية وهزمّوا الإمبراطورية البيزنطية، بخلاف أقرانهم العرب المسلمين الذين لم يحافظوا على الأندلس.
( يراجع في ذلك مُدونَّتي عن ملوك وأمراء الطوائف في الأندلس، ما قاله المؤرَّخ المقرِّي عن السلطان محمد الحادي عشر أبو عبدالله، عندما إنصرف عن عاصمته غرناطة، حيث تأوه ودمعت عيناه فنهرّته أمُّه وقالت له :
يحقُّ لك أن تبكي كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال ).
ولكي أُعطي الخلافة العثمانية حقَّها قبل الدخول في بحثي عن كيفيَّة تعاملهم مع العرب المسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء، أنقل عن أحد المؤرِّخين في الغرب قوله ( إنَّ هزيمة المسلمين العرب في الأندلس هي شذوذ عن القاعدة التي تذهب الى أنَّ المدنيَّة العربية الاسلامية، ترسخ وتُعمَّر حيثما تحلّ أقدام العرب ما عدا اسبانيا ). وهذا في حد ذاته تبجيل وتكريم للمسلمين الأتراك خلاف أقرانهم المسلمين العرب، لأنهم حافظوا على القسطنطينية الى الأبد.
في العلاقة ما بين العرب والإمبراطورية العثمانية :
كانت سِمة وسياسة الأتراك في حكمهم للعرب هي الإحتقار والإهانة، ولا زالت لغاية تاريخه وصمات العار تتدلَّى من عبارات ومُفردات عانى منها الأجداد، كالسخرة والانكشارية والسفربرلك.
والملاحظ أنَّ المعاناة دامت لقرون أربعة وانتهت يوم ٣٠ أيلول ١٩١٨ عندما احتل سلطان باشا الاطرش دمشق، ورفع العلم العربي فوق دار الحكومة وهزم الجيش التركي الذي كان يعاني سكرات الموت، بعد أن دبَّ المرض في جسم السلطنة العثمانية المتهالكة خلال الحرب العالمية الاولى.
والمستهّجن والملفت للنظر، أنَّ المؤرخ العربي لم يدوَّن هذا الحدث التاريخي برفع العلم العربي وإنزال العلم التركي لانَّ النفاق والدجل والتدليس التاريخي المدسوس يحول دون ذلك.
وبالرغم من وفرة الأعياد الرسمية عند العرب والدينية منها، لم يحدِّدوا يوماً للإحتفال برفع العلم العربي، الذي قضى في رمزيته على الحكم العثماني البغيض، أسوة بالبلاد التي تحترم علمها.
- يراجع مُدونَّتي عن سلطان باشا الاطرش رافع العلم العربي الاوَّل.
وإذا ألقينا نظرة على الحكَّام والمتصرِّفين، الذين عينَّهم الباب العالي لفرض سيطرتهم على البلاد العربية، نرى بعضهم أتراك والبعض الاخر من البلاد التي احتلوها في أوروبا، مثل ألبانيا وأحياناً من أرمينيا، ولم تدفعهم شهامتهم أن يقوموا بتعيين مُتصرف أو حاكم عربي مسلم على أي بلد أوروبي احتلَّه الأتراك، وذلك لترسيخ سياستهم في تهميش وإحتقار المسلم العربي.
كان للأتراك سياسة تقضي بضرب زعماء العشائر العربية بعضهم ببعض، وقد ابتدعوا طرائق مبتكرة لتقوية هذا على ذاك في لبنان وسورية، فدَّب الهِزال والهوان في البنيتين اللبنانية والسورية، من أجل أن يسود الظلم العثماني لفترات أطول.
أمَّا في علاقاتهم مع المسيحيين العرب، لم يأتِ التاريخ على ذكر أمور مُستهجنة في حقِّهم، وهي أنَّ هؤلاء لاقوا العذاب والاستبداد من إبراهيم باشا المصري، الذي تعود أُصوله وجذوره إلى العرق التركي، وقد يكونوا بذلك تبادلوا وتقاسموا الأدوار في فرض سيطرتهم المبنيَّة على إذلال العرب.
أمَّا اليهود العرب، فلم يقع نظري على مستند يُبرز أو يفيد أنَّ عملاء وحكَّام الإمبراطورية العثمانية المنتشرين في أصقاع البلاد العربية، قد إستعملوا أساليباً تحقيريَّة تجاه اليهود كتلك التي إستخدموها تجاه العرب المسلمين والمسيحيين، ومَرّد ذلك سيأتي بحثه لاحقاً.
وقد ذكر المؤرخ العربي المُنافق، أنَّ الإمبرطورية العثمانية شقَّت الطرق، ومدَّت سكك الحديد، وضربت العملة، وقوننت الأحكام، واشادت دوراً للحكم ( سرايا ) وغير ذلك من تفخيم في غير محله.
كانت نيَّة الامبراطورية، في وضع هذه الأمور لا تصب في خانة العرب، لأنَّ قوانين الأحوال الشخصية كانت معروفة ومطبَّقة وفقاً للشريعتين الاسلامية والمسيحية قبل الحكم العثماني بقرون عديدة، والقوننة كان هدفها فرض مذهب واحد بالنسبة للمسلمين، نظرا ً لتعدُّد المذاهب.
وسأتطرَّق إلى مسالة واحدة وهي، مدّ سكة الحديد المعروفة بسكة حديد الحجاز والتي كان لها محطات في ساحة البرج بيروت وفي دمشق، والتي عاثى المؤرخ العربي الخفيف في تعظيم شأنها والإعلاء من قدرها.
والمعروف أنَّ عبقرية سوليدير، ( وهي شركة قامت بالتنظيم المدني لبيروت بعد الحرب الأهلية )، أبقت على مبنى واحد وكان فيه سينما أوبرا، وهدمت أبنية مُلاصقة مهمة للتراث العثماني في فن البناء، وقام رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بإعادة ترميم السراي العثمانية في بيروت وجعلها مقراً لرئاسة الحكومة.
بالنسبة لمد سكة حديد الحجاز، تبَّين من الأوراق السريَّة والوثائق المعتمدة، أنَّ الباب العالي لاحظ في بداية القرن الثامن عشر تنامي نشاط الحركات التحرريَّة في البلاد العربية، بعد أن تأثَّر الجو العربي المقاوم والثائر بأفكار الثورّة الفرنسية وبمعتقدات الثورَّة الأميركية، وقد لاحظنا أنَّ بعض المفكِّرين العرب، خصوصاً المسلمين، وبصورة أعمّ المسيحيين، إستلهموا هذه المبادئ وجاهروا بها إبان البطش العثماني. وحتى يفوِّتوا الفرص التحرُّرية وامتدادها، أشار المهندسون الأتراك على الباب العالي وهم من عليَّة القوم بالعلم والإدراك والمعرفة، أن يستعمل ذات الأسلوب ذاته الذي إعتمده الرئيس الأميركي آبراهام لينكولن في القضاء على تمرُّد الولايات الجنوبية، بأن ينشر سكك الحديد في طول الولايات الشمالية وعرضها.
وقد برهنت هذه الاستراتيجية في المواصلات، تأثيرها في الحرب الأهلية وساعدت الحكومة الفدرالية بالقضاء على التمرُّد لتوفُّر عاملي السرعة في التموين ونقل الجنود.
وقد أخذ الباب العالي بهذه النصيحة، بحيث أصبحت سكة حديد الحجاز فور جهوزها بتصرف الجيش العثماني لنقل الجند والعتاد لقمع التمرد والحركات الاحتجاجية.
في العلاقة بين الامبراطورية العثمانية واليهود.
تعود هذه العلاقة إلى يوم سقوط الأندلس، على يد أمراء ورجال الكنيسة الإسبان، حيث إستقبلت الإمبراطورية العثمانية اليهود الذين جرى تهجيرهم من الأندلس، وكان في جعبتهم أفكار وفلسفات العرب المسلمين الذين رافقوهم في رحاب العلم الواسع الغني.
ومن سخريات أو حظوظ القدر أنَّ بعض الكتب الفلسفية التي ألَّفها المسلمون العرب، بقيت في حوزة اليهود، والباقي تمَّ حرقه او إتلافه، كما يذكر التاريخ محنة التكفير التي إجتاحت الأندلس في يوم مظلم من ليالي التاريخ المُضييء.
وقد ذكر التاريخ بالتفصيل الدقيق هذه الهجرات اليهودية إلى رحاب الامبراطورية العثمانية.
-/ من اسبانيا بالعام ١٤٩٢
-/ من البرتغال بالعام ١٤٩٧
-/ من سيسيليا بالعام ١٤٩٨
وقد أوصى السلطان بايزيد الثاني، موظفيه وحكَّامه تسهيل وإستقبال اليهود، ومساعدتهم بشكل جيد، وبهذه الطريقة وجد اليهود الإستقرار والأمان في ظل الامبراطورية العثمانية بعيداً عن الملاحقات الدينية.
وفي شهر شباط من العام ١٥٥٦م، وبعد ان أحرق بابا روما بولس الرابع، ٢٥ يهودياً مُعمَّدين قسراً، وجَّه السلطان رسالة إلى البابا طلب منه تحرير المساجين اليهود بشكل فوري، وقد خضع البابا لرغبة السلطان وطلبه.
سكن اليهود في الطرق التجارية للإمبراطورية ( اسطنبول ، سالونيك ، ايزمير وغيرها من المفاصل التجارية )
وقد برع اليهود في القطاع المصرفي وفي العمل على الأحجار الكريمة، وصياغة الذهب والفضة وإمتهنوا الطب والترجمة والطباعة، وما زالت هذه المهن والحرف بيدهم.
وتعود هذه العلاقة بين الأتراك واليهود إلى ايام السلطان العثماني محمد الثاني في القرن الخامس عشر عندما إستقبلت اسطنبول اليهود المهجَّرين من اليونان، وتم توزيعهم على دمشق والقدس والقاهرة.
كذلك في القرن الخامس عشر وصلت مجموعة من الاشكيناز بعد ان طُردوا من الدول الجرمانية، وقد وزَّعهم الباب العالي وفق طريقته في إستقدام اليهود وزرعهم وتوزيعهم في البلاد العربية.
يتضّح من أعلاه عمق العلاقة ما بين اليهود والإمبراطورية العثمانية.
وأخيراً ما بين التقليد والحداثة أُعتبرت الحاخامية الكبرى، المؤسسة اليهودية الأبرز في تركيا ( لغاية تاريخه )، والتي أحاط بها مجلساً علمانياً، وقد بدأت المجموعات اليهودية مؤخراً تلمس التشّدد المسلم الناشط في تركيا هذه الأيام.
حاشية مُلحقة بالمُدونَّة :
حاخام باشا باللغة التركية العثمانية :
حاخامباشی، بالتركية : Hahambaş هو الاسم التركي الذي يطلق على الحاخام الأكبر في المجتمع اليهودي في زمن الدولة العثمانية.
حاخام باشا الآستانة اعتبر الحاخام الأكبر لجميع يهود الدولة.
الحاخام مناحيم مينديل حايتريك، رئيس طائفة اليهود الأشكناز في تركيا وعضو اللجنة الدائمة لمؤتمر حاخامات أوروبا.
الحاخامية الكبرى في إسرائيل :
(بالعبرية: הרבנות הראשית לישראל) مؤسسة معترف بها من قبل القانون باعتبارها السلطة الهالاخاه (الفتوى) والروحية لليهود في إسرائيل وقد أنشأتها حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1921 وكان الحاخام إسحق كوك أول رئيس لها، وتتكون الحاخامية في إسرائيل من اثنين من كبار الحاخامات، واحد من السفارديم والآخر من الاشكناز.
فيصل المصري
اورلاندو / فلوريدا
٣٠ اذار ٢٠١٩م.
المرجع : المُدونَّات الفيصليَّة.
كتاب الموحِّدون الدروز عبر التاريخ.
الطبعة الاولى حزيران ٢٠١٨ م.
0 comments: