الْمُؤْمِنِ، المُوَحِّد، والفقيه، الْمُفوَّه ..
هو المرحوم كمال جنبلاط.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
مِن عنوان هذه الْمُدوّنة يتبيَّن أنَّها عن المرحوم كمال جنبلاط الزعيم السياسي اللبناني الأبرَّز والاوحَّد، الذي صال وجال في القرن الماضي القريب، حتى باتَت في أيامه مفاتيح جنَّة رؤساء الجمهورية في لبنان في حوزته، بالرغم من كونه ينتسِّب الى طائفة ( الموحدِّين الدروز ).
في ذِكْرَى إستشهاد المرحوم كمال جنبلاط طالعتنا الاقلام عن ذلك السياسي، وقد أفلح الكُتَّاب وأصابوا الهدف ولم يتركوا محطَّة من حياته إلا وذكروها ..
هذا الشِّق من حياة كمال جنبلاط السياسي ليس من مقاصدي في هذه الْمُدوّنة، لأَنِّي اليوم أترحَّمه في ليالي سياسية يُفتقد فيها البدر خاصة أنَّ المنطقة وبالتحديد بلاد الشام، نهارها مثل ليلها يغرقان في ظلام دامس سياسي على مفارق طُرُق تاريخية.
في الجزيرة العربية أصوات مُرعبَة.
وفي الغرب نداءات بأعلى الصوت في صلب مسار القضية العربية الفلسطينية.
ولا من يسمع ولا من يتفوَّه لان الماء في فمِ السياسيين.
إمتاز العرب بالماضي بأنهم كانوا يُكرمُون الحكماء والدهاة.
الداهية كان لا يقطع الخيط الذي بينه وبين عدوِّه، فإن شَد َّ أرخى، وإن أرخى شِد َّ هو. وهذا ليس في نطاق مُدوِّنتي هذه.
اليوم، سأتكلم عن حكيم عربي، من طائفة الموحدِّين الدروز، إمتاز بأنَّه من أشدِّ الحُكماء فِطنة وذكاءً. إمتلك الدين والدنيا على حدٍ سواء، فهانَت له المواقف ورضخَّت.
هو المرحوم كمال جنبلاط.
هذه الْمُدوَّنة ستتطرَّق الى الإيمان الفلسفي العميق، والتوحيد المُتجذِّر في كيان المرحوم كمال جنبلاط الذي عرف وفهم وشرح عقيدة ( الموحِّدين الدروز ) على أفضل وجه شرعي.
ومن المُلفت للإنتباه أنَّ السيرة السياسية للمرحوم كمال جنبلاط، غَلَبَت الناحية الدينية والفلسفية، مع أنه في هذا الميدان لا يُشَقُّ له غُبار، ولا يلحق ركبه أي رجل دين أو فَقِيه مُتمرِّس في عقيدة الموحِّدين الدروز.
المُدونَّة التاريخية هذه، أُهديها إلى مشايخ الطائفة الأجلاء.
وإنَّ اللبيب من الإشارة يفهم.
في منتصف ستينيات القرن الماضي، صدر في القاهرة كتاب للمرحوم الدكتور، السفير عبد الله النجَّار ( لبناني الجنسية ) بعنوان (مذهب الدروز والتوحيد ).
حاول المؤلِّف بنيِّة طيِّبة أن يشرح في كتابه عن مذهب التوحيد الدرزي، من نواحي تاريخية وعقائدية، ولكِّنه لقي مُعارضة شديدة من شيخ عقل الطائفة الدرزية في لبنان آنذاك، إذ إعتبره مُخالفاً للعقيدة الدرزية الصحيحة، وطالب بوقف، وسحب الكتاب من التداول.
وبعد تدَخُّل من المرجعيات الدينية والسياسية، طُلب من المرحوم الدكتور سامي مكارم أن يقوم بإعداد دراسَة أو كتاب بعنوان ( أضواء على مسلك التوحيد ). على أن يُتوِّج هذا الكتاب المرحوم كمال جنبلاط بمقدِّمة تُلقي أضواءًً على العقيدة بعمق فلسفي لاهوتي ديني قلَّ نظيره، وغاب عن مسامع الكثيرين وعن مدارك بعض الروحيين.
مثلي مثل غيري، إعتبرت وما زلت أعتبر أنَّ مُقدِّمة كمال جنبلاط لكتاب الدكتور سامي مكارم هي ( كمُقدمة إبن خلدون في التاريخ الصحيح )
بمعنى أن الْمُقدِّمة هي من أمهات التفسير والتوضيح، لأنها كانت شرحاً لعقيدة الموحدِّين الدروز من نواحي مصادر وأصول الحكمة والعرفان.
بعد أن صدر كتاب الدكتور مكارم، أرسل المرحوم كمال جنبلاط نسخة منه إلى الأديب اللبناني ميخائيل نعيمه، المسيحي في العقيدة والإيمان.
ما إن قرأ الأديب ميخائيل نعيمة ذلك الْمُفكِّر والفيلسوف وناسك الشخروب في بسكتنا من لبنان مُقدِّمة كمال جنبلاط حتى ردَّ فوراً ..
وقال له ..
قرأت كتاب الدكتور سامي مكارم ( أضواء على مسلك التوحيد ) الذي تكرَّمت عليَّ بنسخة منه، فكانت ( المُقدِّمة ) الممتازة التي وضعتَها له، ( أهمِّ ) ما استوقفني فيه ..
إذ إنَّها جاءت عرضاً وافياً ومركَّزاً للنظرة الباطنية إلى الكون والإنسان ..
وجليٌّ أنَّ هذه المُقَدِّمة لم تكن غير الخلاصة لدراسات طويلة وعميقة قمتَ بها في حقل من حقول النشاط الإنساني لعله أخصبها، ثم لعله أقربها إلى قلبك وروحك.
لن أُطيل الشرح في رسالة المفكر نعيمة إلى كمال جنبلاط، لأَنِّي سأعود وأبحث في المُقَدَّمة، ليس إلا.
بناء عليه …
يمكنني من التوطئة التاريخية أعلاه أن أتصوَّر وأتخيَّل وأعتبر مُقدِّمة كمال جنبلاط، خارطة طريق مُستقبليَّة لكل حدَّث أو مسألة تطاول سمعة أو هيبة أو عقيدة ( الموحِّدون الدروز ) في مسائل مصادر وأصول الحكمة والعرفان.
لماذا ...
يقول كمال جنبلاط في مقدَّمته …
هذه المقدِّمة التي طُلِبت ْ منَّا لهذا الكتاب القيِّم، الذي أشبعه المؤلِّف الصديق الدكتور سامي مكارم درساً وتقصِّياً، وإستوضح مرتكزاته الرئيسية من مناقشة رجال الدين الفاقهين ومن مشاركتهم في البحث والاستدلال، ما كانت لتتيسَّر لنا كتابتُها لولا تقديرنا لقيمة ما أورده هذا الكتاب من أبحاث تُسهم في التعريف بما يمكن التعريف به من المبادئ العامة لـ مسلك الحكمة والتوحيد، وهو الاسم الحقيقي للدرزيَّة والاحتراز ما أمكن فيما يجب أن يبقى ( سِراً مكتنزاً ) لا تتداوله أيدي عامة الناس ممَّن لا تتفتَّح أفهامُهم وأذواقُهم لمعناه، ولا تتوفَّر فيهم شروط الأهليَّة الروحيَّة والاستحقاق الخُلُقي، ولا يرغبون في جدِّية وإخلاص بالانخراط في مسلك هذا العرفان :
و"لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ "
( سورة البقرة ).
يُضيف كمال جنبلاط في مُقدِّمته ..
( إنَّ تعاون الدكتور سامي مكارم مع ( بعض رجال الدين ) والعلم الموحدِّين هو طابع الجِدَّة والجدِّية في مثل هذا المسعى والتأليف، ومثالاً ( ُيحتذي ) به مَن يريد الكتابة في مثل هذه الأمور الدقيقة، إذا كان يحرص أن يُراعي ويقدِّر في آنٍ واحد ).
حرية الرأي ..
وحرية المعتقَّد ..
وحرية معتنقيه وحرمتهم.
ويهدف إلى التعرُّف الأصيل الداخلي، بنظرة أبناء التوحيد أنفسهم إلى معتقدهم وتوحيدهم، والمسالك الروحانية كالعقائد في الأديان والمذاهب.
( أنقل كلام جنبلاط حرفياً وأضعه ضمن هلالين للدلالَّة، والاشارة )
ويضيف كمال جنبلاط ..
( إن هذه ( المشاركة في التفكير ) والاستشعار والتصَوُّر والتأليف، بما ينجم عنها من حال ذوقي رفيع، تُمكِّن من ( التوفيق ) المحمود بين حريَّة الرأي والنشر من جهة، وحرية المعتقد وحرمته وحقِّ معتنقيه من جهة أخرى ).
ويخلص كمال جنبلاط رأيه في التوافق الدقيق بالقول من المنتظَر والمعقول أن تبرز مثل هذه ( المحاولات ) على يد بعض الأمناء الروحانيين لنشر ما يمكن نشره، وما يأذن به الموحِّدون العقَّال، وما يفرضه ( تطوُّر أحوال الزمان ) لكي يتوفر لكلِّ راغب في الاستطلاع الروحي، وفي التعبُّد والتجرُّد والإدراك المعنوي، أو التعمُّق في المعرفة والمكاشفة، ويستهدي بإشاراتها وعلامات دلالاتها إلى الصراط المستقيم الخفي ).
كان إصرار كمال جنبلاط في مُقَدَّمته أن يحدث التزاوج والتلاقي بين ( المفكرين والمثقفين ورجال الدين الروحانيين ) للوصول الى نتيجة واحدة في شرح العقيدة، وان لا ينفرد احدهما بالرأي، وهذا عين الصواب درءً لأي خلل او نقص.
ويلاحظ، في المُقَدِّمة أنَّ كمال جنبلاط أشار بوضوح في فريضة الوعظ وحدودها، أنَّه يترتَّب على المشايخ والمسؤولين الروحيين، ونفر من ( المثقفين ) الذين تتوفَّر فيهم الأمانة الروحيَّة ويستطيعون الولوج في مثل هذه الأبحاث المفيدة الشيقَّة الدقيقة، وأنَّ عليهم أن يعكفوا على هذه (المشاركة في التأليف والعمل ) وأن يوحِّدوا جهودهم في التبيان والاستطلاع، إذا أردنا أن نتجنَّب أو نتفادى قيام عزلة فكرية وفاصل معنوي بين هؤلاء المسؤولين الروحيين، وبين رعيل من المثقفين بالعلم العصري المادي.
أما في مسألة السريَّة في المسلك، يقول كمال جنبلاط في مُقدمتِّه :
( هذه السريَّة كانت نهج حكماء الهند، ومصر القديمة والصين وإيران واليونان وسواهم من الأقوام، ولا تزال ميزة مَن لا يزالون تعمَرُ حياتُهم وأرواحُهم، بمسلك الحكمة القديم المتصِّل المتجدِّد أبد الدهر ).
والسبب الجوهري لمثل هذه السرية ليس هو التقيَّة بمعنى الخشيَّة ..
( سبق وشرحت التقيَّة في مُدوِّنة سابقة، يمكنكم الرجوع لتفرقتها عن الخشيَة أو الخوف التي أشار اليها المرحوم كمال جنبلاط في مُقدمتِّه )
بل الصفة الملازمة لهذا العرفان ذاته الذي هو محض إختبار، ولا يتحقق إلا في سرِّ البصيرة العقلية والخاطر، ولا يرتقي إلى مثل هذا المقام علمُ العقل والمادة والغرض، بل ذوقُ عرفان هذا المقام، كمن يسير وينجذب إليه في آنٍ واحد أو يجذبه هو إليه من فنائه إلى بقائه، ومن عقله المتبدِّل إلى يقظته التي لا تبدأ ولا تتبدل ولا تزول.
أما في مسألتي العرفان والتوحيد يقول كمال جنبلاط ..
( ولا يفوتنا أن نوضح أنَّ مسلك الحكمة والتوحيد المحض في الأوَّلين وفي الآخرين على حدٍّ سواء، هو على نهجين في الاقتراب من الكشف والسعي إلى نيل الحقيقة الأخيرة، وفق تحديد مذاهب الحكمة القديمة ).
في مسالة سبب السريَّة، يقول كمال جنبلاط ..
( ومن القواعد الألفيَّة المكرَّسة في مسالك الحكمة والعرفان أن يُحافظ المؤتمَنون على السريَّة لسبب جوهري توضحه الكتُّب المُقَدَّسة ).
تهيب الْكُتُب المُقدَّسة بالمجاهدين الروحانيين ألا ينطقوا بالحقيقة المجرَّدة لأشخاص يغلب عليهم الفكر، لأنَّ الحقيقة تتأذَّى من جراء ذلك، أمثال أولئك المستمعين، يأوِّلونها بحسب النسبيَّة الموضوعيَّة المعتادة التي لا يعيشون إلا فيها. إنَّهم يجدون أنَّ من المتعذَّر مصالحة الحقيقة على هذا النحو. إذ ذاك يبدؤون في ( الهزء ) من الحقيقة نفسها، وهذا بالطبع يقودهم إلى التهلكة، لذا عليك أن تحاول تجنُّب مثل هذه الكارثة مهما كلَّف الأمر ).
ويستطرد كمال جنبلاط بان الرَّد، على الفكر يكون بالفكر، ويقول :
( هذا الكتاب القيِّم الذي نقدِّم له، برز من ضرورة رفع مستوى النقاش والجدَّل والصخَّب المؤسف الذي أثاره كتاب مذهب الدروز والتوحيد، وتلبية لرغبة معظم إخواننا ( الموحدِّون الدروز ) وسواهم ممَّن شاقهم الأمر وإهتموا به، وتحقيقاً لطلب المؤلِّف الكريم الأستاذ عبد الله النجار ذاته، وهذا الفريق من المثقفين في الطائفة، جاء هذا الكتاب، تتميماً لمشيئة الهيئة الروحيَّة الجليلة، حيث جاء كتاب الدكتور مكارم في نهجه العلمي أفضل إيضاح لما يبتغيه ( الموحِّدون الدروز ) من بحث في هذا المعتقد الشريف، .وكان ما نحن بصدده نتاجَ هذا الاجتماع وهذا المطلب وهذه الأمانة ).
ويضيف كمال جنبلاط ..
( من منطلق الإصلاح وتملؤنا الرغبة ويحدونا الأمل بأن تتحوَّل يوماً هذه البناية الضخمة الجميلة المسمَّاة ( دار الطائفة الدرزية ) إلى جامعة روحانية أو كليَّة مذهبَّة وشرعيَّة وروحيَّة ومنتدى للتنقيب والبحث والاستطلاع في مختلف بطون فلسفات الشرق واليونان، على شاكلة مجالس الحكمة عند الأولين أو دار الحكمة التي أنشأها مولانا الحكيم الحاكم بأمر الله على مثال أكاديمية أفلاطون عليهما السلام أو أندية الصوفية العارفين والمتحققين، رضي الله عنهم في حِمَى الإسلام الحنيف.
في مثل هذه المنتديات والملتقيات، تنمو الشعلة الروحيَّة الضرورية لكلِّ تطوير وتزهو، وتكون البداية الحقيقية، لكلِّ إصلاح أو تجديد أو تعميم، أو سَمِّه ما شئت، للمفهوم التوحيدي العرفاني الدرزي الأصيل والعميق في جذوره التاريخية ).
ويضيف كمال جنبلاط في خارطة الطريق او المُقَدِّمة ..
( وإلا، فإنَّ محاولات الإصلاح القائمة، مهما سَمَتْ وطابت نواياها وازدهرتْ شعاراتُها وشادَت في ظاهر الأمر، وهي مازالت لا تهدف في معظمها سوى هذا الظاهر الحسِّي من الأشياء ستخيِّب الآمال وستُمنى بالفشل ).
أخيراً ..
هل لي أن أضع ميزاناً لهذا الذهب المُتدفِّق من كمال جنبلاط ..
أم أنه بالقيراط، يُزان ..
وليس بالكيل والميزان يُحسب ..
لأنه، فيض من مُفوَّه ضليع مُتمكِّن مُجتهد ومُجدِّد وعالم وفقيه وحكيم وأمين على مُعتقد الموحِّدين الدروز ...
إنه، المرحوم كمال جنبلاط ..
لا، فُضَّ الله ... فاك ..
يرحمك الله ويُسكنك فسيح جنانه ..
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
١٧ اذار ٢٠١٩م.
المرجع :
كتاب ( الموحِّدون الدروز عبر التاريخ )
من إصدارات المُدونَّات الفيصليَّة
الطبعة الأولي، حزيران ٢٠١٨م.
بيروت / لبنان.
من أقوال المرحوم كمال جنبلاط في الدين والعقيدة.
- لا يجوز أن يُفرَض على الموحدِّين، ضمن هذا الإطار الشامل للتوحيد، سَمْت ٌ واحد وتقليد واحد، وهذا التنظيم الطقسي الذي هو أبعد ما يكون عن حقيقة المعتقَّد وروحه، وتقليده وتوجيهه.
- على الرئاسة الروحية فريضة الإرشاد، والوعظ، والتوجيه واسترشاد الأفضل من مقام الأوَّلين الصالحين ومثالهم، ويجب أن تبقى الولاية الروحية الحقيقية للمجلِّين والمتفوِّقين على أقرانهم من المشايخ، والعقَّال، والمؤمنين والسبَّاقين في مجالي الحكمة والفضيلة.
- إنما المعتقد الدرزي أو التوحيدي، فوق كلِّ شيء، هو مسلك للتحقق بالعرفان، والولاية الروحية، والحكمة الزاهرة.
- أما الزعامة الروحية، في المعنى المعروف الشائع، فإنها لا تنطبق على المفهوم التوحيدي الدرزي الأصيل. بل إن الزعامة الروحية الحقيقية هي نقيض الزعامة الوجاهية، في القصد الزمني العادي المنطوي على فكرة الرئاسة، والمؤسَّس على السلطة والجاه.
- التفقُّه والإصلاح، كنَّا نتمنى لو توفَّرت الظروف لتلبية دعوتنا التي مضى عليها أكثر من سبع سنوات، وأُرسِلَ عدد ٌ من الشباب المؤمنين، أو من المشايخ المتقدِّمين أنفسهم، إلى بعض الجامعات الإسلامية الكبرى، كالأزهر الشريف، والنجف المبارك، ليتلقَّنوا القرآن، وهو مصدر تأويلهم ويتدارسوا الفقه والحديث، وعلوم التصوف، والروحانيات على أصالتها، على غرار خطى كبار أولياء الدروز، وفي طليعتهم الأمير السيد عبد الله التنوخي، والشيخ محمَّد أبي هلال الفاضل، والشيخ يوسف الكفرقوقي، إلخ، فتتم لهذا النفر من الموحدِّين، بهذا التحصيل، القدرَّة على إحياء علوم الدين، وإعلائها كما ينبغي، وتتوفر لهم مكنة ُ الوعظ والإصلاح على تمامها.
- في رأينا أنه لا يمكن النظر إلى مسلك التوحيد منفصلا ً ومستقلا ً عن مسالك الحكمة، والعرفان المتقدمة في أدوار التاريخ المعروف والمجهول، التي عمرت بها حياة المؤمنين الأولين الموحدين في مصر الفرعونية القديمة، وفي الهند، وإيران وبلاد التيبت وما وراء الواحات، وفي بابل وآشور، وفي اليونان وفي جزر البحر الأبيض المتوسط وعلى انفراج شواطئه، ثم بعد ذلك في الإسلام، مرورا ً بالنصرانية الأولى وما قبلها فيما تكشَّفت عنه مغاور ُ البحر الميت في فلسطين، وبالمذاهب العرفانية Gnosticism
الغنوصيَّة التي انتشرت في كل صقع من أصقاع العالم القديم.
فالحكمة لا تنفصل، في أيِّ زمان أو مكان، عن الاستطلاع الأخير للعقل ونزعته الجوهرية إلى معرفة مصدر إنبثاقه وأصل ينبوعه ومعين إبداعه. ولا ينفصل هذا المسلك التوحيدي (أي الدرزي) بشكل خاص عن التصوف العرفاني الإسلامي والتحقُّق الحنيف الأصيل الذي استقى هو ذاته مما سبقه في اختبار أرباب الحكمة والعرفان الأقدمين. ففي درس هذه المصادر واستطلاع كشفها يكمن سرُّ اجتناب الخطأ في تكوين فكرة صحيحة عن المعتقد التوحيدي الدرزي.
- نهج العقل، والقلب هو التوحيد، ومطلب التوحيد هذا هو في منطق نهج العقل البشري وتقصِّيه وسيره واستطلاعه. فالشعور (أي القلب) يطلب التوحيد والوحدة، ولا تطيب له السعادة ُ إلا إذا غمرتْه غبطة ٌ واحدة، متصلة، عميقة، دائمة، لا تتبدل ولا تتغير.
والعقل يطلب أيضا ً التوحيد والوحدة، وحدة التفسير ووحدة عقل جميع مظاهر الكون، ولا يرتاح من قلقه الأزلي واستكشافه الأبدي إلا إذا حلَّتْ فيه وحدةُ التفكير وانسجام الأسباب في فعلها الأول وكانت له نظرةٌ واحدة منسجمة إلى الكون.
- غاية العلم هو التوحيد، والعمل البشري يطلب هو ذاته الوحدة والتوحيد وينفر بطبيعته من جوِّ التبدل والتغير، ويسعى إلى تحقيق تصور ومثال من السعادة والوجود الإنسانيين لا يتبدلان ولا يزولان.
- الذهنية المعاصرة لمبادئ الحكمة والعرفان إن مسالك التوحيد والحكمة والعرفان هذه ولا عرفان بلا توحيد، ولا توحيد بلا عرفان تبرز أهمِّيتُها البالغة من جديد في العصر الماثل القائم، من جرَّاء تناقُض الأديان وازدواجية الشرائع وتطلُّب العقل الذي يريد أن يتجرَّد عن التقليد والتبعية والالتزام، للتعرف إلى حقيقة ِ ماورائية الأشياء، فيما يعانيه الإنسان ..
0 comments: