اليوم خمر ٌ..
وغدا ً أمر ُ ..
مع إمرؤ القيس.
هو :
- شاعر الليل، والخيل، وشاعر المطر، والغزل والشكوى من الدهر.
هو :
- من أطلق مثلا ً يُضرب به لمن كان مشغولا ً بشيء، وأتاه أمر جلَّل، فلا يستجيب له حتى يُكمِل ما في يده.
هو :
- القائل، اليوم خمر ٌ .. وغدا ً أمر ُ ...
هو :
إمرؤ القيس شاعر عربي جاهلي، عالي المقام من قبيلة كندَّة، يُعَّد من رأس شعراء العرب وأعظمهم في التاريخ.
هو، إمرؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي، وُلِد بالعام ٥٢٠م. وتوفي بالعام ٥٦٥م.
كان شاعرا ً عربيا ً جاهليا ً، وغلبَّت عليه تسميته بإسم الملك الضليل، وذي القروح.
كان ميالا ً إلى الترَّف واللهو شأن أبناء الملوك، وكان يتهتَّك في غزله ويفحَّش في سرد قصصه الغرامية.
كان كثير التسكُّع مع صعاليك العرب، ومعاقرا ً للخمر.
- يقول إبن الكلبي عنه :
كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذَّاذ العرب من طيء، وكلب، وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا ً أقام فذبح وشرب الخمر مع أصحابه.
لم يرق لوالده نمط حياته، فقام بطرده إلى حضرموت بين أعمامه وبني قومه أملا ً في تغييره وإصلاحه، لكنه إستمّر في مُجونه.
- يقول إبن قتيبة عنه :
هو من أهل كندَّة من الطبقة الاُولى. كان يُعَّد من عشّاق العرب، ومن أشهر من أحب هي، فاطمة بنت العبيد التي قال فيها معلّقته الشهيرة، وهذه بعضا ً من أجمل أبياتها :
أفاطم مهلا ً بعض هذا التدلِّل ِ
وإن كنت ِ قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرَّك مني أن حُبُّك ِ قاتلي
وأنك ِ مهما تأمري القلب يَفْعَل ِ
وأنك ِ قسمت ِ الفؤاد فنصفه
قتيل ٌ ونصف ٌ بالحديد مكبَّل ِ
كان لموت والد إمرؤ القيس أعظم الأثر على حياته، وبالرغم أنه لم يكن أكبر أبناء أبيه، إلا أنه هو من أخذ بزمام الأمور وعزم الانتقام والأخذ بالثأر من قتلَّة أبيه.
يُروى أنه قال بعد فراغه من اللهو ليلة مقتل أباه،
ضيعني صغيرا ً ..
وحمَّلني دمه كبيرا ً ..
لا صحو اليوم، ولا سكر غدا ً ..
فَلَمَّا صحا أخذ على نفسه ..
ألا يأكل لحما ً ..
ولا يشرب خمرا ً
ولا يدهن بدهن ( العودَّة )
ولا يقرُب النساء ..
حتى يثأر لأبيه.
وقال قوله، الذي بات مضربا ً، ومثلا ً حتى يومنا هذا.
اليوم خمر ٌ .. وغدا ً أمر ُ
أنشد شعرا ً وهو في دمون ( واد ٍ بالقرب من دوعن بحضرموت ) حيث لبِس رداء الحرب في اليوم التالي وإتجه صوب بني أسد فخافوا منه وحاولوا استرضاءه إلا أنه لم يرض وقاتلهم حتى حتى أثخن فيهم الجراح.
وذكر الكلبي، كذلك أكد اليعقوبي :
أن إمرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد الذين قتلوا أباه، حيث إنتقم من قاتل أبيه، وذبح عمرو بن الأشقر سيد بني أسد.
لم تكن حياة إمرؤ القيس طويلة بمقياس عدد السنين، ولكنها كانت طويلة جدا ً بمقياس تراكم الأحداث وكثرة الإنتاج ونوعية الإبداع.
كان إمرؤ القيس كثير التجوال، والترحال في ديار العرب، حيث زار أماكن القبائل بل ذهب بعيدا ً ووصل إلى القسطنطينية، بعد حياة ملأها في البداية باللهو والشراب، ثم توَّجها بالشدَّة والعزم.
لمَّا تعب جسدَه وأنهكه التجوال، تفشَّى فيه مرض الجدري وهو في أرض الغربة، فلقي حتفه هناك وقبره يقع الآن في تلة هيديرليك بأنقرة.
ويقول الزوزني في كتابه شرح المعلقَّات ان الروم، أي البيزنطيين، نصبوا له تمثالا ً بعد مماته، كان قائما ً حتى سنة ١٢٦٢، وقد أضاف إبن العديم بأن الخليفة المأمون قد مر بتمثال إمرؤ القيس بالقرب من أنقره أثناء غزوه للصابئة.
أمَّا مؤلف كتاب الأغاني أبو الفرج الأصبهاني، في ردِّه على أن إمرؤ القيس لم يكن شخصية أُسطورية، تَغنَّى بها العرب، بل كان شخصية حقيقية، لأنه تُوْجَد بعض الكتابات البيزنطية الكلاسيكية، أَتَتَّ على ذِكْر جَدِّه الحارث بن عمرو الكندي، وإن شخصا ً قريبا ً للحارث بن عمرو اسمه كايسوس (قيس) كان ملكا ً على قبيلة كندة.
وللدلالة على أن إمرؤ القيس شخصية غارقة، وشامخة في تاريخ العرب ما قبل الاسلام، أجمع النقّاد العرب، والمُستشرقين أن مضرب الأمثال كان من حياكة هذا الملك الذي أذخنته الجراح، وتركت نُدوبا ً وقروحا ً في جسمه، وحياته وأشعاره..
وهو القائل :
قفا نبك ِ من ذكرى حبيب ومنزل ِ
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ِ
وهذا البيت من الشعر، يُردِدُه عرب اليوم، إذا عادوا الى قراهم بعد هذه الحرب المُقيته، وإستذكروا أحبائهم، او حبيباتهم.
- وهو القائل في الغزَّل، وَمِنْ بعده لَحِق بركبه الأعشى، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهما من الذين قلَّدوه وساروا على خُطَاه في غزله الراقي، والماجن، والصاخِّب الى حبيبة قلبه فاطمة، حيث إنفرد في وصف دلالها، وغِنجها، وإن أمرَّت، ومهما تأمر، فقلبه يفعل.
- وهو القائل في الليل إنه السوَاد، والهموم، كأمواج البحر، لاتنتهي :
وليل ٍ كموج البحر أرخى سدوله
علي َّ بأنواع الهموم ليبتلي
- وهو القائل في وصف فرسه الأشقر،
مكر ٍّ مفر ٍّ مقبل ٍ مدبر ٍ معا ً
كجلمود صخر حطَّه السيل من عل ِ
- وهو القائل في وميض البرق وتألقه في سحاب متراكم، وشبَّه هذا التألق واللمعان بحركة اليدين إذا أشير بهما وكأنه مصابيح راهب يتوهج ضوءها بما يمدها من زيت كثير :
أحار ٍ ترى برقا ً كأن وميضه
كلمع برق في حبي ّ مكلل ِ
يضيء سناه أو مصابيح راهب
أهان السّليط في الذبال المعقل
- وهو القائل في المطر الغزير المنهمِّر والسيل الجارف :
هطلاء فيها وطف ٌ
طبق الأرض تحرّى وتدُرّ
وترى الشجراء في ريِّقه
كرؤوس قطعت فيها الخُمُر
فالمطر بالنسبة لإمرؤ القيس ينهمر ويدنو من الأرض ويثبت فيها، ويغمر الأشجار فلا يبدو منها إلا أعاليها، فتبدو كأنها رؤوس قطعت وعليها الخُمر ( نساء ) والعمائم ( رجال ).
- وهو القائل في الحزن القاسي، والألم العميق، وشكوى من الدهر :
إلى عرق الثرى وشجَّت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
ونفسي سوف يسلبها وجرمي
فيلحقني وشيكا بالتراب ِ
إمرؤ القيس، لايجد أمامه إلا الموت الذي أخذ أباه وأعمامه، والذي يراه أمام عينيه .
هذه قصة شاعر ..
وهذه قصة قول ..
وهذه قصة أقوال، وأمثال على كل شفَة، ولسان.
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
٩ / تشرين الثاني ٢٠١٧
0 comments: