تكريم المُبدع زياد الرحباني بعد وفاته. كان عليه أن يموت، حتَّى يُكرَّم !!
المقدمَّة التي لا بُدَّ منها :
إتصل إبني المُقيم فِي أورلاندو/ فلوريدا مُعاتباً بأنِّي لم أحضر جنازة الفنان القدير زياد الرحباني، وطالبني بأن أكتب مُدونَّة وأنشرها على غوغل الوثائقية، وسألني ماذا سيكون عنوان المُدوَّنة، قلت له :
مات الشرف، لا بل الكرامة.
عاش النفاق، لا بل التدجيل.
ولكن خوفاً مِن العواء، وتجنب النباح، قررت تعديل عنوان المُدوَّنة كما فِي أعلاه، ولكن قُرائي يعرفون ماذا أقصد فِي هذا اللبنان الذي ابتكره لصوص هذه المغارة، وتلك الحانة على شاطئ يزخر بالغاز والبترول.
فِي المُدوَّنة :
كان العرب قبل الإسلام، مِن أكثر شعوب الأرض تكريماً لأبطالهم وشعرائهم وهم على قيد الحياة، وكان البطل في هذه الفترة التي أطلقوا عليها زوراً وبهتاناً ( الجاهليَّة ) هو الشاعر، الفارس، الكريم، الفصيح، الداهيَّة، المُتكلم الذي يعرف كيف يعقد راية السلم بين القبائل، وداخل كل قبيلة.
كانت القبائل العربيَّة، تُشعل النيران على رؤوس الجبال، إعلاناً منها، بظهور رجل فريد، يَجلِبُ الفخر، والعزَّة، والشرف، والكرامة، لقبيلته.
كرَّمت العرب قبل الإسلام أُناسٌ وهم على قيد الحياة، مثلا ً :
أُمرؤ القيس الشاعر الفذْ ...
وائل بن ربيعة التغلبي، الفارس المغوار ...
سحبان وائل، فصيح اللسان ....
حاتم الطائي، الكريم وكريم النفس ...
عمر بن العاص، الداهية الرهيب ...
في يومنا هذا …
إنقلب المعيار …
لا يُكرَّم الانسان المُبدعْ والمميز إلا بعد موته، وبعد الموت، تتشَّدق الألسن وتنهمر الكلمات وتنطق الأفواه منادية بالتكريم والتبجيل والتعظيم ....
ومِن فرط التدجيل والرياء والكذب والنفاق، يتراكضون ويتدافعون إلى الصالونات حيث تُقام الجنازة ويطلقون التصاريح، والدموع تتدفق حُزناً وأسىً، كما حصل في مأتم الفنان القدير زياد الرحباني.
اما التكريم في أُمَّة عرب اليوم، لا يطال إلا الحُكَّام، أمَّا غيرهم من الفلاسفة والاُدباء والمبدعين والموسيقيين والأطباء وأصحاب الفن الرفيع وغيرهم مغيّبون ومهّمشون، ولا يستحقون أي تكريم.
بات الانسان العربي الفريد والمميز يتمنى الموت، حتى يُقام له تكريم.
طرفة ابن العبد، الشاعر الذي عاش قبل الإسلام جرى تكريمه وهو إبن عشرين عاماً، لم تنتظر قبيلته حتى يغزو الشيبُ مفرقه أو تلين عريكته أو يتكأ عكازاً.
إن حصل تكريم في العالم العربي لإنسان كان مميزاً في حياته، فإنهم ينتظرون إلى أن يصل السبعين أو التسعين من عمره، وهو يستند إلى عصا تحميه من الوقوع أرضاً أو يصبح هرماً وقد اجتاحه الخرَف ويأتي التكريم بعد فقدان عقله حتى عن معرفة ماذا يجري.
الإنسان العربي ...
يجب أن يموت حتى يكَّرم.
وهذا ما حصل للفنان الكبير زياد الرحباني، الذي بكاه أصدقائه وأصحابه ومعارفه وجيرانه بدءً مِن مستشفى خوري مروراً بشوارع الحمراء، وصولاً إلى مرقده المحيدثة فِي بكفيا.
لم يتسنى لكل هؤلاء دخول الكنيسة، بل خُصص الصالون بأستثناء أقارب الفقيد، إلى كبار الساسة وأزلامهم وقد ذرفت الدماء … مِدراراً وتمثيلاً …الخ.
المُدوَّنات الفيصليَّة
تموز ٢٠٢٥
0 comments: