النخْوَة العربيَّة في القرى اللبنانية.
( وتعني العونة بالعامية )
المقدمة :
قال أحد الحكماء وبينما كنت أمتطي صهوة جوادي في البراري، استوقفني إعرابي يبدو عليه التعب، وطلب مني أن أُعينه في امتطاء الفرس، بدلاً منِّي.
أمسَكْته اللجام وقدَّمت له الحصان. انطلق وشَّد العنان له وبات الفرس على جري عادته كالشهب يعدو مُسرعاً.
وقبل أن يُمسي أثراً بعد عين، ناديت الاعرابي بأعلى صوتي قائلا :
( يا هذا … لا تقل للعرب، إنَّك سرقت حصاني، بل قُلْ لهم إنَّك استعرته مني. وإلَّا انقطعت النخْوة بين العرب ).
تعريف ل كلمة النخْوة أو العونة بالعامية.
النخْوة هي الحماسة او المروءة.
يقال، هذا صاحب نخْوة.
ويقال أيضاً عن العونة أي المعين والمُناصر والمُساعد.
هذه الْمُدونَّة كسابقتها ( رُبَّ أخٍ لم تَلِده أُمَّك ) حقيقية وليست ضرباً من الخيال القصصي.
القصَّة :
كانت قريتي صليما حتى الماضي القريب كبقيَّة القرى اللبنانيَّة يجتمع أبناؤها مع الشخص الذي عزم على بناء بيته، طالبين إليه وبإصرار شديد أن يُعلمهم مُسبقاً عن اليوم الذي ينوي فيه صبَّ سقف بيته ب الباطون، حتى يأتون مُهرولين راكضين وسُعداء لمساعدته وتقديم العون له.
لقاء لا شيئ … إلَّا النخْوة في المساعدة.
والمُلفت في الموضوع أنَّ مُعلِّم الباطون، وعمَّاله كانوا في يوم صب باطون السقف لا يتقاضون أجراً عن ذلك.
في هذا اليوم العرمرَّم كان يعلو الحِداء وتُسمع الزغاريد، وتشتَدُّ نخْوة الرجال ضاربين رفوشهم في تلك الجبلة يملأونها بالباطون.
وتأتيك نسوة وصبايا الحي بأشهى المأكولات.
بعد صَّب الباطون، تُقدَّم الفاكهة والقهوة المُرَّة أو حلوة المذاق.
وينفك الأهالي عن تلك ( الجمعة ) والوجوه بشوشة فرحَة والعرق يتصبَّب على الجبين.
في أواسط خمسينيات القرن الماضي كان والدي يرحمه الله في بلاد الإغتراب. كُنَّا أنا وأخوتي صغاراً في السِّن، وكانت والدتي يرحمها الله تُعيلنا في بيروت العاصمة اللبنانية.
كان عمِّي الوحيد شقيق والدي الدكتور أسد المصري يرحمه الله ضابط في الجيش الأردني برتبة كولونيل.
شاء والدي أسكنه الله أوسع رحماته أن يبني لنا بيتاً في قريتنا صليما.
إلى من يطلب ويستعين ؟.
وبعد مراسلات بريدية، مع إبن خاله المرحوم وفيق أسعد المصري، كِنيته أبو نصر المصري، ومع جدِّي والد أُمِّي المرحوم شاهين محمد المصري، كِنيته أبو حسيب المصري.
إتَّفق الثلاثة أبو حسيب وأبو نصر ووالدي يرحمهم الله، ولكنهما اشترطا على والدي أن يكون جهدهما المبذول في بناء البيت من دون مقابل.
إتفاق الشرفاء كان أن يقوم جدي أبو حسيب بالإشراف على البناء يومياً، العم أبو نصر يدفع أُجور العمال ويُسدِّد فواتير المواد.
نُفِّذَ الاتفاق وانتصب البيت بهمَّة وصدق ومحبة وتعاون أبو حسيب وأبو نصر.
يوم صبِّ الباطون للسقف الأوَّل لبيتنا، كان الأهالي والأقارب كأنَّهم في مهرجان أو عرسٍ كتلك الأعراس التي كانت تُقام في القرى قديماً. الكل يعمل وعلامات السرور والفرح بادية على وجوه الجميع. فالمحبة وفيرة فيَّاضة والدنيا كانت لا زالت بألف خير.
عندما عاد والدي من المهجر، جرى استقباله في بيته الذي تمَّ بناؤه في غِيابه.
وكما يقولون لكل امرءٍ من دهره ما تعَوَّدا.
والدي يرحمه الله اعتاد على كرَم أخواله في المهجر، ولم يكن غريباً على إبن خاله وفيق اسعد أبو نصر المقيم في صليما أن يكون كريماً ويقوم بما قام به من معروفٍ دون مقابل، حيث أشرف على بناء منزله أثناء غيابه.
ولي في أخوال والدي، سليم، وأسعد، ويوسف الذين هاجروا فِي أوائل القرن الماضي إلى جزيرتي كوراسو ( حيث وُلدت أنا وأخوتي وأختي ) و أَروبا ( حيث ترعرعت أنا وأخوتي وأختي ) والذين استقبلوا والدي بالترحاب والمساعدة في هاتين الجزيرتين بالكاريبي وكان لهم الفضل الأكبر في نجاح عمله، ونحن نكِّن لهم المحبة والوفاء لكرمهم وشهامتهم جيلاً بعد جيل.
لماذا هذه الْمُدوّنة …
هذه العادة … هذه النخْوة ..
اندثرت الآن في القرى اللبنانية ..
شاع العسَّس أي المخابرات أو المباحث أو الوشاة في القرى اللبنانية. يُبلِّغون المخافر والمراجع الرسميَّة عن قيام جارهم أو قريبهم بصَّب الباطون، وشاية صغيرة حقيرة كفيلة بأن ترى أزلام الدولة بثيابهم الرسمية يمنعون ويُوقفون البناء أو الصب.
غابت النخْوة ..
وانقطع العون ..
وساد الحسد ..
وعمَّت الغيرة ..
يرحم الله امواتكم وأمواتنا ..
برحيلهم ماتت العونة !
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
كانون الثاني ٢٠٢٣م.
عدتم والعود أحمد. مقالة جميلة
ردحذفد.فيصل . عتاب محبب ما سبب الابتعاد عن قرائك ؟ النخوة وأن أضمحلت لكنها باقية في الذاكرة ونكاد نحيا بتناولها بين الأقران ونستثمرها بإرشاد الأبناء.شكرا لك لنشر القيم المنقية للذاكرة غانم البيطار
ردحذف