يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الجمعة، 17 أغسطس 2018

مداخلة الشيخ الدكتور سامي أبي المني حول كتابي ( الموحِّدون الدروز عبر التاريخ ).

نشر من قبل Faissal El Masri  |  in دراسة  12:12 ص

​​​​المقدمة : 
يسرني ان أنشر مداخلة الشيخ الدكتور سامي أبي المني كاملة، في الندوة التي أقامتها مكتبة بعقلين الوطنية حول كتابي ( الموحِّدون الدروز عبر التاريخ ) وذلك يوم ٢٧ تموز ٢٠١٨ على صفحات غوغل، لتصبح وثيقة يرجع اليها كل طالب معرفة. 

وقد أسعدني أن أسمع إطراءات وإنتقادات الشيخ سامي أبي المني في مداخلته يوم الندوة حول كتابي المنوه به أعلاه. 

فيما يلي : 
مداخلة الشيخ د. سامي أبي المنى في الندوة حول كتاب "المدونات الفيصلية... الموحدون الدروز عبر التاريخ" للأستاذ فيصل المصري، المكتبة الوطنية، بعقلين، 27-7-2018.


المدوَّنات الفيصلية
​​​الموحِّدون الدُّروز عبر التاريخ

يجمع كتاب المدونات الفيصلية للأستاذ فيصل المصري بين دفتيه العديدَ من المواضيع المتنوعة والمتعلقة بالموحّدين الدروز، إذ يبدو كمائدةٍ غنية بأنواع الطعام والشراب الفكري والتاريخي والاجتماعي... 
تكلم فيها عن الخليفة الفاطمي الإمام الحاكم بأمر الله وعن دار الحكمة التي أنشأها في القاهرة، وتحدث عن غريزة البقاء عند الموحدين الدروز، وعمّا طالهم من المحن والفتاوى، مدافعاً ومهاجماً.. 

ولا أدري ما الذي دفعه للكتابة بذات الحماسة عن الموحِّدات والانتخابات، لكنني أفهم كلامه عن المرأة الدرزية ودورها الفعّال في الحرب والسلم، وأفهم تماماً تناوله باهتمام موضوع التجديد عند الموحدين، وعن حالهم في معمعة الربيع العربي، وهم أصحاب فكرٍ عقلانيٍّ منفتحٍ على الحياة، كما وصفهم.

وقد رأى أنه من المفيد التطرُّق إلى علاقة الموحِّدين بالأنبياء (ع) وتقديرهم لهم، كالنبي أيوب والنبي يوسف والنبي شعيب، ففي التوحيد سعةٌ وشمولية، والتحدُّثُ كذلك عن المقامات والمزارات عند الموحدين وما ترمز إليه من تقديرٍ للأنبياء والأولياء، وهي التي تهون أمام قداستها التضحيات لتحريرها إذا ما اغتُصبت وأن تُسمَّى العمليات العسكرية بأسمائها، كما حصل في عملية الأمير السيِّد لتحرير الشحار عام 1984، وفي طليعة المراكز الدينية تأتي خلوات البياضة في حاصبيا، وما ترمز إليه من صفاءٍ وبركةٍ ومَصهَرٍ للمريدين وطالبي الحكمة.

كما رأى أنه ومن الواقعي كذلك التحدث عن علاقة الموحدين الدروز باللغة العربية، وهم العرب الأقحاح المتمسكون بأصالتهم، وكذلك عن التقيّة التي تميِّز مسلكهم التوحيدي الراقي، وعن التصوُّف الذي تأثَّر به نهجُهم العرفاني، وعن بعض الشخصيات التي سجّلت أسماءها في التاريخ، كالأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي والأمير شكيب أرسلان والشيخ أمين طريف والست زهر ابي اللمع والأمير مصطفى الأطرش والمجاهد نواف غزالي والعقيد مفيد غصن والزعيم كمال بك جنبلاط والشيخ رشيد طليع والست نظيرة جنبلاط والقائد سلطان باشا الاطرش والمجاهد فضل الله هنيدي والأديب والشاعر السياسي سلامة عبيد، وما لفتني أنه  لم ينس من بينهم أخوت شانيه حسن حمزة، ولو أنه أتى من خارج السياق، ولكنني سُررتُ بذكر مآثره وطرائفه مدوَّنةً في الفيصليات، وهو ابنُ بلدتي الغالية شانيه.

لم يكتفِ الكاتبُ بذلك، بل ربط بعض مدوّناته بأماكنَ وشخصياتٍ وأحداث ومشاهدات، متحدّثاً عن صلاح الدين الأيوبي وإساءاته للموحدين في مهد دعوتهم في القاهرة، وعن جمال عبد الناصر وعلاقته بكمال جنبلاط وقد كان يُسمِّيه "معلمي"، وعن المملكة العربية السعودية وبلاد الشام وما للموحدين فيهما من موقعٍ ومكانة، ولم يغفل أن يُفرِدَ مدوَّنةً لقرية حضر ولباب الحارة الدمشقي الذي رمى بأطنان عتبِه وانتقادِه عليه لإهمالِ مسلسلِه التلفزيوني وإغفالِه جهادَ بني معروفَ في الساحة الدمشقية خصوصاً، والسوريةِ عموماً، 

ولربَّما تميَز بما كتبه عن بلدته التاريخية صليما وعن بعقلينَ القصبةِ الهوائية، غيرَ غافلٍ أن يتناولَ مواضيعَ تتعلق بالألوان والأديان وبليلة الجمعة وبالأقليات والاستابلشمنت الدينية والعائلات الدرزية وحقوق الإنسان، وأن يتصدّى بالرد على عقائد الألوهة الباطلة، ويدحضَ التهديد والوعيد اللذين طالا الموحدين، متناولاً واقعَ العرب قبل الإسلام، ومتحدِّثاً عن الوثنية والجاهلية والصابئة والمندائيين وسرِّ العلاقة بين الإمبراطورية الفارسية واليهود، كما بين الإمبراطورية العثمانية والعرب من جهة واليهود من جهة ثانية، متناولاً محنةَ الدين الإسلامي في التاريخ ومحنة الأديان السماوية الأُخرى، ومراتبَ التصوّف الروحية في الأديان السماوية، مدوِّناً ما يعرفُه عن الديانة البوذية واستقطابها المريدين، وعن سقوط المجد التليد للعرب والمسلمين، وعن أصول كتابة التاريخ.

لن أتمكن من تناولِ كلِّ ما حوته مائدةُ الفيصليات المتنوِّعة، ولن أقولَ الدَّسِمة، فالدَّسَمُ مُضِرٌّ في زمنِنا الحاضر، حيث لم نعد نُرهقُ أنفسَنا بالعمل المُضني، ولا نفرُزُ العرقَ ونُتعِبُ العضَل، لكنني أتوقّف عند بعض أهمِ ما ورد في الكتاب، وقد لفتني تقييمُه لكتابَي عبدالله النجار وسامي مكارم، مثنياً على مقدمة كمال جنبلاط لكتاب "أضواء على مسلك التوحيد"، باكورة مؤلفات الدكتور سامي مكارم، والذي جاء توضيحياً بعد الضجة التي أثارها صدور كتاب الأستاذ عبدالله النجار "مذهب الدروز والتوحيد" في منتصف ستينيات القرن الماضي، وما قال نعيمة عن مقدمة كمال جنبلاط الثريّة، والتي اعتبرها بعضُ المشايخ الموحدين من أهم ما كُتب عن مسلك التوحيد حتى الآن، منتقداً الدكتور مكارم بكونه يتكلم عن التقية ويرد في الوقت نفسِه على "حثالة" المفترين، وهذا تناقضٌ برأيه... 

لكنه ظلم د. مكارم ولم يُشر من قريبٍ أو بعيد إلى ما كتبه لاحقاً وما أصابَ فيه بعمقٍ ودقة، في مواضيع التقية في الإسلام والعرفان ومسلك التوحيد وسواها من المواضيع ذات الصلة.
لم يتطرَّق الأستاذ فيصل المصري إلى مواضيع العقيدة، وهذه إيجابية تُسجَّل له، وهو الناشر على صفحات "غوغل"، وله متابعوه الذين يُعَدُّون بمئات الآلاف، وإن كان أورد بعضَ التعريفات للتوحيد وعلاقتِه بالفلسفة اليونانية والعرفان الغنوصي، كما يقول، وبالطبع هذا ليس كافياً، وهو يُدركُ وتدركون أنَّ التوحيد مودوعٌ في الفكر الإنساني الموغل في القدم وفي الشرائع السماوية، كما في اختبارات التحقُق الروحي العرفاني، وقد اعتبر أن شرح العقيدة وتجديدها توقفا عند الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي (ق)، معتبراً أنه لولا السياسةُ اللبنانية وانشغالاتها لكان من الممكن اعتبارُ كمال جنبلاط المجدِّدَ الثاني بعد الأمير السيِّد، وهذا رأيٌ يحتاجُ إلى بحثٍ معمَّق، فكمال جنبلاط كان عالماً شموليَّاً مجدِّداً في ما كتبه، والأميرُ السيِّد كان عالماً فقيهاً ومفسِّراً قدوةً مُلتزماً في علمِه حدودَ المسلك والعقيدة، لكنَّ الأستاذ المصري أشار إلى أن كمال جنبلاط ألمح إلى الحاجة للتجديد في كلمته في افتتاح مدارس العرفان في العام 1974، دون أن يخوض صديقُنا الكريم في أسباب عدم التجديد، لعدم معرفته ببواطن العقيدة أو للامتناع عن ذلك بسبب التقية، كما يقول، معتبراً أن بعض المحاولات وصلت إلى خواتيمَ مسدودة، ونحن أدرى بأنَّ التوحيدَ ليس بحاجة إلى تجديد إنَّما إلى فَهمٍ وتطبيق، إذ هو مسلكُ ارتقاءٍ وتحقُّقٍ لا يقوم إلَّا بالعلم والعمل معاً، أي بتحقيق المعرفة بالممارسة، وتلك هي الحكمةُ وذلك هو التوحيد.
وإذ يتطرَّق الأستاذ المصري إلى موضوع التقية، يُشير إلى رسالة ميخائيل نعيمة لكمال جنبلاط تعقيباً على مقدمته لكتاب د. مكارم، حيث يقول فيها: 

"... لقد شدّدتَ على حرمة الحقيقة وضرورة كتمها عن الذين لم يبلغوا بعد ذلك المستوى من التفتُّح الروحي والنضج الخلقي الذي يؤهِّلهم لاقتبالها وصيانتها من الفساد، وهؤلاءِ هم الكثرةُ الساحقة في الأرض... لكنني أقول، أي نعَيمة: إذا كان لنا أن نحتكر نورَ الشمس أو أن نُبيحه للبعض ونحجبَه عن البعض كان لنا أن نحتكر الحقيقة فنحصرَ نورها في طائفة من الناس دون كل الناس..."  

وهذا كلامُ حقٍّ لا يناقضُ برأيي نظرية كمال جنبلاط، التي تجاوز فيها موضوعَ الاستتار إلى ما هو أرقى وأبعدُ من التمسُّك بالظاهر والاختلاف بشأنه، أي إلى ضرورة مطابقة الأفعال للأقوال، وأهمية الترقّي في اختبارات الحياة والعلاقة مع الله الحقّ، ولعله من المناسب أن أذكرَ ما عبَّرتُ به يوماً عن تلك النظرة شعراً، فأستشهد به وأقول :

قُمْ  ناجِ   ربَّك، عاندْ   مَن  يُعاندُهُ​​وصارعِ الشرَّ  وﭐصرعْ  مَن  يُساندُهُ

مَن  قال   إنّ    سبيلَ   الله    يُدرِكُه​​مَن   عطَّلَ  العقلَ،  والإرهابُ رائدُهُ

مَن  ذا   يقولُ    بأنّ    اللهَ   مُحتَكَرٌ​​لبعضِ   دينٍ،   وما  عمّت محامدُهُ

مَن  أضمرَ  الحقدَ  لا  مَنجى له  أبداً​​ومَن   أحبَّ  بصدقٍ،  فهْو حاصِدُهُ

مقاصدُ   الدينِ   في  الأديانِ  واحدةٌ​​واللهُ   يقبلُ  مَن   طابتْ  مقاصدُهُ.

فلنُصلِحِ   الذاتَ  قبلَ  الآخَرين، وإنْ​​​لم  نُصلِحِ   الذاتَ، لا تَكفي مساجدُهُ

كلُّ   الأماكنِ   تَبقى   عندنا  حجراً​​​إنْ  لم  يُرَ  النورُ في  شوقٍ  نُكابدُهُ

ليس   المكانُ،   ولكنْ   ما   نُعمِّرُه​​​بالحبِّ،  والحبُّ  أغلى  ما نُشاهدُهُ.

أعود إلى الكتاب ..
فأقول إنّ ما يخطر ببال فيصل المصري ربما لم يخطر ببال أحد، فهو المنتمي بصدقٍ وقوة إلى طائفته التوحيدية، يؤلمُه ما تعرضت له عبر التاريخ من افتراءات ومحن وإساءات، ابتداءاً من تعرُّض الموحِّدين لنوعٍ من الإبادة في مصرَ على يد صلاح الدين الأيوبي الكردي، وحرق دار الحكمة وسرقتها على يد العثمانيين في ما بعد، معتبراً أن تدمير الذاكرة العربية الأصيلة جاء مراراً على يد مسلمي الأطراف، كتدمير دار الحكمة في بغداد على يد المغول ودار الحكمة في مصر على يد الأيوبيين والعثمانيين وتدمير حضارة الأندلس التي سرقها اليهود وأعطَوها للعثمانيين، وهو ما يحصل اليوم تكراراً في اليمن والعراق وسوريا... 

تلك النظرة أو النظرية التحليلية عند الأستاذ فيصل تحتاج إلى تدقيقٍ وتتطلب أخذ العبرة مما جرى، ولكن ويا للأسف، لا مَن يرى ولا مَن يسمع.
حماستُه للإمام الحاكم بأمر الله مبرَّرة وواقعية، فهو يتناول شخصية استثنائية حيَّرت العلماءَ والمؤرخين، وأحدثت ثورة فكرية اجتماعية عارمة وأيقظت الفكر العربي الإسلامي الغارق في سُبات الفتاوى والفقه والاختلافات السطحية وانعدام الرؤية والحرية وتغليب النقل على العقل وعدم إقامة التوازن بينهما... 

فها هو يربط نهج قادة الموحدين عبر التاريخ بنهج الإمام الحاكم في الثبات والمساواة والعدالة، مثمّناً ما قال بعض المستشرقين والعرب عن الإمام الحاكم... 

وها هو يستعرض المحن التي مرت على الموحِّدين، وصولاً إلى محنة الفتاوى ومجازر المماليك وغيرها من ضروب الاضطهاد التي طالتهم، منفعلاً في الرد على بعض الفتاوى، لكنه ينقضّ على المتطاولين والمسيئين بسيفٍ قاطعٍ وأسلوب قاسٍ، مستعملاً كلماتٍ جارحةً، كالحثالة والسفهاء والسفَلة والحقراء والزمرة الحاقدة والمنافقة وغير ذلك من الكلمات والعبارات التي تردُّ الكَيلَ كيلين، علماً أنّ هذا الأسلوب مخالفٌ بنظرنا لتعاليم دينِنا ومسلكِنا الشريف القاضي بالتعامل بالتي هي أحسن، وبعدم المكاشفة بالعدائية الموصوفة، وهو ما لا يُقبَل من علماء الدين، أمَّا الأستاذ فيصل
 فربَّما يكون له حقُّ التعبير كما يشاء، وهو لا شكَّ صادقٌ في التعبير عن مشاعرِه وعن حقائق التاريخ المؤسفة، لكن ذلك مخالفٌ أيضاً لأصول الحوار مع الآخر المختلف دينياً ومذهبياً؛ فهو يستخدم أسلوباً نافراً في السجال المستفزّ في نقد المفهوم الإسلامي في كثير من المسائل، مما يجعلنا كطائفة في موضع شجب من عامة فقهاء المسلمين ومؤرخيهم، وهذا بحدِّ ذاتِه مناقضٌ لمبدأ إقامة الشريعة مع أهلِها ولمبدأ الملاطفة والمداراة والاستتار بالمألوف حيث تقضي الحاجة.
ملاحظة أخرى تُؤخَذ على المدونات أنها تفتقد أحياناً التوثيق المنهجي والعلمي، ولا تعتمد على مصادر ومراجع مدقَّقة حسب الأصول، كالاجتهاد في مسألة سِدرة المنتهى بشكل غير دقيق، (وهي في المفهوم السني شجرةُ نبق ظليلة يتصورونها من على يمين العرش في السماء السابعة)... كما أنها وردت بضمِّ السين (سُدرة) بينما هي بالكسر (سِدرة)، ومثل ذلك كثير من عدم الدقّة في بعض المفاهيم، فضلا عن العديد من الأخطاء اللغوية، والتي كنت أتمنى لو تمَّت مراجعة المدوَّنات من أحد اللغويين قبل نشرها.
من ناحيةٍ أُخرى، وفي نقدٍ تاريخي، وأنا مثلُه لست مؤرِّخاً، لكنَّ مطالعة الأستاذ إبراهيم العاقل للكتاب أفضت بعدة ملاحظات منها اعتراضُه على تبرئة أديب الشيشكلي من مسؤولية الحملة العسكرية على جبل الدروز، بالاستناد إلى رواية ابنة الشيشكلي التي تلقي بمسؤولية الحملة على عاتق رئيس أركان الجيش السوري الزعيم شوكت شقير وعلى قائد الحملة رسمي القدسي، معتبراً أن هذه رواية لا تؤيدها الوقائع، وأن كلام ابنة الشيشكلي ليس وثيقة، فقد كان أخوه صلاح الشيشكلي يرتكب الفظائع في المقرن الشرقي من الجبل، فهل كان ذلك بغير أمر الديكتاتور؟ كما كان القدسي يفعل الفعل نفسه في السويداء والمقرن القبلي، ومتسائلاً: لو أعلنت ابنة هتلر براءة أبيها من مسؤولية مصائب النازية فهل نأخذ بكلامها؟ ومن المعروف أن الشيشكلي كان يتَّهم الدروز بالخيانة العظمى ويستعدي محمد نجيب وحكام العرب على أهلنا.
أقولُ هذا بمحبةٍ وصراحة، فما يُكتَبُ عن الموحدين يهمُّنا جميعاً، والأستاذ فيصل حملَ هذا الهمَّ عالميَّاً على عاتقه، لكنني أتمنى كتابةَ أبحاثٍ معمَّقة حيث يُرجى التعمُّق، ومبسَّطة حيث يجب التسطيح، فها هو يتكلَّم بإسهابٍ عن قصة سلمان الفارسي، لكنه لا يتعمق بذكر فضل سلمان على الإسلام وعن مكانته عند الله تعالى ورسوله وما قيل عنها في مراجع التاريخ الإسلامي، ومنها ما روي عن جبريل وقدومه المتكرر على النبي محمد، وإقرائه السلام في كلِّ مرَّةٍ على سلمان من ربِّ جبريل ومحمد... وما نُقل عن النبي قولُه: "إن الجنة تشتاق إلى سلمان أكثرَ من شوق سلمان إلى لجنة"، وقوله (ص) "إن سلمان منا آل البيت"، ومثل ذلك كثير ممَّا يحمل دلالةً واضحة على عظَمة سلمان ومنزلته، وهذا لا يَعفينا ويَعفي غيرَنا من المسؤولية، فالأستاذ فيصل أضاء شمعةً وما علينا إلَّا التعمُّقُ في البحث والإضاءة.
إلَّا أنني وإن تجاوزت بعضَ المدوَّنات لعدم طاقتي على تناولِها جميعِها في هذه الندوة، لن أسكتَ عن وثيقة ينشرها في إحدى مدوّناته، تشير إلى أماكن انتشار الدروز في العالم، كما يقول، وقد تناولتها وسائل التواصل الاجتماعي منذ فترة، لكنها تحتاج إلى تدقيقٍ وتوثيقٍ وتحقيق، ولا يمكن أن نتبناها بحالٍ من الأحوال، بالرغم من اعتقادنا أن الموحِّدين منتشرون في أقطار الأرض بما يحملونه من عقيدة توحيدية وما يتميزون به من مسلك عقلاني عرفاني، لا بما يحملونه من أسماءٍ وحسب، كاسم "الدروز" أو سواه، ممَّا لا يجوز اعتمادُه للدلالة على التوحيد.
تلك الملاحظات التاريخية والفكرية واللغوية والاحكام المتشدِّدة التي سقتُها وسيسوقها سواي ممَّن سيتمتَّع ويتعمَّق بقراءة الكتاب لا تنفي وجود أفكارٍ قيِّمة وجيدة فيه، مع ما يلزمه من مراجعة وإعادة صياغة ليكون أكثرَ ملاءمةً لصاحبه الكريم أولاً، وللطائفة المعروفية عموماً. 

غير أنني أرغب التوقّف أخيراً عند ما تناوله الأستاذ المصري مشكوراً حول تمكُّن القادة الدروز عبر التاريخ من تحييد الطائفة عن الأخطار المحدقة بها، كالست نظيرة جنبلاط والشيخ أمين طريف ووليد بك جنبلاط، وقد استطاع مراراً تحييد طائفته، وقيادتَها بحكمةٍ عالية، وسط بحرٍ هائجٍ من التجاذبات والصراعات والفتن المذهبية، على خلفية الأزمة السورية، وبالتالي "إعطاء طائفته دوراً سياسيّاً أكبرَ من حجمها الواقعي و"العددي" في المعادلة واللعبة السياسية الداخلية، كما يقول أحدُ المحللين الصحفيين، حتى أصبحت، بفضل ليونته ومواقفه المثيرة للجدل أحياناً، لا تقاس بحجمها وعددها، فرغم أنها مصنَّفة خارج الطوائف الثلاث الكبرى، إلا أنها تقاس اليوم بدورها الذي ابتكره وليد جنبلاط، بذكاءٍ وحنكة وحكمة وبُعد نظر، وهو الدور الواقعي الذي يقيم توازناً بين السنّة والشيعة، من دون انحيازٍ مطلّق إلى فريق دون آخر، وهو دورٌ توفيقي وتقريبي بين الطرفَين، فيما يشبه "الحياد الإيجابي"...؛ وقد تمكن وليد جنبلاط من تكوين "الموقع الوسطي" له، وسط الانقسام العامودي للبلاد، ومن إتقان سياسة فن "الممكن والواقعي"". كما تمكّن، من خلال موقع زعامته المؤثِّر، وعلاقاته المحلية والإقليمية والدولية الواسعة، ومن خلال مبادراته المتعددة التي أكّد فيها حرصه على الحفاظ على صيغة العيش المشترَك وعودة المهجَّرين وقيام الدولة الديمقراطية العادلة.

أستشهد بهذا القول لأُشير إلى أن الكتابة في الماضي ومآسيه لا يصنع حاضراً آمناً ومستقبلاً واعداً لأبنائنا بقدر ما هو مطلوبٌ منَّا أخذُ العبرة ليس إلَّا، والتطلُّع إلى الأمام والكتابة للمستقبل، وأستشهد بوليد جنبلاط لأؤكِّد على أهمية هذه الرؤية الحوارية المناقضة للصدام التي يتبناها، والتي هي في صميم تكوين الموحدين الدروز وثقافتهم، وقد عبّر عنها بالقول: 

"إن على "الدروز" أن يحافظوا على رسالتهم التاريخية، وأن يلعبوا دوراً وسطياً، وألّا يكونوا بعد اليوم، رأسَ حربةٍ في مواجهة أيٍّ من أخوانهم في الداخل"، وهو ما أكَّده لاحقاً في معرض تناوله الصراع السني الشيعي وأحداث سوريا، وقد أورد المؤلّف قولَه "الموزون بميزان الذهب"، كما يقول : "بوحدتنا نستطيع تجاوز المرحلة، وبالوعي والهدوء وعدم التطرُّف، لأن التطرُّفَ هلاكٌ لنا"، وهذا ما يجب التأكيد عليه اليوم في ظلِّ ما نسمع من كلامٍ غير مسؤول، وما نرى من انقضاضٍ على المصالحة ووحدة الجبل، وما يحلمُ به الحاقدون القدامى والجُدد من مشاريعَ سلطوية، وهم يتناسَون أنَّ الجبلَ أقوى والتوحيدَ أرفع، وأن العودَ لا بدَّ أن يعودَ إلى أصلِه بعد أن ينفضَ عنع غبارَ المعارك الوهمية والسياسات الوصولية.
وأمام مشهد ما حصل في السويداء منذ يومين من هجوم غادر للتكفيريين "الداعشيين" على بعض القرى الآمنة، وقتلهم أكثر من 225 من أبنائها العزَّل، وخطفهم آخرين، اسمحوا لي أن أختم بقصيدة عنوانها "غضب السويداء"، تحية إلى إخواننا الموحدين وإلى أرواح الشهداء الأبرياء.

هذه كانت :
مداخلة الشيخ الدكتور سامي أبي المني. 
مع تحياتي واحترامي. 
والشكر الجزيل لشخصه الكريم. 

فيصل المصري. 


0 comments:

Blogger Template By: Bloggertheme9