قيس و ليلى …
قصة العشق الأُسطوري
التي إنقرضت .
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
قال صاحبي بدأت أنبهر ويأخذني الحنين كُلما أقرأ مُدونَّاتك عن العرب الأوائل حيث الكرم والسخاء والوفاء بالعهد والصِدق والشجاعة والأنفة وعزَّة النفس والنجدة والمروءة والحلم والصبر على المكاره وقوَّة الاحتمال والتفاخر والزهو.
وأضاف صاحبي أنهكتنا أخبار حُثالَّة حُكامنا، وزاد في قلقنا مواقف رجال الدين في كلِ الأديان السماويَّة الذين غضُّوا الطرف والعين عن سرقات الحُكَّام وكأنَّهم فيها :
( لا عين رأت ولا أُذن سمعت )
أجبت صاحبي :
مهلاً مهلاً …
لك ما تريد …
في هذه القِصَّة التي أنشرها الآن سأروي الظمأ عندك وعند قُرائي الأعزاء الذين ملَّت أذانهم سماع أخبار العرب الجُدَّد الذين تفشَّى الجهل المُطبّق عندهم، وأمعنوا في التَّزمت الديني حروباً وتنكيلاً حتى أصبحنا في عصر الظُلمات من همجيَّة وانحطاط، وباتت الغلبَّة دائما وأبداً ( للخائن والكاذب والسارق والجبان ) والمتسوِّل أمام باب السفارات، وبفضل هذه الحُثالَة من الحُكَّام أصبحنا أُمَّة لا تحترمنا دول الكرة الأرضية.
تمهيد :
سرَت قِصَّة الحب السرمدِي والأُسطوري ما بين ( قيس وليلى ) في الناس كسريان الليل والنهار، ودوران الكواكب حول نفسها وحول الشمس، والقمر حول الارض حتى غدَت أُسطورة يرويها التاريخ، ويستأنس بها البشر في كل الأقطار العربيَّة.
مكان هذا الحب الملحمِي هو في ( جبل التوباد ) في المملكة العربيَّة السعوديَّة الآن. هذا المكان ارتبط إسمه بالشخصيتين الأُسطوريتين، وأمسى الشخصية الثالثة لهذا الولع والعشق التاريخي في رواية قيس وليلى.
تكرَّر ذكر هذه الرواية على مرِّ الأجيال، حتى أنَّ قارئ اليوم قد يستهجِن هذا الحُّب، ولا يدرك خيوط الرواية، ولا يُصدِّق أنَّ البشَر فيما مضى كانت مشاعرهم بهذه الرِّقة، ولا يعرف من أين كانت البداية وكيف كانت النهاية.
إذن ..
من هو قيس ؟
ومن هي ليلى ؟
وأين توجد آثارهما ؟
ولماذا إفترقا ؟
وهل التقيا بعد الفراق ؟
وهل انحصر قول الشعر على قيس دون ليلى ؟
أم كانت هي الأخرى شاعرة لا يشق لها غبار !
ومن سبق الآخر إلى القبر ؟
كل ذلك سيتضِّح من خلال تلك السطور التي اختصرت الرواية الخالدة ( قيس وليلى ) ...
في المُدونَّة :
من هو قيس ؟
هو قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر، وهو ( مجنون ليلى ).
عشق كل منهما الآخر وقد أصابت قيساً لوثَة جنون لشدَّة عشقه لها، فلُقِّب بالمجنون.
يقول الأصمعي عن قيس :
( لم يكن محموماً ولكن كان فيه لوثة كلوثة أبي حيَّة )
ويقول إبن قتيبة عن قيس أيضاً :
( وهو من أشعر الناس وتلوَّث شعره بكثير من الأساطير والانتحالات والمقولات، فصار كل من يقول شعراً في ليلى ينسبه للمجنون ) .
ومن هي ليلى ؟
هي ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيهة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر.
عاشا صغيرين في ديار بني عامر بالقرب من جبل التوباد في بلدة الغيل في الأفلاج، يرعيان غنم أهلهما، وقد عاش هذان العاشقان في خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان في العصر الأموي.
توطَّدت العلاقة بين قيس وليلى حتى عشق كل منهما الآخر، ولكنَّهما لم يتجاوزا الخطوط الحمراء التي حرَّمها الشرع والتقاليد فظلا تحت وطأة العشق العذري ردحاً من الزمن حتى قال قيس المجنون :
تعلقت ليلى وهي غرُّ صغيرة
ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجم
صغيران نرعى البهم يا ليت أنَّنا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وكان جبل التوباد يمثِّل ملاذاً آمناً ل قيس حيث ينعزل ويعود إليه هرباً من أعين الناس.
وقال في جبل التوباد الذي أمسى الشخصيَّة الثالثة لهذا المُجون الأُسطوري.
وأجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رآني
وأذرفت دمع العين لمَّا عرفته
ونادى بأعلى صوته فدعاني
وهذا يؤكِّد أنَّ جبل التوباد ظلَّ شاهداً على العشق، وكان له حضوراً قوياً في قِصَّة قيس وليلى.
وتقول الأخبار والروايات أنَّ قيساً أراد أن ينهي صراع غرامه مع ليلى.
تقدَّم إلى عمه يريد ليلى، لكنَّ والدها رفض طلبه لأنَّ العادات العربية تنبذ العشق، ولا تقبل به خاصةً إذا انكشف أمره، فتكون العقوبة حرمان العاشقين من بعضهما، وبهذا يكون أبسط وأخَّف عقاب يلحق بهما.
حينما أعلن والد ليلى رفضه ل قيس وحرمانه منها، رحل قيس إلى تيماء بعيداً عن كلام الناس.
هذا الفراق القسري أشعل نار الشوق إلى ليلى، وأجَّج شُعلَة الغرام في قلبه، حتى وصل منسوب الهيام عند قيس أن هام وركب الصحاري بحثاً عن أطلال ليلى.
كان دائماً يُعلِّل النفس بأن يلقى ليلى وكان دوماً يلوم الصبر ويطلب إليه أن يتحمَّل.
وكان يُعزِّز الفؤاد بالقول والإنشاد ...
ألا أيُّها القلبُ اللجوجُ المعذلُ
أفقء على طلاب البيض إن كنت تعقلُ
أفقء قد أفاق الوامقون وإنَّما
تماديك في ليلى ضلال مضلل
سلا كل ذي ود عن الحب وارعوى
وأنت بليلى مستهام موكل
إلى أن قال :
تعزّ بصبر واستعن بجلادةٍ
فصبرك عمَّن لا يواتيك أجمل
فحبي لها حب مقيم مخلَّدُ
بأحشاء قلبي والفؤاد مُعلَّل
أمَّا ليلى فإحتضن فؤادها قسوة العشق والفراق حتى انفطَر ألماً وهذا ما رواه إبن قتيبة وأكدَّه في كتابه الشعر والشعراء حيث قال :
أنَّه خرج رجل من بني مرَّة إلى الشام مما يلي تيماء، فإذا هو بخيمة عظيمة وقد أصابه المطر، فتنحنح فإذا إمرأة قد كلمته فقالت :
إنزل يا هذا … فنزلتُ ..
فقالت يا عبد الله أي بلاد نجد وطئت قدماك ؟
فقلت، كلها ..
قالت، بمن نزلت ..
فقلت، ببني عامر ..
فتنفَّست الصعداء ..
ثم قالت، هل سمعت بذكر فتىً يقال له قيس يُلقَّب بالمجنون
فقلت، أي والله سمعت عنه.
نزلت بضيافة أبيه، وقابلته ونظرت إليه ..
قالت، وما حاله ..
قلت، يهيم في تلك الغياض والبراري ويكون مع الوحوش، لا يعقل ولا يفهم إلَّا أن تُذكر له ليلى فيبكي بكاءً مراً وحزناً وقهراً وينشد أشعاراً يقولها في ليلى.
قال :
فرفعَت الستار بيني وبينها ..
فإذا شقة قمر لم تر عيني مثلاً قط ..
فبكَت وانتحبَت حتى ظننت والله أنَّ قلبها قد انصدع.
فقلت، أيَّتها المرأة أما تتَّقين الله ..
أرى الألم يقتلك، والحُزن يأخذ بقية عُمرك.
فمكثتْ طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب.
ثم قالت شعراً فيه أنهار من الدموع والآهات.
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة
متى رحل قيس مستقل فراجعُ
بنفسي من لا يستقل برحله
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائعُ
ثم بكَت حتى غشي عليها ..
فلما أفاقت، قلت ..
ومن أنتِ يا .. أمةَ الله ؟
قالت :
أنا ليلى المشؤومة عليه غير المواسية له ...
وأردفت قائلة وهي تجهش بالبكاء الندم لم يسكُنني على العمر الذي أمضيته مع قيس، ولو طُلِب مني أن أُعيد عُمري مِن أوله، لمَا ترددت أن أعود إلى جبل التوباد حيث هو ينتظرني حتى نُعيد حياتنا مِن جديد.
فمكثَتْ طويلاً على تلك الحال من البكاء ..
وبقيت تكرر هذا القول
ليتني أُعيد عُمري مِن أوله.
فما رأيت مثل حزنها عليه ..
وتقول الأخبار والروايات ...
رحلَت ليلى عن الحياة ...
دون أن تودِّع قيساً وداعاً حاراً يعبِّر عن ما يجول في خاطرها تجاهه، كما أنَّها تركته دون أن يلقي عليها النظرة الأخيرة.
ومن الأخبار المتوارثة أيضاً أنَّه في الديوان المنسوب إلى أبي بكر الوالبي نصٌ قاطع بوفاتها قبل قيس، وذلك أنَّه مرَّ به فارسان، فنعيا إليه ليلى وقالا له :
مضت لسبيلها ..
فقال :
أيا ناعيي ليلى بجانب هضبة
أما كان ينعاها إليَّ سواكما
ويا ناعيي ليلى بجانب هضبة
فمن بعد ليلى لا أمرت قواكما
ويا ناعيي ليلى لقد هجتما لنا
تباريح نوح في الديار كلاكما
فلا عشتما إلَّا حليفي مصيبة
ولا متما حتى يطول بلاكما
ثم مضى قيس حتى دخل ديار ليلى وأهلها فقدم عليهم وعزَّاهم وعزُّوه ..
وقال :
دلُّوني على قبرها ..
فلمَّا عرفه رمى بنفسه عليه وأنشد :
أيا قبر ليلى لو شهدناك أعولت
عليك نساءُ من فصيح ومن عجم
ويا قبر ليلى أكرمن محلها
يكن لك ما عشنا بها نعم
ويا قبر ليلى ما تضمنت قبلها
شبيها لليلى ذا عفاف وذا كرم
ولم يطل الزمان حيث لحق قيس بمعشوقته ليلى سنة ٧٠ للهجرة وبذلك أسدل الستار على رواية صاغ الزمان أحداثها. فقرأها سكَّان الأرض بكل اللغات، وبقيت شاهداً على جمال العشق وآهاته.
لم ينجح الأدباء والشعراء ومخرجي الأفلام وجميع الممثلين والممثلات من تصوير أو اقتباس كتابة أو صياغة هذا العشق الخالد، أو هذا الحب الأُسطوري.
فبقي البطل قيس.
وبقيت البطلة ليلى.
دون سواهما.
وبقي الشاهد .
جبل التوباد.
دون سواه.
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
أذار ٢٠٢٣م
المرجع : المدوَّنات الفيصليَّة
أعلام وحوادث وشخصيات تاريخية
الطبعة الأولى حزيران ٢٠١٨م
جميلة جدآ
ردحذف