إمرأة الوادي المُقدَّس.
الفصل الثاني.
مشهد الوادي في ذلك اليوم لم يكن مألوفاً، فالرجل الكهل الذي كان يُفلفش ويقرأ أوراق الأغصان ومن ثم يقوم بجمعها حيث يُفرغ جيوبه من كل مأكل أو مشرب ليحتفظ بها، لفت نظر إمرأة الوادي.
تعجَّبت لأمر هذا العجوز كيف أدرك ما كُتِب على الأوراق وفهم معاني الكلمات. لم تأبه كونه عتياً في العمر بقدر ما لفت نظرها العلم الواصل اليه.
فاجأت إمرأة الوادي المُقدَّس الرجل العجوز وهو يلملم أوراق الأغصان ويقوم بتوضيبها فنهرته بصوت عالٍ :
( ماذا تفعل هنا ) ؟؟ وما هذا.. الذي تجمعه من أوراق أغصانٍ مُتساقطة ذابلة وضامرة ؟.
هاله الصوت وارتبك العجوز ولم يعد يقوَ على الإجابة وانهارت قواه بعد أن تجمَّعت حوله الوحوش الكاسرة والحيوانات الضارية تزأر بأصواتها من كل حدبٍ وصوب.
تعالت الأصوات واختلطت إلى أن وضعت إمرأة الوادي المُقدَّس حداً لها، فزجرت الحيوانات طالبة السكوت والخنوع والخشوع.
فامتثلت لها.
ساد الصمت وهدأت الأجواء وخلت من الأصوات. تقدَّمت المرأة نحو العجوز تسأله :
من أنت ؟
ولماذا أنت هنا ؟
واستدركت طالبةً إليه نزع حذائه، لأنَّها أرضٌ مُقدِّسة.
هدَّأ الرجل العجوز من روعه وزال الخوف الذي كان يمتلكه فبدأ وقصَّ على المرأة قصَّته حرفياً …
سمحت له أن يُكمل ما كان منكَّباً عليه وجمع ما يشاء من أوراق الشجر.
جمع العجوز ما أراد من الأرواق، وعندما التفت لشكر المرأة لأنَّها سمحت له بذلك، لم يجدها واختفت عن ناظريه.
أصابه الحزن. واعتراه الخوف من جديد.
لم يُبدِّد ذلك سوى استئناسه بمتابعة جمع ما يراه مفيداً من الأوراق. من بين الأرواق لفتت نظره واحدة التقطها عن الأرض، فإذا بها رسالة موجَّهة من إمرأة الوادي إليه أفادته فيها أن ينتظر رسالة تُخبره من هي.
عودة العجوز إلى دياره لم يكن عادياً هذه المرَّة، فسحر تلك المرأة أخذه بعيداً، وحفر على أوراق قلبه كلمات قد يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفك رموزها وأحرُفِها.
التحسُّر على أيَّام الشباب والصبا كان من النتائج الأولى لرؤية تلك المرأة، وتبدُّل إشارات القلب والعقل من التي كان يبحث عنها طوال سني عمره إلى هذه المرأة، كان من النتائج الثانية لتلك الرحلة التي قادته إلى ذلك الوادي ولقائه بتلك المرأة.
غربته طالت، والطائر الميمون الذي سيحمل له تلك الأُقصوصة الورقيَّة التي تحكي له إمرأة الوادي المُقدَّس عن نفسها، ينتظرها على أحرٍّ من الجمر، فالشوق لأخبارها وأحوال رعيِّتها كبير، ومعرفة ما تكتبه على أوراق الشجر أكبر.
فالانتظار لا بُدَّ أن يحطَّ رحاله والطائر لا بدَّ أن يعود من مواسم الرحيل وهو ما حصل مع الهدهد الذي حمل تلك الأُقصوصة وفيها تقول له :
غيابك عنِّي هذه السنه قد آلمني.
والشوق إليك يزيد من أحزاني.
والنوم غاب عن أجفاني.
وحُبُّك هو كل أحلامي.
عُد إليَّ لأن وجهك ما زال في خيالي.
فمَنْ غيرك يفهمني.
ومَنْ غيرك يقرأ أوراقي.
الرجل العجوز اعترته الدهشة، ولم تُصدِّق عيناه بعدما قرأ تلك الرسالة، أنَّ هذه المرأة الفائقة الجمال تكتب إليه هذا الكلام. بدأ التفكير المضني والقاتل، كيف له أن يذهب اليها ؟. وقد طلب من الطيور المهاجرة عدم التوقُّف في هجرتها.
صحته تدهورت وحاله ساءت وحياته انقلبت إلى تعاسة. بدأ يعدُّ أيَّامه ونهش قلبه الندامة. تجمَّعت أحزان الكون في قلبه وسطَّرت على صفحة وجهه شقوقاً من الصعب أن تمحوها الأيَّام. الندم على حبيبته الاولى والشيخوخة التي لا تخوِّله قضاء بقيَّة عمره مع شابة في مقتبل عمرها قضَّا مضجعه.
لم تعد أيَّام امرأة الوادي المُقدَّس كما كانت، فانتظار الهدهد الذي تأخر في العودة بدَّل أيَّامها. لم تعد ترتَّل كل شروق شمس أغنياتها الرقيقة، وصوتها الشجي الذي يملأ الوادي سحراً وخشوعاً لم يعد يصدح، حيث كانت الطيور تسجد لرقته ، وتتوقف زقزقة العصافير لسماعه لأنَّه كان سيِّد الأصوات.
لم تعد الطيور تستطع مُؤانستها والغناء معها، وإن استطاعوا منعتهم.
الوحوش المفترسة تحاول التودُّد إليها لكنَّها تزجرهم.
الشيئ الأخير الذي طلبته من الجميع تركها وحيدة وعدم الاقتراب منها.
على حافة صخرةٍ جرداء ملساء جلست إمرأة الوادي تنظر نحو الأفق، سرحت في ذلك الفضاء الفسيح تتأمَّل أزرقه اللامتناهي. شيئ ما حدث بدَّل ما كان …
بان الهدهد ومعه انقشعت الأسارير وارتسمت الابتسامه وحلَّ الانشراح والحُبور. تنهَّدت وعادت الروح …
بسطت يدها لاستقبال الهدهد الآتي الذي ما كاد يستقرَّ حتى بدأ بتقبيل يديها ووجنتيها ولثم أصابع قدميها، وكل ما سمحت له بأن يفعل.
قاطعته قائلة :
توقَّف واخبرني عنه.
دبَّت الغيرة بالطائر المسكين المُتعب من الطيران والتحليق، منعته إمرأة الوادي من إظهار حبِّه لها وطلبت إليه أن يخبرها عنه ممَّا أثار حفيظته، لكنَّه بالرغم من ذلك سجد لها وبدأ يخبرها :
وصلت اليه وأعطيته الأُقصوصة فقرأها مرَّتين ثم تناول صندوقاً خشبياً مرصَّعاً بالجواهر الثمينة من ثلاث جهات ووضع الأُقصوصة داخل الصندوق.
ثمَّ عادت وسألته :
ماذا قال عندما قرأها ؟
أجابها الهدهد :
كان حزيناً مُحبطاً تنهشه الهموم وتنخر وجهه الكآبة. سالت من مقلتيه الدموع وروت الارض. الشيب يغرس أنيابه في رأسه وتقوَّس ظهره وبان عليه التعب والضمور.
صرخت في الهدهد :
كفى .. كفى .. يا هذا.
وانهمرت الدموع من عينيها مِدراراً تروي الوادي كما لم يُروى من قبل.
قدِمت الطيور تواسيها ولم ينقطع بكاؤها وحزنها إلاَّ بعد أن اخبرها الهدهد قصَّة الصندوق المرصَّع.
قال الهدهد ...
سألته عن الصندوق المرصَّع، ولماذا يحتفظ بكل أُقصوصات الورق التي ترسليها له.
أجابني الرجل العجوز أنَّ هذه الأوراق تحتوي على كنوز وجواهر، فيها العلم المكنون في صدور الآلهة وقد التقطها من الوادي المُقدَّس وأنا أنهل منها ما لذَّ وطاب لي من معرفة أتوق لأن أُدرك مقاصدها ومعانيها.
كلام الهدهد عن الصندوق الخشبي المرصَّع بالجواهر، بدَّد غيمة سوداء كانت تلف الوادي، انقشعت الرؤيا وتوَّقفت الرياح العاتية، وساد السكون وسجَّدت الطيور وعبَق الوادي بروائح الزهور العطرة وبانت روائع رسومات الحواري على مداخل الوادي وعكست أشعة الشمس أقواس من قُزح الألوان.
ليس هذا ما أصاب الوادي فامرأة هذا الوادي المُقدَّس ابتسمت وبان لؤلؤ أسنانها …
الشمس والقمر والنجوم ساروا كلٌّ إلى سبيله.
الأجواء عبقت بعطر رائحة ثغرها المتبسم.
همست بحنان ما بعده حنان.
بسطت يدها برفق تُداعب وجه الهدهد، وأعطته من ريق عسل فمها حتى يحلو في تغريداته ويمضي دون أن ينسى.
جذبته إليها … تعالى يا حبيبي.
ضمته إليها تقول :
حواسي معك …
أخبرني ما قصة هذا الصندوق.
قال لها :
الصندوق أمره عجيب غريب مرصَّع من جهاته الثلاث لم ترَ
عيناي في حياتي جواهر أو أحجار كريمة تضاهيها.
ولَم أرَ في الوادي مثيلاً لها.
يُتابع الهدهد حديثه لامرأة الوادي المُقدَّس :
قال لي الرجل العجوز :
هذا الصندوق كان هديتي إلى حبيبتي المفقودة وما زلت أبحث عنها منذ عقود.
عندما افترقنا أبت أن تأخذه معها، وقالت :
إبقِه معك وفاءً وعربوناً وتذكاراً.
ومنذ ذلك الوقت، ( يتابع الهدهد نقلاً عن الرجل العجوز )
في كل يوم على فراقنا أضع حجرة ثمينة حتى أُحصي الأيام التي غابت عني.
وعندما سألته أيضاً عن سبب عدم إكمال الجهة الرابعة أجابني :
أنَّه توقَّف عندما التقى بك يا سيدتي، وأصبح بدل الجواهر والأحجار يحتفظ برسائلك التي أرميها له كل يوم.
ابتسمت إمرأة الوادي المُقدَّس ابتسامة الفرح والانتصار وقالت :
إذن أحبني ونسي التي يبحث عنها، وعندما سأذهب إليه سيستقبلني ويحبُّني كما أحببته أنا منذ أن التقيت به هنا في الوادي.
ارتبك الهدهد وتلعثم قبل أن يقول :
كلا يا سيدتي :
كان سيحصل ذلك.
كان سيقع صريع غرامك، لولا الأُقصوصة التي حملتها إليه من الوادي !
فقد أخافته وأرعبته ودبَّ الذعر في كيانه.
انتفضت من مكانها وصرخت ما هي هذه الأُقصوصة التي خاف منها ؟
تغيَّر الجو،
وتلبَّدت الغيوم.
وغابت الشمس.
وهربت الطيور.
وجفلت الوحوش.
الهدهد كاد من هول غضبها أن تصيب منه مقتلاً.
نهرته بأعلى صوتها :
هل أخدت أُقصوصة مختلفة عن التي أعطيها لك كل يوم ؟
أجاب وهو يرتجف خوفاً :
نعم يا سيدتي.
أطلقت إمرأة الوادي المُقدَّس تراتيل ذي مقام حزين.
انسحبت لها مياه الأنهار وعادت إلى منابعها.
وعادت الطيور إلى أعشاشها.
وخلد ملك الأسود إلى عرينه.
وعادت الشمس من حيث أشرقت.
ولم يبق أمامها الَّا الهدهد.
نظرت إليه واضاءت الوادي بعين فيها انتقام.
وعين أخرى فيها أسى وحزن عميقين.
إنَّه الهدهد حبيب قلبها ورفيق دربها وكاتم أسرارها وكليمها منذ الصغر بعد أن تركها أهلها.
قالت بغضب واضح.
ماذا أعطَّيته ؟
أيَّة أُقصوصة ؟
أجابها الهدهد والخوف يلِّف كيانه :
أعطَّيته الأُقصوصة التي كتبها والدك عندما ترك الوادي، وفيها يقول إنَّه رجل سماوي، تزوَّج من إمرأة بشرية هي أّمُّك وأنَّها قد هلكت من الحزن بعد رحيله إلى السماء فور ولادتك.
وأعطَّيته أُقصوصة ثانية تُبيِّن أنَّ طيور الهدهد، هي التي قدَّمت لك الغذاء والحماية والرعاية.
وأعطَّيته أُقصوصة ثالثة تُظهر أنَّك تمقتين وتكرهين الرجال بسبب ما فعله والدك السماوي بأن هجر والدتك وهي في ريعان الشباب.
وأعطَّيته أُقصوصة رابعة تتضمَّن أسماء الرجال الذين تقضين وطرك منهم ومن ثم تعدميهم.
وسألته إمرأة الوادي المُقدَّس ...
لماذا ؟ ...
ولماذا ؟ ....
ولماذا قمت بهذا ؟
استشاطت إمرأة الوادي المُقدَّس غضباً من هذا التصرُّف الأرعن الذي قام به الهدهد، واعتبرت أنَّ الخيانه فعل كبير ومن الكبائر التي لا يمكن السكوت عنها أو التستُّر عليها، لأنَّ انتظام حكمها على رعيتها لا يقوم إلاَّ على الولاء المطلق.
أدركت إمرأة الوادي المُقدَّس أنَّ الذي كانت تبحث عنه، ضاع بفعل خيانة الهدهد المقرَّب إليها وإلى قلبها.
وسرحت في أفكارها تستذكر الماضي.
عاشت لسنوات طويلة في هذا الوادي تبحث :
عن رفيق.
عن صديق.
عن حبيب.
عن زوج.
ضاعت الأحلام التي بنتها. خابت الآمال التي علَّقتها.
بدا عليها الغضب والنيَّة بالانتقام، وقرَّرت مُحاكمة الهدهد.
استدعت ملك الغابة الأسد من عرينه، ونادت التنين من مغارته، وساقت قطعان الغزلان من مراعيها.
وأشارت لأسراب الهدهد أن تغطَّ.
وأعادت الشمس إلى قرص السماء.
وأمرت الأنهار أن تتوقف عن الجريان وتعود إلى ينابيعها.
على يمينها جلس ملك الأسود، وعن يسارها وقف التنين.
وأمرت الأسد بأن يُطلق زئيره إيذاناً ببدء محاكمة الهدهد.
ارتعدت الجبال وردَّد الصدى صداه، وتكاثرت بلبلة الأصداء في الارجاء، وزجرت التنين بأن يقذف حممه،
فاشتعل الوادي، وأُضرمت النار في كل مكان.
وقف الهدهد يرتجف خوفاً .
تقدم سرب من طيور الهدهد والدموع تنهمر من عيونهم يطلبون العفو والمعذرة والغفران.
سألت إمرأة الوادي المُقدَّس الهدهد :
لماذا أعطيته الأُقصوصة التي فيها إنَّ أبي رجل سماوي ؟
أنا أريده أن يعلم أنَّي من والد بشري وأمٌ بشرية أيضاً. أنت جعلته يهابني ويخاف من ملامحي.
أطلق الأسد زئيراً اهتزَّت له أرجاء الوادي كانت كفيلة بأن يسقط الهدهد مغشياً عليه، لكن إمرأة الوادي مدَّت يدها وأعادت إليه توازنه.
وأكملت حديثها تسأل الهدهد :
لماذا قلت له أنَّ اسراباً من الهدهد قدَّمت لي الغذاء والحماية والرعاية.
هذا شأنكم يا أهل الوادي بأن تمدحوا أعمالكم وتجعلوا من قدَّمتم له خدمةً أن يكون عبداً لكم طوال حياته.
صرخت إمرأة الوادي صوتاً ردَّدت الوديان صداه.
يا أهل الوادي ليس عندكم نبتة العطاء.
فالشمس من عندي تعطيكم النور طوال النهار.
والقمر والنجوم ينيران دروبكم بالليل.
والأزهار من حقلي إن اعطتكم لا تعطوها شيئاً.
كل فعل تأتوه تطلبون مردوداً.
في الأُقصوصة الاولى.
وفي الأُقصوصة الثانية.
سأعفي عنك أيُّها الهدهد، لأنَّ الوفاء يسكن ويسري في عروقي والغدر ليس من شيمي، ونكران الجميل لست أنا من أهله.
أنت أيُّها الهدهد رفيقي منذ الصبا، أفشيت سراً يمكنني أن اتجاوزه.
تعالت تغريدات أسراب الهدهد فرحة ً وسجدوا لامرأة الوادي المُقدَّس.
لكنَّها قالت لهم إنَّ المُحاكمة في الأُقصوصتين الثالثة والرابعة ستبدأ غداً.
طلبت من ملك الأسود أن يزأر إعلاناً برفع الجلسة،
وطلبت أن تخلد للراحة وأن تبقى وحيدة.
إنتهى الفصل الثاني.
تتمَّة الفصل الثالث غداً
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
٢٠ كانون الأول ٢٠٢٠م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق