Pages

الأحد، 20 ديسمبر 2020

إمرأة الوادي المُقدَّس. الفصل الثالث والأخير. المُدونَّات الفيصليَّة.

 إمرأة الوادي المُقدَّس

الفصل الثالث والأخير

المُدونَّات الفيصليَّة


في كل ليلة اعتادت أن يكون الهدهد معها يُكلِّمها، يُناجيها يقصُّ عليها، قصصاً حتى تنام

هذه الليلة مختلفة عن تلك الليالي ولا تُشبهها

منذ أن التقت ذلك الرجل الذي وطأت أقدامه الوادي تعلَّقت روحها بروحه، وأقسمت أن تُقلع عادتها في الانتقام لوالدتها بعد أن هجرها والدها إلى السماء


لم تقض ِ وطرها مع أي رجل من الوادي منذ أن التقت به

جذوة الإخلاص له جعلتها تتوقَّف عن عادة الانتقام


قلقها وعدم نومها حتى انبلاج الفجر أنهك قواها وأتعبها  فخارت قواها ورياح الحنين للهدهد قضَّت مضجعها فنادت المنادي أن  يأتوها بالهدهد

كان محبطاً عندما دخل عليها مُدركاً  المخاطر التي تنتظرهطلبت إليه أن يستمع إليها جيداً، ويجيب على أسئلتها


أنت تعرف إنِّي توقَّفت عن عادة الانتقام

وأنت تعلم أنِّي وقعت في غرامه وعشقه

أجابها ..

نعم

قالت لماذا إذن ؟.  

قال إنِّي خائف عليك وخائفٌ عليه

خائفٌ عليك لأنَّه رجلٌ كهلٌ مسنٌّ لا يصلح لك

وخائفٌ عليه لأنَّه سيتوقَّف عن البحث عن حبيبته الأُولى


انتفضت وقالت له :

هل دبَّت الغيرة في قلبك يا أيُّها الهدهد

هل تصرُّفك هذا يمنعني من الالتقاء به

هل تعتقد أنَّ العمر يقف حاجزاً بيني وبينه


أقول لك إنَّ روحي تعلَّقت بروحه، وقد أعود لعادة الانتقام !

إليك فرصة وحيدة حتى لا تكون الأوَّل من بين ضحايا الانتقام الرهيب

ارتعد الهدهد خوفاً من كلامها  ...


فقالت له :

أُعطيك مُهلة حتى غروب النهار، عليك أن تتدبَّر لي لقاءً سرياً معه ! .... 

وإلاَّ  ...


استأذن الهدهد إمرأة الوادي المُقدَّس بأن يصطحب معه رفاقه للاجتماع بالرجل، رفضت الطلب لأنَّ الاجتماع الذي تريده سرياً  قد تنتشر أخباره في أرجاء الوادي


قالت له ما زلت يا هدهدي كاتم أسراري، لكن كيف لي الوثوق برفاقك


وبناءً  لإصراره، قبلت أن يصطحب معه رفاقه شرط أن تضع عينها محل إحدى عينيه حتى ترى كيف تسير الامور وتراقب رفاقه

لم يكد الهدهد يصل إلى قومه حتى علت الصيحات ودبَّت الفرحة وأُقيمت حفلات الغناء والرقص والموسيقى


توقف الهدهد وقال لأترابه :

ارتكبت أخطاءً عديدة في حياتي، لكن كان أعظمها هذه في  إشارة الى المُحاكمة

كانت إمرأة الوادي تحاول افهامنا من خلال تصرُّفاتها وعاداتها أنَّ علينا إتبَّاع طقوس جديدة في حياتنا


كان سبب انتقامها من الرجال، إفهامنا بأن لا نترك أولادنا صغاراً كما فعل والدها عندما رحل تاركاً والدتها مع طفلتها


كان وقف إعدامها للرجال إعلامنا  بأنَّ  العفو عند المقدرة هو الأسمى


كان عشقها لهذا الرجل دليلاً على أنَّه لا عوائق أو حواجز أمام الحب وأنَّ  الأعمار إن زادت لا تقف حجر عثرة أمام جبروت الحب


وكان إصرارها أن أتدبَّر لها لقاءً سرياً مع ذلك الرجل دليلاً ساطعاً على نيَّتها في بدء حياة كسائر أهل الوادي المُقدَّس.  


لذلك مَنْ منكم على استعداد لمرافقتي لإقناع ذلك الرجل للقاء إمرأة الوادي المُقدَّس


تطوَّع عددٌ كبير من طيور الهدهد للذهاب معه

فالأمر يحتاج  إلى حيلة ذكيَّة لإقناع  العجوز بأن يأتي معهم إلى الوادي المُقَدَّس.

 

لحق بركب الهدهد سربٌ من الحكماء، وكانت عين إمرأة الوادي تحرُس وتراقب


بقيت إمرأة الوادي المُقدَّس تراقب الهدهد ورفاقه، وقد صمَّمت إن أتى بأي هفوة أو غلطة يرتكبها فإن صاعقة قد جهزَّتها للقضاء عليه ورفاقه


عندما حطَّ سرب الهدهد أمام الرجل العجوز أخذته الدهشة ولم يتمالك نفسه من إبداء الاستغراب لهذا العدد من طيور الهدهد


بادره الرجل العجوز  بالسؤال

 من صحبُك أيها الهدهد، ومن أرسَلك


أجابه الهدهد.

نحن وفد من علماء الوادي المُقدَّس أتينا لمقابلتك وامرأة الوادي المُقدَّس هي  التي أرسلتنا، وهذه هي الأُقصوصة التي طلبت منَّا أن نقوم  بتسليمها لك


كانت  الأُقصوصة تختلف عن  غيرها من الأُقصوصات التي سبقت


بدءُ الاحرُفِ عطرٌ ونهايتهُ سِحرٌ

فيه من الظاهر والباطن ما يعجز عن فهمه إلا هو

أحس برائحة العطر

ونال منه السحر

أدرك باطن الكلام من ظاهره


رفض أن يحتفظ بها بالصندوق المُرصَّع أُسوة بالتي سبق واستلمها

نظر إلى الهدهد ورفاقه

وقال :

قُل  لها لن يكون هناك لقاءً سرياً

بالرغم من أنَّها هزَّت كياني ووقعت في شباكها، ولكنِّي لست مُستعداً للموت على يدها وفقاً لطقوس أكل الدهر عليها وشرب


قُل  لها :

يكفيني أنَّي معها تمكَّنت  من أن أطوي صفحة الماضي بعد عقود من البحث عن حبيبتي


وَقُل  لها أيضاً :

لقد أقفلت الصندوق الخشبي المرصَّع  بكل الأُقصوصات التي استلمت


وقُل  لها أيضاً :

لقد طال انتظاري وملاك الموت يحوم حولي

نظر اليه الهدهد وقد احمرَّت احدى عينيه فخاف عليه الرجل العجوز وحاول أن يداويه


قال الهدهد :

دّعك من هذا، معي وفد العلماء أتينا لنبلِّغك أنَّها تبدَّلت وتغيرتوقد  تركت هذه العادة، وهي تطلب، ودُّك وتأمل أن تلتقي معها، لتبث لك مشاعرها وحبها وتعلُّقها بك


أجابه الرجل العجوز :

أدركت ذلك من باطن النص، لا من ظاهره، وأنَّها توقَّفت عن  قتل الرجال بعد أن  تقضي وطرها منهم، ولكنِّي لست مستعداً لهذا اللقاء السري

إنِّي رجل عجوز مُثقل  بهموم الدهر لا أقوى على السفر


أمرت الهدهد من خلال عينها التي ترى وتراقب، أن يسأله إذا قدمت هي اليه، هل يستقبلها ؟

أجابه، كيف لي أن أستقبلها وأنا على باب القبر، وملاك الموت يحوم فوق راسي ..  إيذاناً بالرحيل


قالت للهدهد قل له :

سأقضي على ملاك الموت فوراً  ...

وعاجلته بشهب مضيئ  ...

وأضرمت به، ناراً مشتعلة ...

فهدر صوته من الألم، ودوَّى  صراخه وعويله في المكان.

ثم ما لبث أن وقع صريعاً في مكان بعيد

 

وقالت للهدهد :

قُل  له إنَّي قادمة

قُل  له إنَّني مثل أبي إمرأة سماويَّة

قُل له أن ينظر في عينك ليرى صورته الجديدة


وما إن بدأ الرجل العجوز بالتقدُّم  نحو الهدهد، حتى بدأ شكله يتغيَّر إلى عمرٍ أقل، إلى أن أصبح  في ريعان الشباب


لم يُصدَّق الرجل العجوز ماذا حلَّ به

رقص  لكثرة فرحه ومع هذا الرقص والفرح  مرَّت غيمة بيضاء  كلون الثلج غمرت المكان


أينعت ثمار الأشجار في غير ميعادها

وغطَّى المكان عُشبٌ أحمر

إيذاناً بقدوم زائر !  


وما لبث أن نبتت أزهار ورياحين مُتعددة الألوان والأشكال

وما لبث أن عبق الجو برائحة البخور والعنبر


انفتحت السماء ومع انفتاحها نزلت إمرأة الوادي المُقدَّس من على صهوة حصان أبيض له جناحان، يرافقها نسرٌ وعقاب

أمرا الجمع بالركوع والسجود


تمايلت إمرأة الوادي المُقدَّس وهي تسير ويتطاير الغنج والدلال منها

أومأت بيدها للهدهد أن يترك المكان وصحبه

تقدمت إمرأة الوادي المُقدَّس نحو حبيبها

كان بأجمل حلةٍ  وأذكى رائحةٍ.   

كان جسمه ممتلئاً.


تصافحا ...

وأذنت للشمس بالمغيب.  

تبادلا القُبل على ضوء القمر.  


واختلت به  ...

وبعد أن قضت وطرها منه.   

اصطحبته معها للوادي المُقدَّس


حبيباً ...

رفيقاً ...

وزوجاً  ...



إنتهت رواية إمرأة الوادي المُقدَّس

مِن إصدارات المُدونَّات الفيصليَّة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

الطبعة الأولى : حزيران ٢٠١٨م


فيصل المصري 


أُورلاندوا / فلوريدا  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق