آن الإيابُ، والأَوْبُ، والرُّجُوعُ، والعودَّة إلى الوطن الغالي.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها :
مِن الأمور التي أُتقنها جيداً، قراءة كل تعليق يردني على مُدونَّاتي.
ومِن الأمور التي أعمل بها دون تردد، القبول بالنصيحة.
ومِن الخصال التي سأبقى عليها الى أن تدِّق الساعة، الوفاء إلى كل من قدَّم لي عملاً أو مساعدة.
إلى الصديقات والأصدقاء الذين ذكرتهم في أعلاه، أقول شكراً.
وهم على سبيل المثال لا الحصر.
كُل :
مَن ساعد على تأسيس مُدونَّتي، من بلجيكا.
مَن أهداني صفحته، من تونس.
مَن أطلق على كتبي، مُسمَّى ( المُدونَّات الفيصليَّة ).
مَن خلع عليي لقَّب، ( المؤرخ المعروفي المقدام والمفكر المخلص الجريئ الفيصلي الهمَّام ).
مَن دعاني إلى إلقاء محاضرات عن ( المرأة الدرزيَّة ) في الجمعيات النسائية في أقضية، الشوف والمتن وعالية والبقاع.
مَن إعتبر تعليقه وحضوره في مُدونَّاتي تكملَّة للنصاب.
مَن أكمل ما لم أقله في مُدونَّاتي، خوفاً عليي.
مَن إعتبرني مُبدِّع مِن بلاد الإغتراب.
مَن إعتبر كتابي ( الموحِّدون الدروز عبر التاريخ ) وثيقة تاريخية هامة.
مَن طالب بوضع بعض الفصول مِن رواياتي لأنها تُعطي الصورة الحقيقية للتاريخ المكتوب الصحيح.
إلى هؤلاء وغيرهم، أقول :
لم نكُّن يوماً في تاريخنا العربي قبل وبعد إنهيار السلطنَّة العثمانية البائدة والبغيضة في حال من التآلف الحقيقي الديني أو الطائفي أو المذهبي.
كانت قِصَّص التعايش المسيحي الإسلامي، او الإسلامي الإسلامي مزحَّة تاريخية، أو أُكذوبة تعيش أو تخبو أو تموت كالفصول المُتعاقبة من ربيع زاهر، إلى خريف قاتم ومِن ثُمَّ إلى شتاءٍ قارس وحتى إلى صيف حار جداً.
شخصياً إختبرت الفصول الأربعة.
فِي روايتي ( إمرأة الوادي المُقدَّس ) …
فيها الربيع الذي لم يدُّم.
وفيها باقي الفصول.
وإليكم مُقدِّمة هذه القصة.
التي إعتبرتها أُسطورة …
لأني لم أترك من الخيال صورةً، إلا وإستعملتها.
لأني لم أنس من الأحلام مشاهداً، إلا وحققتها.
لأني لم أهمل من واقع الحياة جرعةً زلالاً كانت أم علقماً، إلا وشربتها.
تدور أحداث هذه القصة في الحقبة التاريخيَّة المعروفة بالحضارة البابلية وما سبقها من فترات كانت البشريَّة تبحث عن وسائل وطرائق حتى ترتقي إلى معرفة سر الكون والخليقة.
في إحدى البقاع نشأت علاقة حب بين شاب وفتاة، تعارفا وتحابَّا وعشقا بعضهما البعض. كان يلتقيان في السهول والحقول والهضاب، يساعدان الأهل في الزرع والحراثة ويلتقيان في المواسم والأعياد وكانت الفرحة تغمر قلوبهما لا يُعكِّر صفاء حبهما أي حاجز أو مانع.
ترعرع حبَّهما في أجواء من المعتقدات والطقوس المُختلفة.
هو كان يُمارس طقوساً دينية تختلف عن طقوسها.
لكن بالرغم من ذلك لم يتقاتلا أو يتخاصما لأنَّ الشعوب في تلك الفترة من الزمن كانت تنعم برقي في المُعتقدات والعادات بحيث تحترم مُعتقدات وعادات الشعوب الاخرى، لا بل كانت تترك ممارسة المُعتقدات للكهنة والسحرة والمنجِّمين، دون تدخُّل أو عبث أو خصام في معتقدات الطرف الآخر.
كان حبَّهما حديث الأهل ولكنَّهما إعتقدا أنَّ هذا الحب قد أخذ مداه وأتفقا على أن يضعا حداً لهذه القصة وأن يرحل كل منهما في سبيله.
إعتقد الشاب والفتاة أنَّهما أدركا أقصى درجات الحب، ولكنِّهما لم يدركا سر الكون والخليقة في حياتهما هذه، ولهذا .....
تعانقا وإفترقا، على أمل أن يلتقيا في جيل اخر.
كان هذا الشاب وهذه الفتاة قد خُلقا من أجل غاية تختلف عن بقية من عاش حولهما.
هو، ذهب غرباً حيث الشمس تغتسل في ذلك المدى الأزرق قبل أن تتوارى خلفه.
وهي، ذهبت شرقاً حيث الشمس تصحو من خلال تلك الجبال وتوقِظ الوجود.
كان الوداع صاخباً عزَّ على الأهل أن يُهاجر الإبن وترحل الإبنة، لكنَّ ما كُتِب كان قد كُتِب، حيث الإصرار من الطرفين هو سيد الموقف.
بعد فترة من السفر حطَّ الشاب رحاله في أرض خصبة، وهناك بدأ يقارع الحياة من جديد يتدفَّق شباباً وحياةً في حراثة الارض والكدِّ والتعب.
حنينه كان دائماً وأبداً إلى حبيبته يتذكَّرها ويحلم كل ليلة بان يلتقي بها.
السنون تمرّ وحنين الشاب وشوقه وشغفه للفتاة يزداد سنة بعد سنة.
لم تستطع تلك السنوات أن تُحيل حُبَّه إلى حُباً دفيناً، بل أبقته مُتوهجاً حياً يُناديه
للبحث والتقصِّي عن أسرار الكون وسبر أغواره.
راح ينهل من العلوم بحثاً عن الحقيقة وأدرك ما كان مخفياً عليه، وتجلَّت لديه فكرة
أن يبدأ رحلة البحث عن حبيبة القلب ورفيقة الصبا.
الإنتظار ومُراقبة الطيور المهاجرة، تمُّر كل سنة سابحة في صحن السماء وعودتها بعد غياب هو ما أصبح يمضي أوقاتاً طويلة في تأمله.
ومعه سأل نفسه ؟
لماذا لا يستعين بتلك الطيور في البحث عن حبيبته خصوصاً وأنَُه بات قاب قوسين او أدنى من دنو أجله، وهو العالم والمُدرك بخفايا الأُمور بعد أن وصل إلى خواتيم العلم والمعرفة.
موعد الطيور المهاجرة هذا العام لم يكن للتأمّّل فقط، بل للإشارة إليها بالتوّقف والطلَّب منها أن تأخذه معها بعيداً في رحلتها السنوية، ومن ثم إعادته إلى مكان إقامته.
أبلغ الطيور طلبه وهو أن تساعده في البحث عن حبيبته.
أجابته الطيور : سمعاً وطاعةً.
على أجنحة الطير هاجر الشاب مع الطيور المهاجرة مُتقفياً آثار حبيبته، تُحلِّق به بعيداً بعيداً، وتُعيده إلى مكانه وموطنه.
توالت الهجرات وتعدَّدت مواسم الرحيل على مدى سنوات طويلة، لكن الخيبة هو ما حصده الشاب من حلِّه وترحاله.
شعر أنَّ العمر يمضي وينهش أضلعه.
خارت قواه وغزا الشيب مفرقه.
والعمر ضاع سدىً بحثاً عن الكنز المفقود.
بحثاً عن القلب الضائع بين أروقة العمر وريعان الشباب.
لم ييأس ولم يستكن وتابع التحليق والعودة والدوران في مواسم الرحيل والهجرة التي قرَّر أن تكون الأخيرة هذه المرَّة.
مواسم الهجرة في هذه الرحلة لم تكن مُختلفة عن مواسم الرحيل الأُخرى.
لكن ما لم يكن في الحسبان حصل هذه المرَّة.
فبينما كان يأخذ قسطاً من الراحة بعد عناء نهار طويل، جلس وإستراح على أكمة تطل على وادٍ فيه من الأغصان المتشابكة والاشجار المتطاولة والأعشاب الداكنة الخضرة، والنباتات الدائمة النضرة ما يبهر القلب ويؤنس النظر.
ليس هذا فقط ما رآه في جلسته السحريَّة تلك.
فالمرأة التي شاهدها عن بُعد تعيش وحيدة في ذلك الوادي، لفتت نظره.
راح يتأملها ويُمعن النظر فيها.
فإذ هي فائقة الجمال، تمشي حافية القدمين يرافقها سربٌ من طيور الهدهد، تصدح في الأجواء ألحاناً جميلة.
غاص في ماورائياته وتأكَّد له أن هذه المرأة كانت فيما مضى عظيمة الشأن بين ناسها وأهلها.
دخل الى مكامن عقلها وبان له كم من العلم والمعرفة تدركه هذه المرأة، فهي تقوم بنشر العلم والمعرفة على أوراق الأغصان بعد ان تمشقها.
لم يمضِ وقت طويل قبل أن يقرِّر أن ينزل الى ذلك الوادي ليتعّرف إلى تلك المرأة.
على جري عادتها في كل صباح وفي وقتٍ محدَّد كانت تمرّ وتمشق من الأوراق تكتب وتكتب وتكتب، إلى أن قرَّر في الصباح الباكر أن يسبقها ليقرأ ما كتبته في الأيام السابقة.
قبل بزوغ الفجر بقليل وصل الوادي وبدأ يلتقط الأوراق المتناثرة أرضاً، يقرأها ويقرأها فوجدها تتضمَّن من العلوم وصلت إليه بعد سنوات طويلة أمضاها يبحث عنها.
تبين له أيضاً أنَّها تحوي على علوم جديدة لم يتوصَّل إليها بعد، وها هو يجدها في أوراق مرميَّة على الارض وقد إعترته الدهشة والإستغراب، فقوافل البشر التي تعبر هذا الوادي، تدوس والدواب على تلك الأوراق التي تختزن العلم والمعرفة وبواطن الأمور، دون ان تُدرك مضامينها.
في الوادي كانت القوافل تمرّ، وتأخذ ما طاب لها من طعام وشراب، ولم تكن امرأة الوادي ترغب في أن يقيم أي إنسان في هذا الوادي إذا كان جاهلاً لا يفقه من العلم والمعرفة شيئ.
لذلك إنصرفت لتنظيم حقوق وواجبات الحيوانات والطيور المقيمة، حيث كان السمع والطاعة هو الشرط لبقاء هذه الحيوانات والطيور، وإلا الخروج من الوادي والنفي إلى جهة مجهولة هو ما سيكون عليه مصير من لم يطّع أوامرها.
حُلم إمرأة الوادي المقدَّس كان أن تلتقي من بين ركاب القوافل برجل تأخذه زوجاً لها يُؤنسها في وحدتها، لكنَّها لم تفلح بإيجاد رجل من بني البشر يأسرها أو يُعجبها، لانَّ الجهل والغباء كانا يسيطران على أرجاء المعمورة في ذلك الوقت.
مشهد الوادي في ذلك اليوم لم يكن مألوفاً، فالرجل الكهل الذي كان يفلفش أوراق الأغصان ومن ثم يقوم بجمعها حيث يُفرغ جيوبه من كل مأكل او مشرب ليحتفظ بها، لفت نظر إمرأة الوادي.
تعجَّبت لأمر هذا العجوز كيف أدرك ما كُتب على الأوراق وفهم معاني الكلمات.
لم تأبه كونه عتيّاً في العمر بقدر ما لفت نظرها العلم الواصل اليه.
فاجأت امرأة الوادي المُقدَّس الرجل العجوز وهو يلمّلم أوراق الأغصان ويقوم بتوضيبها فنهرته بصوت عالٍ :
ماذا تفعل هنا ؟؟
وما هذا الذي تجمعه من أوراق أغصانٍ مُتساقطة ذابلة وضامرة ؟.
هاله الصوت وإرتبك العجوز ولم يعد يقوَ على الإجابة وإنهارت قواه بعد أن تجمَّعت حوله الوحوش الكاسرة والحيوانات الضارية تزأر من كل حدبٍ وصوب.
تعالت الأصوات وإختلطت إلى أن وضعت امرأة الوادي حداً لها.
فزجرت الحيوانات طالبة السكوت والخنوع والخشوع.
فأمتثلت لها.
ساد الصمت وهدأت الأجواء وخلت من الأصوات.
تقدَّمت المرأة نحو العجوز تسأله :
من أنت ؟
ولماذا أنت هنا ؟
وإستدركت طالبة إليه نزع حذائه، لأنَّها أرضٌ مقدّسة.
هدَّأ الرجل العجوز من روعه وزال الخوف الذي كان يمتلكه فبدأ بالكلام وقصَّ على المرأة قصَّته حرفياً.
سمحت له أن يُكمل ما كان مُنكبَّاً عليه وجمع ما يشاء من أوراق الشجر.
جمع العجوز ما أراد من الأوراق، وعندما إلتفت لشكر المرأة لأنها سمحت له بذلك، لم يجدها وإختفت عن ناظريه.
أصابه الحُزن وإعتراه الخوف من جديد.
لم يُبدِّد ذلك سوى إستئناسه بمتابعة جمع ما يراه مُفيداً من الأوراق.
من بين الأوراق لفتت نظره واحدة إلتقطها من الأرض.
فإذ بها رسالة مُوجهَّة من إمرأة الوادي إليه، أفادته فيها أن ينتظر رسالة تُخبره من هي.
عودة العجوز إلى دياره لم يكن عادياً هذه المرَّة، فسحر تلك المرأة أخذه بعيداً، وحفر على أوراق قلبه كلمات قد يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفِّك رموزها وأحرفها.
التحسُّر على أيَّام الشباب والصبا كان من النتائج الأولى لرؤيته تلك المرأة،
وتبدُّل إشارات القلب والعقل من التي كان يبحث عنها طوال سني عمره إلى هذه المرأة، كان من النتائج الثانية لتلك الرحلة التي قادته إلى ذلك الوادي ولقائه بتلك المرأة.
غربته طالت، والطائر الميمون الذي سيحمل له تلك الأُقصوصة الورقية التي تحكي له عن امرأة الوادي المُقدَّس ينتظره على أحرِّ من الجمر، فالشوق لأخبارها وأحوال رعيتها كبير، ومعرفة ما تكتبه على أوراق الشجر أكبر.
فالإنتظار لا بدَّ أن يحطَّ رحاله والطائر لا بدَّ أن يعود من مواسم الرحيل وهو ما حصل مع الهدهد الذي حمل تلك الأُقصوصة وفيها تقول له :
غيابك عنِّي هذه السنه آلمني.
والشوق إليك يزيد من أحزاني.
والنوم غاب عن أجفاني
وحبُّك هو كلَّ أحلامي.
عُد إليَّ لأن وجهك ما زال في خيالي.
فمَنْ غيرك يفهمني.
ومَنّ غيرك يقرأ أوراقي.
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
٢٥ شباط ٢٠١٩م.
0 comments: