قِصَّة كراون دايسي، وكريستل ..
تأليف : فيصل المصري ..
حقوق الملكية الأدبية، محفوظة لدى ولاية فلوريدا ..
الولايات المتحدة الأميركية ..
تعريف :
إن ّٓ قِصَّة ( كراون دايسي وكريستل )، هي من واقع الحياة، وليست أسطورة كشقيقتها ( إمرأة الوادي المُقَدَّس ) لانها تُقارب الحقيقة وتُصلح ان تكون سيرة ذاتية للعديد من الْقُرْاء ..
- الجزء الاول من القصة :
تعريف :
كراون دايسي، هي زهرة برّية تنمو في جبال، وهضاب، وسهول لبنان، ويُطلق عليها باللغة العربية، أُقحوان إكليلي برِّي ..
أما ( كريستل ) فهو إسم، ألغنج والدلال او ( ألدّلع ) لبطلَّة هذه الرواية ..
أحداث هذه القُصَّة حصلَّت في إحدى جامعات لبنان، بأواسط ستينات القرن الماضي، ومعظم حوادث القصة حقيقية، مع تعديلات أجراها الكاتب لزوم السرد القصصِّي ..
وإسم الدلَّع ( كريستل ) مُشتق من حجرة الكريستال المشهور بصناعتها معمل ( شواروفسكي ) العالمي ..
المقدمة :
Crown Daisy ................
الزهرة البرّية، ( أقحوان إكليلي )
وقصتها مع الطالبة الجامعية، ( كريستل )
و ...
هو .....
أحداث هذه القصة حدثت في حَرَّم إحدى جامعات لبنان، في أواسط ستينيات القرن الماضي، حيث كانت أروقة وقاعات إحدى الكليات مسرحا ً ومكانا ً لهذه الرواية ..
كانت الجامعات اللبنانية، في ذلك الوقت من الزمن أرضا ً وحقلا ً خصبة للأفكار التحرريَّة، في عالم عربي مُدلهِّم، ومُكْفهِّر، ومُدجَّج بعقلية حُكَّام تعود الى أزمنة تخلُّف، وتقهقُر فكري، ومعنوي ..
كانت عقلية شباب ذلك الزمن، مُبرمجّة الى تطّلعات مستقبلية زاخرة بالاحلام وزاهية بطُموحات تَصِّل الى سقف السماء، بعد ان ظنّوا واهمين أن الاستقلال من رقبَّة الاستعمار الفرنسي هو طريق الخلاص، والبدء بالسير في درب تكافؤ الفرص، وتطبيق مبدأ سيادة القانون ..
من بين شباب وشابات الجامعة ..
إلتقى شاب بإحدى الشابات :
هو ...
يرجع في أصله وفصله، الى عائلة معروفة بين الأهل، وقد جار الزمن على جَدْ هذه العائلة، بأن يرزح تحت وطأة نكبة الحرير، والمادة الجديدة للنايلون المبتكرة، حيث تمَّ إغراق الاسواق العالمية بالنايلون وإغلاق معامل الحرير في طول البلاد وعرضها، فبيعت الاراضي، وحُجزت الاملاك تسديدا ً للديون ..
أما هي ...
فإنها تنحدِّر من أُسرة ثريّة يرافقها ويُصاحبها نُفوذ واسع، ونُبل ٌ في التعاطي، وعفو ٌ عند المقدرة ..
كانت هي ..
إن دَخَلَّت الجامعة، لا يُدرك اي شاب او شابة من رفاقها، مدى ألثراء الذي تتمّتع به، ووفرَّة النعيم الذي تعيش فيه، لان تواضعها ينسحب إلى ملبسها، ودماثة خُلقها، وكانت إن خرجت تسير سيرا ً الى محطة توقُّف حافلة الركاب، ومن ثم تختفي ..
تشابكَّت، وتقاطعَّت النظرَات ما بين هذا الشاب، وتلك الفتاة ..
كان يُلفتها جدّيته، وإجتهاده، وإنكبابه على الدرس والمطالعة في مكتبة الجامعة ..
أما هو ..
فقد أذهله إنكبابها على تدوير زوايا الخلاف في ما بين زملاء الصف، فإن إختلفوا على الجلوس في الصف الأمامي كانت تُعطي مكانها، فينفّض النزاع خجلا ً منها ..
وذات يوم ٍ، لم تأتِ الى الجامعة كعادتها، وتكرَّر الغياب لأكثر من أسبوع، إفتقدها الطلاب والأساتذة، حتى أن ّ أحد الأساتذة سأل، هل يعلم أحدكم سبب غياب زميلتكم ؟
ساد الوجوم والصمت قاعة المحاضرات، وقال المُحاضر، عجيب أمركم، تحلمون ببناء شركات في مخيلاتكم، وتتراكضون نحو سراب المستقبل، ولا تفكرون حتى برفاق الدرب الطويل، ولا تعلمون ولا تعرفون من أنتم ..
إنتهت المحاضرة، وتدافع الطلاب للخروج، إلا هو ..
بقي على كرسيه يُفكر بملاحظة المُحاضر، وبدأت الأفكار تأخذه، كيف السبيل للوصول الى عنوان سكنها، أو حتى رقم هاتفها ..
وبينما هو شارد الفكر، إذ سمع صوت أحد زملائه يناديه قائلا :
في الباب هناك شخص يسأل عنك ..
نظر الى هذا الشخص وإستغرب، إنه لا يعرفه ..
تقدم الشاب اليه وقال له، انا شقيق زميلتك ..
وهي مريضة طريحة الفراش ..
وهي ترجو منك ان ترسل لها المحاضرات التي أُلقيت في غيابها ..
وقالت لي، إذا سألك لماذا انا ..
أجبه فورا ً بأني أعرف انك من أنشط وأذكى طلاب الدورة ..
بعد ايام، تعافَّت وعادت زميلته الى الجامعة، وكانت ضعيفة، مُنهكة شاحبة الوجه، ومُتعبّة ..
تقدمَّت منه وشكرته على المحاضرات ..
وسألته إن كان لديه وقت، لانها عجزت عن فهم بعض ما جاء فيها ..
وكعادته، دخل معها مكتبة الجامعة، وسألها، لماذا أتيت ؟ يبدو انك ما زلت مريضة ..
وعرض عليها أن يستمِّر في إرسال المحاضرات كل يوم ..
ومن فرط شفقته الممزوجة بالاهتمام على صحتها، عرض عليها أن يزورها طبيب عائلته القادم لتَوه من أميركا، من دون أجر ..
إستغربت هذا الاهتمام، الممزوج بعاطفة قل ّٓ نظيرها، وأدركت في تلك اللحظة انه لا يعرف مدى الغنى والترَّف الذين تنعم فيهما ..
أبدَّت جزيل شكرها، وقالت له قد أستعين بك في حال لم تتحّسن ظروفي الصحيَّة ..
في تلك اللحظة، لمعَّت في مخيلتها أن تُبقي هذا الصديق الجديد، في جهله المُطَبّق لوضعها المادي، وشعرت أن هذا الاهتمام بشخصها، يُثير إعجابها، بالاضافة الى إدراكها انه مُتمكِّن في الدراسة ..
في المكتبة ..
وضعت أمامها احد الْكُتُب، وكانت عندما تُشير، وتُقلِّب صفحاته تقوم بسحب زهرة من كل صفحة، تُرِيد إستفسارا ً او توضيحا ً ..
وتكرَّر ذلك في الكتاب الثاني، والثالث، وكانت تنزع الأزهار ثم تُعيدها الى ذات الصفحة ..
وبعد أن شرح، وفسّر لها، تبيَّن له انها أجهدَّت نفسها كثيرا ً، وقال لها يكفي اليوم وغدا ً سأُكمل لك إن إحتجت تفسيرا ً..
وعندما همَّت بالانصراف إستمهلها وسألها، هل تستعملين هذا النوع من الأزهار وكأنه علامة ( ماركر، Marker ) بين الصفحات ..
أجابت ب نعم ..
وقالت، إني أُحِب هذه الزهرة، إنها زهرة برّية، تعشق الشمس، وتُحب الربيع، ومُتمردة، لا تهاب الشوك من حولها ..
فيها اللون الأصفر هو قلبها ..
وفيها اللون الأبيض علامة نقاؤها، وتقول الأساطير انها كانت تُستعمل إكليلا ً وتأجا ً لأجمل النساء ..
وأضافت، أنت من الساحل، لا تعرف هذه الزهرة ..
وإن إسمها :
زهرة أُقحوان إكليلي ..
وانا أفضل إسمها باللغة الانكليزية كراون دايسي ..
أجابها فورا ً :
للتوضيح، أنا موطني الجبل، وأعرف هذه الزهرة تماما ً ولكن لم أُعرّها يوما أي إهتمام ..
ولكن أعدُّك من الان وصاعدا ً كُلَّمَا أنظر إلى هذه الزهرة، سأتذكرُك ..
علَّت وجهها إبتسامة، ناعمة ...
وَرُسمَّت خيوطا ً حمراء على مُحَيّٓاها خجلا ً ..
فبادرها قائلا :
لقد، أشرقت شمس ُ وجهك ..
وها أنت تبتسمين ..
وزادَّت خجلا ً ..
وتواعدا الى غد ٍ أخر ..
وودَّعته ..
وبقيت، تنظر إليه وهي تسير ..
وهو ينظر إليها ..
وكأنها نسيَّت معه، سِرا ً لم تَقُله ..
وكأنه نسِي معها، سِرا ً لم يَقُله ..
- الفصل الثاني :
وكعادتها بأن تأتي باكرا ً الى الجامعة، وتجلس في المقاعد الأمامية ..
دخلت وبقيت تشيح بنظرها الى المقاعد الخلفية، علَّها تراه ..
كانت تنظر الى ساعتها، بين لحظة وأخرى وتعيد وتكرَّر النظر الى الوراء، إلى ان دخل المُحاضر وبدأ بإلقاء محاضرته ..
أما هو، خلافا ً لما درج عليه، فإنه تأخّر في الدخول الى قاعة المحاضرات، عمدا ً، لانه كان يرغب في استرقاق النظر اليها من المقاعد الخلفية، علّه يُشبع نظره، ألمُتهالك لرؤيتها ..
كان ينظر اليها، فإستدارت فجأة الى الخلف، وتصادم نظرها، بنظره فإبتسمت له، وأشار اليها بيده بسرعة فائقة، وكأنه نشَّال ٌ مُحترف ْ ..
ما إن إنتهت المحاضرة، وعلى غير عادتها، أسرعت بالخروج، وكان بإنتظارها، ضحكت كثيرا ً عندما قال لها، لا تتكّلي علي ّٓ في شرح هذه المحاضرة، لاني لم افهم شيئا ً منها، بل يمكنني ان أُعدِّد المراّت التي نظرت ِ الى الوراء، وعدد المراّت التي وقع قلمك الى الارض ..
إرتاحت أساريرها، وإبتسمّت ..
ولمّا سألته لماذا تأخر ..
ولماذا يبدو مُنهكا ً ؟
إجابها دون تردّد ...
كان ليلي طويلا ً ...
وكان أرقي مُتعبا ً ...
وكان قلقي عَلَيْكِ، مُنهكا ً ...
فرجّوت ُ القمر أن يغيب ...
وتضرعت للشمس أن تشرق ...
كل ُ ذلك .. بسببك !!
وسألها، هو :
كيف حالك أنت ِ ..
قالت :
كان ليلي، قصيرا ً ...
لان النُعاس، غلبني ...
وإتكأت جفوني على بعضها ...
ونِمت قريرة العين ..
لم يكترث لانها إدعَت ذلك، بدليل انها طلبت منه الدخول الى كافيتيريا الجامعة، لان التعب بدأ يجتاحُها، ولا يُخَفِّف من وطأته، الا القهوة ..
في الكافيتيريا، وهي ترتشف القهوة، أخرجت من حقيبتها قلم باركر نصفه الأعلى ذهبا ً والنصف الثاني لونه أزرق، وقدمته هدية له ..
رفض إستلام الهدية، لانها غالية الثمن، وقال لها عليك ان تضعي المال الذي صرفتيه لهذا القلم، على صحتك بدلا ً من أن تشتري قلما ً لن استعمله ..
طلب اليها، إعادة القلم وإسترجاع القيمة ..
إدراكا ً منها بصدقه وإهتمامه بصحتها، أخذت القلم وأعادته الى حقيبتها، وأردفت تقول اني لم أشتره بل هو لوالدي، تركه على طاولته بعد ان إستعمله، ولكنه يبدو جديدا ً ..
كسابقة النوم قريرة العين، طوال الليل لم يُعِّر إدعاء مقوّلة القلم انه لوالدها، اي إهتمام ..
كان ذكاؤها حادا ً لانها تركته يتخبّط بجهله عن مدى الثراء الذي تتمتع به ..
وهذا بحّد ذاته سببا ً كافيا ً للهيام به ..
عرض عليها ان يُرافقها الى محطة توقف الحافلة، شكرته قائلة ان والدها سيمّر عليها لأخذها الى المنزل ..
وإفترقا الى غد ٍ أخر ...
من قصة، ستطول.
- الفصل الثالث :
كان هذا اليوم، عاصفا ً ماطرا ً، وكانت الشوارع المحيطة بالجامعة تُزمجّر أنهارا ً وزادت سرعة الرياح عن المألوف ..
لم يطّق ان يمُرّ هذا اليوم دون ان يراها، لان سُحُّب الحب بدات تحوم في قلبه، والشوق اليها ما لبث ان تعلّق على أسوار عقله، فدلف الى قاعة المُحاضرات يائسا ً من طول الانتظار ..
دخّلت القاعة على عجَلة من أمرها، لم تجوّل نظرها كثيرا ً لانه كان على عتبة الباب مُطأطأ ً رأسه ..
طبطبّت على كتفه ..
وقالت :
ما بك ؟
أجابها،
ما بك انت ؟
لماذا تأخرت ؟
قالت، أخذني وقت كبير حتى أصل من محطة الحافلة الى الجامعة، وأشعر الان بالبرد القارس، والمطر الغزير، بلّل ثيابي، والشوارع باتت جداولا ً ..
تركها تُكمل وصفها، وأشفق عليها، ومد َٓ يده وكأنه يُصافحها، علّه يعطها دِفئا ً، فَذُهِل عندما شعر بأن الدفء في يدها، وأطبق يده الثانية على يدها، وقامت هي الاخرى، بوضع يدها فوق يدّه، ونظر الى وجهها وقد غطّاه الخجّل ..
فقالت له ما بك ؟
قال، خِفت عليك ..
وقلقت لان موقف الحافلة بعيد عن الجامعة ..
ثم أسقط عمدا ً، قلما ً وإنحنى ليلتقطه، فإذ به يُصاب بالذُهول ثانية لان حذائها الكُحلي اللون، والمخملي النوع لم يتلطّخ بنقطة ماء واحدة ..
كذلك ألقى نظرة على ثيابها، فإنها كانت غير مبّللة بالمطر ..
عادت وسألته ..
ما بك ؟
لم يُجِب ْ ..
ساد صمت رهيب، لم يقطّعه إلا خياله الذي أخذه ورماه في نعومة يديها، وطراوة ملمسه ..
فضرب إخماسا ً بأسداس، كيف تأتي من موقف الحافلة، ولم تتبلّل ؟
كيف تقول ان البرد أخذ منها، ويدها دافئة ..
لحظات لمعت في مُخيلته، وكأنها سنوات ..
تألمّ كثيرا، لانه وقع طريح سهم من حب قاتل، أطلقته إمرأة يجهل من هي، ولكنه يعرفها ..
من إمرأة إحتّلت قلبه ..
دون قتال ..
من إمرأة تشغُل حياته ..
وهي ليست من هذه الحياة ..
توقفت هواجسه ومخاوفه، عندما، همست في أذنه، وقالت سأترك القاعة الان، لان الأرصاد الجوية أعلنت بالامس أن العاصفة ستصبح أشد ضراوّة بعد ساعات، وانا مضطرة للعودة الى المنزل، وأتيت فقط لألتقي بك بالرغم من هذا الطقس الماطر ..
زاده الذهول، ذهولا ً ..
أعطّته يدها، وانحنى يُقبِّلها، بكفيه ..
وقالت، أخبرني لاحقا ً عن المحاضرة، إن شئت ..
تركها تُهروّل مسرعة، إلا انه تسلّل خلسة من قاعة المحاضرات دون ان تراه ..
سار مُسرعا ً ووقف امام نافذة الدرج التي تُشرف على مدخل الجامعة وعلى الطريق العام ..
لم يتمالك ذلك المشهد الذي رَآه بأُم العين ..
سيارة أميركية فارهة المنظر، متوقّفة على باب الجامعة، سائقها يلبس بدلة كحلية اللون، ويعتمر على رأسه قُبعَّة وكانه، جنرال من جنرالات الوغى، يُسرع في فتح باب السيارة الخلفي لتدخل هي التي كانت معه منذ لحظات ..
أقفل السائق الباب، وتراجع هو الى الوراء، ولمحها من ثاقب نظره، وهي تُسرح نظرها، للأعلى ومن حولها، فإطمأنت، انه لم يشاهدها أحد ..
وكان ذهوله هذه المرّة، أشد مرارة من وقع الصاعقة عليه ..
لم يدخل قاعة المُحاضرات، وإنهارت عليه ذكرياته معها :
ظنّ انها أقل ّ منه يُسْرا ً ..
ظنّ انها أكثر ُ منه صُدِّقا ً ..
ظنّ انها تُحبّه ..
وعادت ظُنونه، وشُكوكّه بانه لا بد من سبب لهذا الكذب المُتمادي، والتكّتم الشديد عن وضعها المادي ..
عاد الى منزل عائلته، والسماء تقصف اكوابا ً من المطر، تنهمر عليه دون هوادة ..
لم تبرح من مُخيلته ..
- الفصل الرابع :
وفي مساء ذلك النهار الصاخب في عاطفته، والعاصف بأجوائه، تلقّى إتصالا ً هاتفيا ً منها ..
بادرته قائلة لن اسألك عن المحاضرة، لانها لا تهمّني بقدر قلقي عليك كيف وصلت الى منزلك ؟؟
وإنهمرّت عليه بالاستفسارات، وهل أصابك مكروه، وهل .. وهل .. الى ان توقفت عن طرح الأسئلة ..
أجابها فورا ً ..
انا بدوري قلقت عليك، لان غزارة المطر لحظة مغادرتك الجامعة كانت كافية ان تُغرقك ..
إجابته، تبللّت كثيرا ً ..
وتأخرت الحافلة ..
وشعرت بالبرد الشديد ..
أجابها ساخرا ً..
كم تمنيت لو كنت معك ..
وقالت ..
لماذا ؟؟
لاني كنت :
سأُخبئك، تحت معطفي ..
وأُوقيك، من المطر ..
وأدفع عنك البرد ..
قالت له ..
أتمنى لو تهّب عاصفة ثانية، حتى ننزل سويا ً تحت المطر، لأنعم بدفئك ..
ولأتمتع بحمايتك ..
قال لها ..
هل تمزحين ..
أو تسخرين، مني ؟
قالت له ابدا ً ..
وفيما لو طال أمَد العاصفة حتى الغد، سأطلب اليك ان تُرافقني تحت المطر الى محطة الحافلة ..
أجابها، والحُنق باديا ً من لهجته ..
وماذا ستفعلين بسائقك الخاص ؟
ولماذا تهزئين، مني ؟
ولماذا ..
ولماذا ..
وأنهى المكالمة، طالبا ً منها عدم الإتصال به مُجددّا ً ..
لم تتمالك، نفسها ..
وإنهارت باكية ..
فنزلت دموعها مدرارا ً ..
وأجهشت بالبكاء حتى أحسَّت والدتها بالأمر، فقدمّت اليها، مُستعلمة ً وقلقة ً عليها ..
أخبرت والدتها، بتفاصيل الموضوع، من كتمان، الى تنامي الحب بينها وبين ذلك الشاب ..
وكيف انه أحبها وهي تُخْفِي عنه مستواها المادي ..
قالت لها والدتها ..
لن أطلب منك تفاصيل إضافية ..
إنه يستحقك ..
وكفى بكاء ً ..
دعيني أُصلح ذات البين، بينكما ..
وطلبت اليها ان تعطيها رقم هاتفه ..
- الفصل الخامس :
ومع تزايد، وإشتداد العاصفة، هبّت رياح قوية، وإنقطعت الكهرباء وعلّا في أرجاء المدينة، أصوات وكأنها عواء ذئاب جائعة، فتطاير الزجاج، إنهارت الأبنية القديمة، وأمتلأت الشوارع بمياه الأمطار ..
أغراه، وأغواه هذا المنظر، فنزل الى الشارع بالرغم من معارضة أهله، وفي مُخيلته انها معه، وتحت معطفه ..
ولمّا أنهكه السير، وهو يُحاكي نفسه في خضّم هذه العاصفة الهوجاء، عاد ادراجه الى بيته وسبح في أحلام حتى صباح اليوم التالي ..
أيقظه والده من سُباته العميق ..
وقال له :
هناك سيدة تطلبك على الهاتف وتريد ان تتكلم معك ..
وعلى الجانب الاخر من الهاتف، قالت هذه السيدة له :
انا والدة زميلتك بالجامعة ..
أطلب اليك أن تقبل إعتذار إبنتي عن الذي حصل بالامس، ولو انها بحالة صحية جيدة، كانت هي التي قامت بالاعتذار، كونها الان في المستشفى طريحة الفراش، لعارض صحي مفاجئ على الغير ..
وليس عليَّ انا ..
تغيّرت لهجته، وقال كلاما ً إرتطم صدّاه أرجاء الغرفة ..
ما الذي حصل ؟
وكيف ؟
وأين هي ؟
وبأي مُستشفى ؟
وبأية غرفة ..
أجابته، هدِّأ من روّعك ..
إنها الان بخير ..
ولا أرى مانعا ً إن قمت بزيارتها ..
وأردفت قائلة :
الى اللقاء.
في هذه اللحظة :
إنقشعت الغيوم السوداء، من سماء عقله ..
وجفت الدماء السوداء ..
من جدران قلبه ..
وإنبسطت أساريره ..
ونسي عتّبه ..
وهاجت في وجدانه موجات من العطف، والشفقة، والحنان عليها ..
فتح نافذة غرفته، ورأى الشمس كعادتها تُشرق، وترسل أشعتها، وكأنها تضحك، وتبتسم له ..
هدأت العاصفة، وإنحسّرت ..
إنقلبت حياته وتبدلَّت، رأسا ً على عقب ..
وشعر انه تقمّص من جيل الخيبة، الى جيل الأمل ..
فتراكمت، وتزاحمت الأفكار في مُخيلته ..
ماذا سيفعل ؟
كيف، ومتى يزورها ؟
ولكنه إصطدم بأمر شائك صعب المنال، والتحقيق ..
هدية زيارته لها في المستشفى ..
إنها تُحِّب، وتعشق زهرة ..
( كراون دايسي )
إنه فصل الشتاء ..
وهي زهرة برية ربيعية ..
ماذا سيفعل ؟
- الفصل السادس :
وفي تلك الليلة الليلاء ..
وبعد ان أخذت رقم هاتفه من أبنتها،
سألتها :
الان، وحالا ً، وفورا ً ما قصة هذا الشاب ؟
ولماذا الكذب ؟
ولماذا إخفاء، من انت ؟
ولماذا ... ولماذا ... وكيف ..
أسئلة ... أُم :
أجهدت نفسها لتجعل من إبنتها صديقة لها، حتى ترجع اليها في أحلك الأوقات ..
وكانت إبنتها، خير صديق، وخير جليس لها ..
إذن ما الحكاية ؟
قالت لوالدتها :
أنت تعلمين لماذا تركت الجامعة الاولى، وإلتحقت بهذه ..
أنت تُدركين كيف كان شباب الجامعة يتمّلقون، ويتودّدون لي ..
كل ذلك بسبب الثراء الذي انا فيه ..
ما زلت يا أُمي، تتذكرين نِفاق الشباب في تصرفاتهم الرعناء، في تسابقهم مع سائق سيارتي، لفتح الباب لي ..
وانت الوحيدة التي وقفت بجانبي حتى قَبِل والدي بأن أتحّول الى جامعة أخرى، بالرغم من علو شأنها ..
والثانية، أقّل منها ..
كل هذا جعلني أشمئز من الجامعة، ومن طلابها وشبابها، فأحسست اني لا شئ، لولا ثراء، ومال أبي ..
قالت الأم :
وما دخل كل هذا، بهذا الشاب ؟
أجابت والدتها :
منذ اليوم الاول لدخولي الجامعة، طلبت من سائقي أن لا يُوصلني الى باب الجامعة، كما كان يفعل سابقا ً بل طلبت اليه ان يوقفني قرب محطة وقوف حافلة الركاب، وأمام أحد الحوانيت الصغيرة، حيث إتفقت معه ان يسمح لسائقي بالوقوف لانتظاري لقاء ان أشتري كل يوم منه، حلوى او ماء، وأُقدمها بدوري الى أُم وابنتيها الصغيرتين، دائماً يتوسلن، ويطلبن المساعدة من المارة امام باب الجامعة ..
بقي الحال على هذا المنوال، إلى يوم هبوب هذه العاصفة الشريرة، عندما شاهدني وشاهد سائقي، حيث وقعت الكارثة، والمأزق الذي انا فيه ..
قالت الأم :
ما زلت لا أفهم ..
هل إرتكبت جريمة ؟
قالت، يا أُمي :
هذا الشاب توطّدت علاقتي به، ونمى الاحترام، والمودّة بيننا بالرغم اني فقيرة بنظره ..
أحبني أنا ..
أحب ّٓ .. صفاتي ..
أحب ّٓ .. أخلاقي ..
أحب ّٓ .. ثيابي البسيطة، غير الفاحشة الثمن ..
أحب ّٓ .. تعلُقي بالزهرة البرية، لميزتها المعنوية، وليس المادية ..
أحب ّٓ .. الأنا التي انا ..
تصّوري يا أُمي ..
لمّا حل ّ بي المرض وتغيّبت عن الجامعة، ماذا فعل ؟
عرض ان أزور عيادة طبيب عائلته، من دون ان أدفع ثمن الزيارة، لانه إعتقد اني أعيش في عِسر مالي، أي أني فقيرة ..
كان دوما ً يرسل لي مُلخّص المحاضرات ..
ويرفقها برسالة بخطه، يُعلمني بكل شاردة او واردة حصلت في غيابي ..
كانت رسائله لي ..
أهم من المحاضرات ...
لانها أبقتني حاضرة ..
وأعطتني البهجة، والسرور، ولم يُعلمني قطّ بخبر أزعجني، حتى جعلني أظنّ ان الجامعة، وطلابها، وأساتذتها، وعميدها، إفتقدوني طالبين بالصوت العالى ..
تعافي ..
وعودي ..
نحن بشوق اليك ..
كانت رسائله لي :
دائما ً وأبدا ً تبدأ بحرف ( و )
كقوله :
وبينما ..
وعندما ..
ومتى ..
و، الخ.
وقد سألته مرة واحدة :
لماذا تبدأ رسائلك لي بحرف ( الواو )
أجاب :
ل .. وٓصْلِ، ما إنقطّع ...
إن، إنقطع ..
ولن، ينقطّع ..
قلت له، وكيف :
قال :
منذ اليوم الاول الذي تعّرفت عليك، عاهدت نفسي، أن تبقى أيامي وايامك موصولة الى الأبد ..
وهكذا ..
وهذا، أعني :
وٓصْلِ، ما إنقطّعْ ...
......
......
أجهشت، بالبكاء،
وغابت، عن الوعي،
ونقلتها والدتها للمستشفى.
- الفَصل السابع :
بقي يفكر، ويفكر كيف الوصول الى كراون دايسي، إنه الشتاء، والصقيع، وتراكم الثلوج فوق جبال قريته، يمنعه من التفتيش والتنقيب على هذه الزهرة حتى وإن كانت قد، ذبُلّت ..
لم يترك متجرا ً لبيع الزهور، والورود إلا وسأل عن هذه الزهرة ..
كان الباعة، يتعجّبون، ويقولون :
هذه الزهرة، برية لا تُباع لانها تنمو على حافة الطُرق، لا قيمة مادية لها، فضلا ً أن موسمها، في الربيع ..
لم ييأس ..
دخل أحد المتاجر ..
يُباع فيه كل شيئ يخّص المرأة ..
وقال لإحدى البائعات :
إن زميلتي بالجامعة تُحِّب زهرة برية أسمها بالعربية، وبالإنكليزية، كذا، وكذا،
أوّد أن اشتري لها هدية، عليها رسم هذه الزهرة ..
لم تفهم عليه البائعة، ولكنها رغبت في المساعدة ..
وقالت :
هذا رزمة اقلام ملونة ..
أُرسم لي هذه الزهرة ..
سأساعدك ..
قام برسمها بدقة مُتناهية، بالأبيض، والأصفر، والغصن، الأخضر ..
قالت له مهلا ً ..
وأتّت بالعقود، والسناسل، وكل شيئ فيه صورة، كراون دايسي ..
أعجبته من كل القطع، قطعة واحدة، مرآة صغيرة، يُمكن وضعها في حقيبة نسائية ..
في وجهها الاول ..
مرآة .. تُعطي الصورة حجما ً أكبر ..
وفي الوجه الاخر، رسم ناتئ، وبارز لهذه الزهرة بكل تفاصيلها ..
وبينما تهّم البائعة، بتغليف الهدية، سألها، إن كان لديها ورق هدايا عليه هذه الزهرة ..
لم تتمالك البائعة من الابتسام، والضحك ..
وسألت غيرها من البائعات إن كان يوجد هذا النوع من الورق ..
وبعد طول غياب، وتفتيش، أتّت زميلتها تحمل رزمة ً من هذا النوع، فإشتّد فرح البائعة اكثر منه ..
وقالت له :
كيف تريدني أن أقوم بترتيب الهدية ..
قال لها :
رسم الزهرة الذي قُمْت بتصويره، لك ..
أُريده مع المرآة ..
وبداخل العلبة ..
والباقي عليك ِ ..
قبل مغادرة المتجر، سألته البائعة :
لماذا إصرارك على هذه الزهرة ؟
أخبرها ..
الجز الاول من قصة كراون دايسي،
وكريستل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق