Pages

الأحد، 1 أبريل 2018

ألجِسْر، وحوريَّة النهر ..


الجِسْر، وحوريَّة النهر
قِصَّة قصيرة، من واقع الحياة
...
فيها من اليأس، والأمل
فيها من الشيخوخة، والشباب
فيها من الجحود، والوفاء
فيها، من الحب. والخيانة.
وفيها، من يباس العمر القاتل.   
وفيها أمور، أُخرى


كان يأتي الى الجِسْر كل يوم ...
بعد أن تقدّم بالعمر عتيا ً ...
وبعد أن تقوَّص ظهره ...
وبعد أن غزا الشيب مفرقه ...
وبعد أن أمسَّت الوحدة أنيسته، لا تفارقه ...
كان يسير كل يوم، مع إشراقة شمس الصباح، على ضفاف نهر قرب منزله ...
وكان يستريح إن تعِب َ على ضفة النهر، قُبالَّة جِسْر قديم ... 
يسند ُ وجهه ُ على راحة ِ كفَّيه ... 
والهّم ُ يكاد أن .. يَقْتُله . ..
وألحُزْن ُ يكاد أن .. يَعْصُرَه ... 
والألَّم ُ يكاد أن ينخره ...
وقد مٓل َّ الحياة ... 
وأوجعته، الخيبات ...
وأنهكته، الخيانات ...
يستعجل .. الرحيل ...
ويُردّد بأعلى صوته ...
آن الرحيل ...
آن الرحيل ...

الى ان تكرر هذا المشهد اليومي، الحزين أمام الجِسْر ..
وذات مرة، فاجأه الجِسْر بأن خاطبه بكلام بشري ... 
إنتفض مذعورا ً، من صوت صادر من جِسْر قديم ...
فأبدى إستغرابا ً، وكأن لوثة ً قد حَلَّت في عقله ...
فقال له الجِسْر بنبرة قاسية، غاضبة ...      
توَّقف،  يا هذا ...
توَّقف، يا هذا ...
وأوقِف ْ هذا النحيب، والاحباط، والتشاؤم ...
إغرُف، من ماء النهر ...
وإغسِل، .. وجهك ٓ ..
وإمسِح، .. عرقك ..
وإمشي
وإمشي

لم يحِّن، مِيعادُك ٓ.. بعد
لم يحِّن، مِيعادُك .. بعد ..
وما إن أنهى الجِسْر موعظته الغاضبة  والشديدة  اللهجَّة ...
حتى هزَّت الإرجاء، أصداء الكلام ...
وساد صمت ٌ رهيب ...
لم يقطعه، إلا ما حصل ما لم يكن بالحسبان ...
فوقف مشدوها ً مذهولا ً على ضفة النهر، لا حِراك فيه ...
نظر الى النهر والماء تنحسر، وتغيب ...
وتوقف خرِيرُها ...
مٓسٓح َ عينيه، لعّٓل غشاوة أخفّت ناظريه ...
لم يعْلق ْ  شيئا ً على عينيه ...
ومع ذلك، نظر مُجدّدا ً ...
وأعاد النظر في النهر ...
إختفّت، وإنحبسّت المياه، فجأة ...
نظر الى الجبال المحيطة بالنهر ...
رأى الثلوج تكسوها وتغطيها ...
وتذكَّر أن المطر في الليلة الماضية، كان كثيرا ً ومنهمِرا ً بغزارة ....
إحتار في أمر هذا النهر ...
كيف توقّف عن الجريان ...
أصابه الخوف، وإنتابه شعور غريب ...
وتوجَّس خِفية من حدوث ظاهرة غير طبيعية، في المكان ...
آثر الرجوع الى منزله ...
وبينما هو يهٍّم، في العودة ...
حزينا ً ... كئيبا ً لإختفاء النهر ...  
سمع صوتا ً مِن بعيد، يُناديه ..
إنه الجِسْر، مُجدّدا ً...
يقول له :
عُد ْ ...
لا تذهب ...
وكيف تذهب ...
ولا تريد ان تعرف سبب إنحسار مياه النهر ...
قال له، بلى ...
أُريد أن أعرف السبب ...
أجابه الجِسْر ...
إنه مِثْلُك ٓ ...
يُعاني ....
يُقاسي ....
ويتحمَّل ...
خيبات، وجحود، وقلة الوفاء ....
أن مياهه، تصُّب في البحر ...
سُدوده، تروي أرضا ً بغير ذي زرع ...
توّقف، وإنحبسّت مياهُه ....
مِثْلك ٓ ... انت
مِثْلُك ٓ ... انت
قال للجِسْر، مُتعجبا ً وحزينا ً ومُنهكا ً ...
إني مُتعب، ولا أقوى على إنحباس مياه النهر ...
وأستميحك عذرا ً بالعودة ...
أجابه الجِسْر ...
حسنا ً ...
عُد ْ غدا ً ...
عُد ْ غدا ً ...
هناك، مفاجأة بإنتظارك ...
بعد هذه المحادثة مع الجِسْر  ...
إحتار في مسالة العودة، والسير على ضفاف النهر ... 
وبدأت ...
الأفكار، تتجاذبه  ...
والهموم، تنتابه ...
ويندب حظه السيئ، الذي ...
ما زال يلاقيه، وينتظره ...

وبعد أن إنحبسّت مياه النهر، في ذلك النهار ...
عاد أدراجه ...
وقد ذُهِل َ وهو يهِّم بالعودة الى منزله ...
أن أسراب الطيور، ترافقه ...
وُقِّطعان، الغزلان، والبِّط، والأرانب تسير جنبا ً الى جنب، معه ...
إلى ان توقف مُجدّدا ً يُلقي نظرة الوداع على الجِسْر والنهر ...
فَلَم ْ يَعُّد ... يرى
أي، طير ٍ ... طائر ٍ ...
او، حشرة ٍ ... زاحفة ٍ ...
ولم، يَعُّد  ... يسمع ...
نقيق،  الضفادع ....
ولا، ضغيب الارانب ...
ولا، سليل الغزلان ...
ولا، مأمأة الخرفان ...
ولا، ثُغاء الماعز ...
ولا، فحيح الأفاعي ...
ولا، صهيل الأحصنة ...
ولا، نِباح  الكلاب ...
ولا، خفوق الطيور ...
ولا، زقزقة العصافير ...
ولا، دندنة البعوض ...
ولا، وغي النحل ... 
ولا، نق العقارب ...
ولا، صرير الجُندُب ...
كلها ... إختفّت ذلك النهار بعد إنحباس ماء النهر ... 
إنقطع عن زيارة الجِسْر، والسير على ضفاف النهر عدة أيام ...
ولكن، الحنين الى الجِسْر بدأت عوارضه تجتاح تفكيره، وهو الرجل العجوز الذي فارقه الخِلاَّن والاصحاب ...
ولم يُكلّمه أي مخلوق، إلا الجِسْر ...
بعد رَحِيل عائلته، وأولاده عنه ...
قرر العودة غدا ً على جَري عادته لملاقات صديقه الجديد، وكليمه .. الجِسْر
في ذلك الصباح الذي قرر فيه العودة الى الجِسْر، والنهر ...
صُعِق لمَّا إستفاق فجرا ً ...
حيث سمع ... عن بُعْد .... 
أصواتا ً .. تَصدُر عن الجِسْر ...

صوت، أغصان  الشجر، وهي تصدر صفيقا ً ...
صوت، أوراق الشجر، وهي تصدر حفيفا ً ...
صوت، العشب  اليابس، وهي تصدر هزيزا ً ....
صوت، القصب،  وهي تصدر غِناء ً  ... 
وصوت، الصباح  وهو ينشد ألحانا ً مُفرحة ...
إستعجّل القدوم  للجِسْر ...
وصعقه، ما  شاهد ٓ ...
وبهرّه، ما رأت عيناه ...
إنه، ماء النهر ... يتدفق خريرا ً ...
إنه، الجِسْر ... يضحك  قهقهة ً ...

قال للجِسْر ... 
ما بك ٓ يا صديقي الجديد ...
بالامس ... كنت ٓ .. غاضبا ً ...
واليوم ... إنك َ .. تضحك ...
نعم ...
كنت غاضبا ً على إنحباس ماء النهر ...
وكنت غاضبا ً منك بالذات على تشاؤمك ...
كنت، أبكي مع، حورّية .. النهر ...
قال له ...
ماذا ؟؟؟
حوريَّة النهر !!!
هل توجد بالنهر، حوريّة ...
لم أُشاهد طيلة حياتي، وبالرغم من يباس عمري، حوريّة في هذا النهر ...
أجابه الجِسْر، مُبتسما ً ...
نعم، نعم، نعم ...
للنهر، حوريّة جميلة ...
لمَّا إنحبست مياه النهر ...
حَزِنت، هي ...
وحزِنْت،  انا ...
أصابنا البكاء ...
حتى،  ملئنا ضفتّيه ... 
من ماء ... دُموعِنا ...
وها هو .. ألان، 
يتدّفق
يتدّفق، 
وسيتدّفق

وبدأ الجِسْر يتكلم، ويتكلم فَرِحا ً وسعيدا ً ..
وقال له :
يبدو ان وضعنا متشابه، ومُتماثل ..
أنت أصبحت كبيرا ً بالعمر، وقد غزا الشيب مفرقك ..
وانا اصبحت جِسْرا ً قديما ً، هزيلا ً آيلا ً للسقوط ..
سأخبرك كل يوم قِصَّة، شرط أن توعدّني وعدا ً قاطعا ً ...
قُلت، ما هو ...
قال، أن تأتي كل صباح، وكل يوم ...
قُلت، هذا أسهّل شرط، شرّطه مخلوق عليَّي ...
ولكن لماذا أيها الجِسْر هذا الإصرار ...
قال ...
لما، عجّزت، ودخلت في العمر، عتيّا ً ...
أحسسّت نفسي عاجزا ً ..، 
وشعرت ان المارّة، يغربون وجوههم، عني ...
ولا يكترثون، لحالي ...

بعد ان كنت
أسمع ْ، همومهم ...
وأفرح ْ، لقصصٍّم ...
وأتحمّل ْ، أكاذيبهم ...
وقد :
مللّت، من زيفهم ...
وتغاضّيت، عن كيدهم ...

وعفوّت، عن ذنبهم ...
فأتكأت،  جانبا ً ...
حزينا ً، مهموما ً ...
قُلت للجِسْر ...
هذه هي طبيعة البشر الذين مَرُّوا عليك ...
وهذا ما أشكوه انا ايضا ً ...
لا .. تٓعْتّب ْ ...
ولا .. تيأس ْ ...
فأنا أصبحت أراك مصدر ... 
إلهامي، وأمالي، وبهجة أحلامي ...
وساعة راحتي ...
بعد أن نهرتني ذاك اليوم، وطلبت مني ان أتوقف عن التشاؤم ودُعاء الرحيل ...
أخذت بنصيحتك، وخضعت لمشورتك، وقبلت رأيك ...
وإعتبرتك، صديقي وكليمي ...
ومخبأ،  سِرّي ...
وقررت العودة، والسير على ضفاف النهر حتى ألقاك، كل صباح ...
أجابه الجِسْر، والسرور، والسعادة، والبهجة تعِّم المكان ... 
أهلا ً بك صديقا ً صدوقا ً ... 
وغدا ً، ألقاك يا صديقي
وأجابه ...
وغدا ً ألقاك ..
لأنه، يوم أخر ...
بعد هذا اللقاء، توطدَّت أواصر الصداقة بين الاثنان ...
وفي اليوم التالي ...
وعلى جري عادته في السير باكرا ً مع طلوع الشمس ...
وبينما كان يسير، على ضفاف النهر كعادته  ...
توقّف مشدوها ً .. لا حِراك به
إذ لمح بصره من بعيد، إمرأة فارهة الجمال ...
تطير حولها الطيور ... غِناء ً  ...
تنحني أمامها الأزهار ... غِنجا ً  ...
وتسجُد لها الأغصان ... إِحتراما ً  ...
تجلس على ضفة النهر ...
نِصفها الأعلى،  إمرأة بشريّة  ...
والنصف الاخر، سمكة  ...
تُرخي ذيلها الأسفل  ...
تداعب به مياه النهر ...
تأتي الأسماك، لتقبّلها ...
ويعبِق ُ الجو بعطر ِ، رائحتها ...
وإذ بصوت ينهره من بعيد ...
إنه الجِسْر  ..
يصرخ، ويوجه كلامه له ...
إرحل ْ، من هنا ...
إرحل ْ، من هنا ...
إنها .. حوريّة النهر  ...

إنه، وقت عِبَادتها ...
إنه، وقت ممارسة،  طقوسها ...
أجابه ...
ما بك أيها الجِسْر
بالأمس، كنت صديقا ً ...
واليوم، تطلب مني الرحيل ؟
أجابه الجِسْر  ..،
وما زِلْت صديقك ...
ولكن ...... 
هذا وقت صلاتها، وعبادتها وهي تؤثر البقاء وحيدة
لم يُحرِّك ساكنا ً ...
وقفل عائدا ً حزينا ً ...


ومع إشراقة شمس النهار التالي ...
قام مُسرعا ً على غير عادته مُتجها ً ناحية الجِسْر  ...
علّه يلتقي مع حوريّة النهر ...
وبينما هو ينتظرها ...
نظر الى أسفل الجِسْر ...
حيث رأى المياه تتدّفق بغزارّة ...
وتُسْمِعُه، خرِيرُها ...
وهي تتراكض ُ، ضاحكة ً، مُتزاحمة ً ...
ونظر الى من يسير على الجِسْر ...
رأى وجوها ً ...
غاضبة ً ...
مُتجهّمة ً ...
عابسة ً ...
قلّما وجد وجوها ً ...
ضاحكة ً ...
باسمة ً ...
او فرحة ً ...
هم ّ بالرجوع، والعودّة ...
إستوقفّه الجِسْر ...
لماذا ... العجّلة ... 
إمكُّث .. قليلا ً ...
قال ...
إنتظرتّها كثيرا ً ...
كما أنتظرها كل يوم ...
ولا ، تأتي ...
أجابه ألجِسْر  ...
إنها ... كئيبة اليوم ...
نظرّت الى السماء ... 

لم تجِّد ألا غيوما ً مُلبدّة ...
تتراكّض، وتتقاتّل ...
وتُسْمِعُها رعدّها ...
وتُنذِرُها، بكوارثها ...
فآثرّت عدم الظهور ... 
فقال له، ما دخلي انا بالسماء، والغيوم ...
ألّم ْ .. تُخْبِرها أني تعلَّقت بها ؟
وإني أنتظرها كل يوم ...
أجابه ألجِسْر ...
نعم ... أبلغتُها ...
وماذا قالت لك ...
أجابه ألجِسْر ..
دعني أقِصُّ عليك، قِصَّة حورية النهر ...
....
وبالرغم أنه يُرافِق شروق الشمس، كل يوم في ذهابه للجِسْر  ...
إلا أن فجر هذا الصباح، يختلف عن كل ما سبقه ...
لأن نُسيّمات الهواء، تحمل أمالا ً له ...
وأشعّة الشمس، تنقل دفئا ً لقلبه ...
وعلى غير عادة المارّة فوق الجِسْر  ...
فإن البسمّة، كانت تعلو وجوههم ...
والسعادة، تغمر قلوبهم ...

أما الجِسْر كان على غير كآبته المعهودة ...
لم ينتظّر أن يرمي عليه الصباح ...
بل بادرّه، القول ...
هل انت على إستعداد لإستماع قِصِّة حوريّة النهر ...
أجابه ...
نعم وكلّني شوق، ورغبة ...
قال له ...
إنها مثلي، تعرف المارّة الذين سارّوا على هذا الجِسْر ...
إنها مثلي، أصابتها الخيبّة تلو الخيبّة، طوال هذه السنين ...
إنها مثلي، تعرف قِصصِّ المارّة، سواء كانوا رجالا ً او نساء ً، صِغَارا ً أم كبارا ً ...
حَزِنّت لرفيقها، وحبيبها لما علِق في شباك الصيادين ...
وبقيت طيلة حياتها، تٓبكيه، وتُرثيه ...
أخلصّت لِذكراه ...
ولم تتخِّذ، صديقا ً او عشيقا ً ...
وإهتمّت بالزهور، والرياحين، والاشجار التي تنمو على ضفاف النهر ..
وساعدّت الطيور التي أخذت من الأشجار، أعشاشا ً ...
وصادقّت الحيوانات الأليفة، لإخلاصها ...
قاطّعه ...
ألّم يكّن لديها أصدقاء من المارّة ...
أجابه الجِسْر  ...
كانت، حورّية النهر تشهد على خِيانات المارّة مِن بني البشِّر ...
وكانت، تشمئز من زيفهم ...
وكانت، تتجنّب سماع أكاذيبهم ...
وكانت، تُذهلها ألاعيبهم ...
حاول بعض المارّة من الرجال، أن يخطِّبوا ودِّها ...
كانت، تصدِّهم ...
وكانت، تمقِّت تملّقهم ...
وكانت، ترفض محاولاتهم، لانها أدرى بقصصّهم، ورواياتهم ...
قال له ...
وما دخلي انا بكل هذه الأخبار ...
هل انا في عِداد هؤلاء ...
أجابه الجِسْر  ...
انت لست في عِدادهم، لانها تعرف أخبارك، واسرارك كلها ...
وإنها تُحاوّل إقناع نفسها، بأنك من غير طينّة المارّة ...

ولكن هناك، أمر وحيد تجهله .. عنك حوريّة النهر ...
وإنها ستتحقّق منه، بنفسها ...
إن أرادت أن تلتقي، بك ...
أجابه، ما هو ؟؟
غدا ً أُخبرُك، وأُعلمك ...

وما إن غادر ألجِسْر، ذلك الصباح حتى بدأت الشكّوك تجتاح كِيانه ..
والأسئلة تتدحرّج عليه كالصخور، من عال ٍ ...
يسأل نفسه، تارة ً ...
ويُجيب نفسه، طورا ً أخرا ً ...
خاف أن ينعتّه المارّة بالجنون ...
سأل عقله، هل يُحِّب حورّية النهر ...
أجابه،  بالإيجاب ...
وما أن سأل قلبّه، هل يُحِّب حوريّة النهر ...
حتى بدأ قلبّه يتخبّط داخل صدرّه، خبط عشواء ...
طالبا ً الخروج، والهروب الى أحضان حوريّة النهر ...
أمّا السؤال الذي حيَّره، وأخذ منه مقتلا ً ...
 ما هو الشيئ الذي لا تعرفه حوريّة النهر عنه ...
هنا تداخلت، شكوكه، ومخاوِّفه وإنعدام الثقة بنفسه، والكون المحيط به
أصبح مُقتنعا ً ... 
أن هذا النهار، سيكون أطول يوم في العام .. .
وإن الشمس، لن تغيب ...
وإن الليل، لن يسدُّل ستائره ...
وإن القمر، لن يُهدي دُروب العشّاق  ...
وإن الفجر، لن يبزُّغ ...
كل ذلك، حتى لا يلتقي بحوريّة النهر ...
وصل الى قناعة، مفادها ان مؤامرة كونيّة تُحاك ضدّه، حتى لا يلتقي بحبيبة العمر، حورّية النهر ...
أما .. في الجِسْر ...
كانت حورّية النهر، تقرأ أفكار ذلك الرجل البشرّي ...
تبتِّسم ...
وتفرح ...
وتشهق بكاء ً ...
وترتفع معنوياتها كلما كانت تتخبّط أفكار، ذلك الرجل البشرّي ...
الذي عشِقّها ...
وهام بها ...
وأحبّها، حتى الجنون ...
أمّا الجِسْر ...
كان شاهدا ً  ...
على العوارِّض، والمشاعر، والهيجان العاطفي الذي إجتاح، وسيطّر، وإحتّل قلب حوريّة النهر، صديقته القديمة ...
وكان عالما ً ...
بمشاعر صديقه البشري الجديد ...
أيقّن الجِسْر  ... 
أن وراء أكمِّة هذا الحُّب العنيف .. أكمِّة ...
وتوجّس، وتخوّف.. من هذه العلاقة ...
وتغيّرت معالمه ...
مِن .. قُبول لهذه العلاقة ...
إلى .. رفضها بالاطلاق ...
قالت له حورّية النهر ...
ما بالك ...
أراك فرِّحا ً وحزينا ً في آن ...
أجابها ...
قبل ان يأت ِ ذلك الرجل البشري ...
كنت لا تكترثين، ولا تهتمين بالمارة ...
أراك يا حوريّة النهر، قد تغيرت ِ ...
أُريد أن أسألك ِ ...
هل تُحبين ذلك الرجل البشرّي ...
إني أعرفك ِ، تمام المعرفة ...
حتى أيقنت انك تُحبين هذا الرجل  ...
وإن وراء أكمِّة هذا الحُّب العنيف الذي تٓكُّنيه لهذا الرجل البشرِّي، أكمِّات وأكمِّات ...
إنه، لا توجد لديك ِ أية  أشياء ٍ تجهلينها، تجاه هذا الرجل البشرِّي ...
إنك ِ، قرأت ِ أفكاره، وعايشّت ِ عواطفه، وأدركت ِ مقاصدّه ...
إنه، يُحِّبُك حبا ً جما ً ...
إنه، على وشِّك أن يخسّر حياته ...
او، يعيش مجنونا ً تائها ً ...
إذا لم يلتقِ  بك ...
وأضاف الجِسْر  ...
إنما توجد لديك ِ، مسألة واحدة  تجهلينها، او تتجاهلينها عمدا ً ... 
أجابتّه حوريّة النهر ...
وما هي المسألة التي أجهلُّها، او أتجاهلُّها ...
إنك ٓ الان تغرُبي وجهك عني، تِجّاه صديقك الرجل البشرِّي الجديد ...
وتولَّيه، محبتّك، وإهتمامك ...
وأغفلّت ِ سنوات عمرنا، وصداقتنا ...
سألت، حوريّة النهر الجِسْر  ...
هل، دبّت الغيرة في كيانك أيها الجِسْر  ...
أجابها الجِسْر ...
كلا، لم تدِّب غيرتي ...
لكني، أتوجَّس خوفا ً من هذه العلاقة ...
وأُصْدِقُك، القول ...
صديقك البشرّي  .. يُحِّبُك، ويعشقك ...
وعليك ِ .. أنت ِ ان تُصدقٍّيه القول  ...
وسألها ...
هل، تُحبين هذا الرجل البشرّي  ...
وبقي، يسألها ...
وَيَلِّح عليها، السؤال ... 
وكانت تمتنّع،  وتُؤخِر،  بالإجابة ...

إستغرب، الصّمت  الذي  تعتمده ... 
وإستعجّل، رسم  علاقتها مع ذلك الرجل البشرّي ... 

الى أن قالت له ...

والحسرّة،  تغلي دموع، مُقلتيها ...
والألم،  يعصِّر نبضات، قلبها ...

إنه، العشق الممنوع الذي يؤخرني ...
إنه، الحب المستحيل الذي يمنعني ...
إنه،  الجنون  الذي يؤرقني ...
إنه، الحب، الذي يُحرجني ...

مراكبي ... تاهّت بحبه ...
وشراعي ... مزَّقتها رياحه ...  



أستيقظ كل صباح، منذ أن عرفته ...
أرتشف جمال وجوده، في خيالي ...

بكل ... شوق وحنين ...
ألهث  ... 
وراء كل لحظة  جميلة،  يمُّر فيها فوق الجِسْر  ...  

لحظاتي، السعيدة تهرب مني  نحو الغروب ...
لمّا يغيب عني ...
إنه، غروب  ذاكرتي ...
إنه، شروق  واقعي ...
إنه،  نهاري المملوء بسحابة سوداء ...

وما بين الغروب، والشروق ...

أشتاقُ،  إليه ...
أشتاق، الى ...

عِشقي، الممنوع ...
وحُبّي،  المستحيل ...
هذه هي ألأكمِّات، والجبال، والحواجز، التي أتجاهلها ...
ليتني، كُنت أجهلها ..،
والان ...
بماذا، تنصحُني يا صديقي ألجِسْر ...
أنا الحوريّة، التي أحبَّت  ...
وَيَا ليتني، لم أُحِّبُ  ...
أما في المقلب الاخر ...
وبينما هو في ضياع تام  ...
لم ينم طيلة الليل  ...
ولم يُصدِّق ان الليل، قد إنجلّى ...
وأن الفجر، قد بزغ ْ ...
فأقبل مُسْرعا ً، ومهروّلا ً للجِسْر ...
بعكس نهار أمس ...
ضحِك له، الصباح ...
وزقزقّت له، العصافير ...
فأحسّ برائحة عطِّرة تحملها نُسيّمات الصباح ...
وكلّما اصبح قريبا ً من الجِسْر  ...
عبِق الجو بالروائح، الزكيّة ...
وعلّت تغريدات الطيور ...
ولكنّه ...
إستغرّب، عدم وجود المارّة على ألجِسْر كما إعتاد أن يلتقي بهم، كل يوم ..
أحسّ بأمر غريب، لم يعهدّه من قبل ...
كُلَّمَا إقترب من الجِسْر  ...
خفُتتّ الأصوات، حتى إنعدمّت ...
وما إن وصل الى الجِسْر  ...
شعر بأن ساعة الزمن، قد توقّفت ...
إعتاد ان ينهرّه الجِسْر ، ويزجرّه، ويأمره بالرحيل ...
إذا كانت حوريّة النهر تُمارس طقوسها ...
ألا هذه المرّة ...
رأى حوريّة النهر ...
تنظْر، اليه ...
تٓبْتٓسِم، له ...
وتمِّد يدها الاولى نحوه ...
وبالثانية، تُداعِب خصلات من شعرها ...
ركض جاثما ً .. يُقبِّل يدها، بكلتا يديه ...
وينظر اليها عاليا ً، وكأنّها الشمس  في قرص السماء ...
جذبتّه، اليها ...
وعيناها، تذْرِف دموعا ً من لؤلؤ ...
وثغرا ً، يفتح على أحجار ٍ من ألالماس ...
وتقول ...
لماذا تأخرّت ...
كل هذه السنين، والأزمنة ...
إنتظرتّك ...
يا حبيبي ...
حتى تقوّص ظهري ...
وزاد همّي ...
وفقُد أملي ...
فرفع كفيّه، ليحتضن البدر بكلتا يديه ...
وقال لها ...
ها انا ...
رهْن ُ .. إشارتك ...

نظر إليهما  الجِسْر ...
فقال لهما ...
مٓنعت المارّة، من السير فوق الجِسْر  ...
أمرّت الطيور، بالابتعاد ...
حتى تختليان، وتبوحا مكنونات الصدور ...
وقد حصل اللقاء كما تصوّرت، وتخيّلت ...
والان جاء دوري ...
انت ٓ، يا صديقي من عالم ٍ أخر ...
وانت ِ، يا صديقتي من عالم ٍ مُختلّف ...
أنت ٓ، يا صديقي من عالم .. التراب ... 
وانت ِ، يا صديقتي من عالم ..  المياه ...
انت ٓ، يا صديقي من عالم المِلّل، والنِّحَل، والديانات، وما أكثرها ...
وانت ِ، يا صديقتي من عالم الأساطير، والخيال، وما أجملها ...
انت ٓ، يا صديقي من عالم الأحزاب، والأرباب، والملوك، والامراء، والأزلام  ...
انت ِ، يا صديقتي من عالم  الرِّب الواحد، الْقَهَّار، الجبّار ...
لن أُكثر ...
ولن أُزيد ...
لن تلتقيان ...
ولن تجتمعان ...
هذا قدّركما، ونصيبكّما ...
ولكن ...
حتى أجعل حُبكُّما، أبديا ً، سرمدِّيا ً، أُسطُوريّا ً ...
تحكي عنه الأجيال ...
ويتغنّى به العشّاق، والخِّلان ...
سأُهديكما هدّية، لقاؤكما، وفرحكما، وحبكّما، وعِشقكما ...
هذه، الهدية ...
إنها نافذة، السبّع بُحور ...
إنها ...
إنها ...
......
بعد سماعه كلام الجِسْر ...
سقط جاثما ً باكيا ً حزينا ً مهموما ً ...
أين منه، والفراق ...
الموت، اصبح مرامه وهيامه، ومُبتغاه  ...
القبر، أدنى اليه مِن فِراق حبيبة العمر .... حوريّة النهر

وقبل أن يترك ألجِسْر ...
إنتّابه الذهول، والهلّع، والخوف، والإحبّاط ...
وأحسّ بهول الخسارة وهو يودِّع حوريّة النهر ... 
إكتفى، وبكل قناعة، وإيمان، ورجولّة ...
ان القدّر هو نصيبه ...
وقد إعتاد على مظالم القدّر ...
وإجتاحه شعور غريب، وكأنه برد وسلام ...
إن حوريّة النهر، تُبادّله ذات الشعور ... 
وإنه يحمل في يدِّه هديّة من صديقه الجِسْر، لا يدري ما قيمتها ...
أما الحوريّة، وهي تودِّع حبيبها، قالت له ...
وجفنّاها، تُطبقان كستارة إيذانا ً بإنتهاء قصة حُبّ أُسطوريّة ...
إلى اللقاء ...
يا حبيب العُمر ...
أجابها، والغصِّة تقتله ...
آن الرحيل ...
آن الرحيل ...
العيش، من دونك في هذه البلاد، جَهَنَّم وعذاب ...
قالت له ...
لا تتركني ...
لا تتركني ... وحيدة
إستغرّب، وتعجّب من قولها .. وهو يلِّوح مُغادرا ً ...
إستحسن الجِسْر  فروسيّة الرجل البشرّي وشهامتِّه ...
وإحترم رِفعة شأنه بهذا التصرّف النبيل، وهو يقبل هذه النهاية، الحزينة، والمؤلمة ...
وبِطلِّب من حوريّة النهر، وهي تشهق بالبكاء ...
أمر ألجِسْر ...
قطعان الغزلان، والبِّط، والأرانب، والطيور، والأحصنة الوقوف صفا ً واحدا ً لوداع الرجل البشرّي الشريف ...
كذلك، طلب ألجِسْر ...
من، أغصان  الأشجار، ان تنحني إحتراما ً لصديقة البشرّي ...
ومن، قُضبان القصّب، ان تصدر ألحانا ً حزينة ...
ومن النهر، ان ينفخ غِناء ً كنائسيا ً ...

صعقّه، ما  شاهد ٓ ...
وبهرّه، ما رأت عيناه ...
من التكريم، والتبجيل ...
قفِل عائدا ً الى منزله مطأطأ الرأس، يتكأ على عِكاز من خشب الأبنوس أهدته اليه الحوريّة، مُطرَّز ومُرصَّع بأجوَّد الأحجار الكريمة ...
لم يطّق العيش في تلك البلاد ...
قررّ العودة الى موطِّنه ... في مشرق الارض
فركِّب البحور السبعة، قاصدا ً بلاد أهله ...
تاركا ً حبيبة عمره، خلف هذه  البحور ...
ذاق العذاب المّر، وقٓبِل الهوان، وعاش الحرمان ...
وكانت نوبات حُبِّه للحوريّة، تقضَّي مضجعَّه ...
بدا هزيلا ً، مكمودا ً، مهموما ً، حزينا ً ...
فإستسلم، لنوم عميق لم يعهده منذ سنوات ...
وصحَّا على صوت الجِسْر  ...
قُّم ْ الى هديتِّي، وإفتحها ...
قُّم ْ الى هديتِّي، وإفتحها ...
هبَّ كالمجنون، ما هذا الصوت ...
إنه حِلْم مُزعج ...
أقنع نفسه بأنه يهذي في نومه ...
وعاد الى فراشه، لينام ...
ولكنه، نهض مذعورا ً من سريره على صوت الجِسْر يُناديه ...
قُم الى هديتي ...
قُم الى هديتي ...

قام مُسرِعا ً وبدأ يبحَّث عن هدية ألجِسْر ...
نفخ الغُبار عنها، ومزَّق غِلافها ...
وكانت الهدية، عبارة عن نافذة ...
وبدَّت النافذة، يُحيطُها إطار من الذهب الخالص مُرصَّع بأثمَّن الأحجار الكريمة، كالزمُرُّد، والياقوت، والعقيق، والفيروز، والتوباز، واللازورد، والزبرجد، واللؤلؤ، والأُلماس ...
كانت النافذة، مُقفلَّة بإحكام بواسطة مِفتاح قديم من الفضَّة، على شكل حوريّة ...
وما إن فتح شِبَّاك النافذة، حتى هبَّت رِيَاح عاتية، شديدَّة، ثم َّ خَفَّت، وأحس َّ وسمع، صوت الريح يحمِّل الحنين، والنسيم الرقيق ...
بسط ناظرِّيه من خلال النافذة ...
رأى، ما لم يرَّه مخلوق ...
شاهد، ما لم يُشاهدْه إنسان ...
أمره الجِسْر، بأن يفتح النافذة على مصراعيها ويبسط ناظريه ...
وَلمَّا فعل ما طُلب منه ...
حتى شعر بأن بساطا ً يحمله ويطير به ...
فوق بحور، وجبال، ووديان ...
قطع البحور السبعَّة، بلمحة بصَّر ...
وكأنه على بساط الريح ...
ومر َّ فوق الوديان، والبرارِّي، والبحار ...
وما إن وصل فوق، ألجِسْر، في مقلب الارض الاخر ...
حتى لمح حوريّة النهر تُمارس طقوسَّها اليوميّة ...
نظرَّت إليه، والإبتسامة تعلو ثغرها ...
أوقفَّت، طقوسها ...
ونادَّت، يا حبيب العُمر ...
كٓم تمنيَّت، ورجوَّت، ودعوَّت ...
أن أراك ٓ ثانية ...
وانت ٓ، أبعد ُ من السبعة بُحور ...
وأجابها ...
وكٓم ْ .. تمنيت أنا أن أراك ِ ...
بيني وبينك، سبعة  بُحُّور ...
أن يكون لي، نافذة ...
حتى أراك ِ ...

وأنت، تٓبْتٓسِمين ...
إيذانا ً ... 
للشمس ...  
بالشروق ...
وأنت ِ، تٓغْمُضين، جِفنّيك ِ ...
 أمرا ً ... 
للشمس، بالمغيب ... 
وكان لقاء الأحبَّة، كما أراده الجِسْر ...

فيصل المصري
إنتهَّت قِصَّة ألجِسْر ...
وحوريِّة النهر ...
وأشرقت الشمس، إيذانا ً بيوم جديد
وغدا ً يوم أخر ... 
وإلى قِصَّة أُخرى
الاول من نيسان ٢٠١٨ 
حقوق الملكية محفوظة لدى ولاية فلوريدا
الولايات المتحدة الأميركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق