Pages

الخميس، 4 يناير 2018

المُوحدُّون الدروز، والتقيَّة ... ( ٢ )


الموحدُّون الدروز، والتقيَّة.. ( ٢ ) 


 - تمهيد :

بعد مُدوِّنتي عن الحاكم بأمر الله، الخليفة المُفترَّى عليه وعلى أتباعه، كان لا بد من توضيح، وتفسير معنى التقيَّة، لدى الموحدُّون الدروز، خلال فترات الظلم التاريخي الذي تعرضوا له ..


 -  توطئة تاريخية، دينية ..

لقد شهدَّت البشرية منذ هبوط الاديان السماوية، حروبا ً تدميرية بسبب المعتقَّدات الدينية، وإختبر الانسان التهجير، والنفي، والسبي، والاغتصاب، والذبح، والقصاص الهمجي .. 

وبالرغم من تطوُّر الانسان، العلمي، والثقافي بقي مفهوم حرية الإيمان الديني عنده، مُنحطا ً ..
وإستمر في عدائه تجاه المعتقد الديني الاخر والمغاير ..
وبقي يضمر  في نفسه غايات دفينة عدائية، وهي الدين، أو المعتقد .. 
وبقيت المُعتّقدات تُؤجِّج، وتُغلي النفوس  نحو الشرُّور، والحروب ..  

لذلك ..

قامت وعايشَّت ْ، وإختبرَّت ْ البشرية أن كل دين سماوي يهاجم غيره، ويتعرَّض له ..

فاليهودية، تنكرَّت للمسيحية .. 
والمسيحية عارضَّت اليهودية .. 
واليهودية، والمسيحية، تُخالفان الاسلام .. 
والاسلام يدحَّض كثيرا ً من عقائد اليهودية، والمسيحية ..

أما العجَّب، والغرابة ..
أن في كل دين سماوِّي هناك ملِّل، ونحَّل، وفرَّق، وطوائف، ومذاهب ..

تعارِّض، وتكفِّر بعضها البعض ..
ولا ترى غضاضة ً في شّن الحروب للقضاء على من يخالفها ..

وقد أطلقت عليها في مُدوِّنات سابقة، بالمِحَّن، أي مِحَّن الاديان السماوية ..

  - مِحنة الديانة المسيحية في أوروبا بالقرون الماضية، ما بين المذاهب المسيحية، أدَّت الى شد َّ الركاب، والرحيل والهجرة، لبعضهم الى العالم الجديد، بالقارة الأميركية ملاذا ً آمنا ً لممارسة شعائرهم ..  
 
- مِحَّنة الديانة اليهودية، حدِّث ولا حرَّج بما يُسمَّى ( الديسابورا ) اي اليهودي التائه، والمنفي، والجوَّال الأزلي .. 

 - أما مِحنَّة الاسلام، فما عليك إلا  أن تنظر الى الوراء لأكثر من ألفيَّة ونيف، وتنظر بذات الوقت، ومن نفس المكان الى الامام لقرون مُقبلَّة، مُدلهمَّة، مُدبرَّة من الخلاف، والشقاق، في الدين الواحد والقادم، أعظم .. 

بِنَاء ً على هذا العيش غير الرغيد، وغير المُفعَّم بالحب، وقبول الاخر ..

كان لا بد من صيغة مُشتركَّة للعيش، بأمان وطمأنينة ما بين  مُنتسبي هذه المعتقدات من الشعوب، لتزيل الاحتقان، وَتُخفي ما في القلوب، والعقول من إيمان، حتى ينتشر التعايش والسلام بين البشرية، ولو الى حين، أو بعضا ً من الوقت ..

الصيغة الامُميَّة بين هذه الاديان ...

هي ألتقيَّة ..

وإذا قال لك، أي فَقِيه او مؤرِّخ أن التقيَّة إنسحبَّت، وطُبقَّت في دين سماوي واحد، او مذهب واحد فهذا غير صحيح، لان الأديان السماويَّة كلها طبقَّتها، وعملَّت وأخذت بها مسلكا ً ومنهجا ً وطريقا ً، تجنبا ً وخوفا ً من الاخر ..





ما هي التقيَّة ..
وما أدراك، ما هي التقيَّة ..
إليكم، ما هي التقيَّة ..

  أولا ً - ( المفهوم اللغوي ل كلمة التقيَّة ) :



 
التَّقِيَّة : الخشْية ُ، والخوفُ  ..

تاريخيا ً، المُتصوُّفون، والفلاسفة إعتمدوا  إخفاء الحَّق  ومصانعة النَّاس والتَّظاهر بغير ما يُعتقدون  خوفا ً من البطش، أو الظُّلم .. 

التقيَّة، مصدرها .. 
إٍتقَّى، إتقَّاء ً ..
كَأَن يَتَّقِي شَرَّهُ، يَتَجَنَّبُ شَرَّهُ ، يَحْذَرُه ُ ...
  
ثانيا ً - ( المفهوم الديني ل كلمة التقيَّة ) :

إتقَّى الله ..
صار تقيا ً وخاف منه ..
تجنَّب ما نهى عنه، وإمتثل لأوامره .. 
ويقال، اِنْتَهَى بِه ِ مَذْهَبُه ُ إلى التَّقِيَّة ِ ..
أي ..
إِخْفاء ُ الإنسان  مَذْهَبِه ِ  والتَّسَتُّر ُ عَلَيْه ِ خَوْفا ً، وخشية  ً  ..
وبمعنى أخر .. 

مُدارَاة المؤمن للكافر باللِّسان، خلاف ما ينطوي عليه قلبه خوفًا على نفسه .. 

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً ..

وفي هذا، تفسيح لأخذ التقيَّة مسلكا ً ولا غضاضَّة في ذلك .. 

بناء على كل ما تقدَّم ..

 - لن أسترسل في التقيَّة بالدين اليهودي، لأن التوّراة حافل باخبار التقيَّة مع الفراعنة، وبابل، والفرس، وبالحرب العالمية الثانية ايضا ً ..

 - كذلك لن أبحث في التقيَّة بالدين المسيحي خاصة مع بدايات البشارة، والصراع مع حاخامات اليهود، في أُورشليم القدس، ومع مُمثلي قيصر روما ..

 - أما التقيَّة في بدايات الاسلام، فيها ما يكفي لتبرير الهجرة للمدينة المُنورَّة، تاركين  جور وظُلم  قريش، في مكة  ..

 ثالثا ً - يُهّمُني في هذه المُدّونة الإشارة الى التقيَّة عند : ( الموحدُّون الدروز )  

في هذا المبحَّث سأتطرَّق الى وجهين للتقيَّة عند ( الموحدُّون الدروز )، ولا تكتمل الواحدة إلا مع الثانية ..

 - الوجه الاول : 
هي، التقيَّة بمضمونها المعتقدِّي، الديني، المسلكي، الواجب إعتماده والعمل به ..

 - الوجه الثاني : 
وهي، مُلازمة للوجه الاول كالعملة الذهبية، وتقضي بعدم التعرُّض للمعتقدات الاخرى .. 

وهذا ما سأُبيِّنُه وأُشدِّد عليه مُسبقا ً، وأقول ان الوجه الثاني لم تأخذ به المعتقدات الاخرى، بدليل ان السَّب للمذاهب والفرَّق، التي تغاير، ما زال حتى وقتنا الحاضر، معمولا ً به ومُطبقا ً .. 

 - في الوجه الاول، للتقيَّة .. 

بعد التعريف اللغوي للتقيَّة، سأبحث في المعنى الديني لهذا التوَّجُه المسلكي للموحِّدين الدروز ..
 - ١ / يقول الامير، السيِّد عبدالله التّنوخي في إحدى رسائله :

ونُداري الامة، ونبتغي من هذا الايمان المحافظة على الودَاد، والاخوَّة مع سائر الناس ..

وإستند الامير السيِّد عبدالله التّنوخي في ذلك الى ما قاله النبي محمد صَلَّى الله عليه وَسَلَّم :
رأس العقل بعد الايمان بالله، مداراة الناس ..

إستنادا ً الى هذا الوضوح في التأكيد، يُضيف الامير السيِّد عبدالله التّنوخي .. 
إن التقيَّة  عند الموحدِّين الدروز، لا تمسهَّم بل تزيدهم شرفا ً، لان هدفها شريف، ليس فقط للمحافظة على كيانهم، وأنفسهم من الملاحقة على أيدي المتعصبِّين، والمتزمتِّين، بل للحفاظ على الجيرة الحسنَّة، وعلى التسامح، وعلى إحترام عقائد الغير، وعدم المس بها ..

وإستند الأمير السيِّد عبدالله التّنوخي الى المبدأ القائل : 
لكم دينكم ولي ديني .. 
وكل واحد على دينه، الله يعينه .. 

 - ٢ /  أما السيِّد عبدالله النجار في كتابه ألقيِّم مذهب الدروز والتوحيد، يقول في التقيَّة :

كان الموحدُّون الدروز منذ نشأة مذهبهم في مطلع القرن الخامس للهجرة، الحادي عشر للميلاد، مُحترسين في كتمانه، مشيحين عن إعلانه، صيانة لأنفسهم من الاضطهاد، ووقاية من العدوان ..

والتقيَّة يتذرع بها المتَّقون، بالآية ١٠٦ القرآنية من سورة النحل :
إلا من أُكْرِه وقلبُه مطمئن بالإيمان ..

يُضيف السيِّد عبدالله النجار أن التقيَّة جاءت بعد أغلاق باب الدعوة سنة ٤٣٤ هجرية ..

كان الدعاة يوصون أتباعهم بالحذر والكتمان، حفاظا ً على سلامتهم بعد أن قُضي على المذهب في مصر، وقد حفلَّت الرسائل بتحذير المستجيبين منها، على سبيل المثال المنشور الذي أُرسِل الى آلِ عبد الله وآل سليمان سنة ٤٣١ هجرية جاء فيه :
وإستديروا بالسِّتر لما أوعزناه إليكم، وليتدبر بالسِّتر لما أوعزناه إليكم ..

وكان يُنصح الأتباع الموحدُّون بالارتحال الى حيث يكون لهم ولي ٌّ يلطف بهم، وينصفهم، ولا يحيف عليهم ..

وقد كانت النصيحة للأتباع واضحة جدا ً كالقول لهم :
إن كان الموضع الذي أنت فيه يصلُح للسترَّة، فالمقام، وإن أردت الانفساح وراحة القلب، فعليك ببلاد الشام ..

ومن الواضح أن النصيحة، كانت تفرض على الأتّباع، أخذ الحيطة وحتى الإنكار عند الإضرار، والله العالم بما تُظهرون، وما تكتمون ..

وقد ذكر التاريخ أن الظلم الذي لحق بالموحدُّون الدروز كان رهيبا ً ومخيفا ً، ومن فرط ما قاسوا به من ألوان الإضطهاد، والتعذيب، والتقتيل، والتنكيل، رحل أكثرهم  عن مصر، الى بلاد الشام وأفضى ذلك بالكثيرين منهم الى إنكار مذهبه، والتظاهر بالجحود ..

وخلصَّت إحدى الرسائل ( ٧٨ ) في شرح الخطر، المُحدِّق بالقول :

في ذلك اليوم يصبح الموحدُّون هدفا ً للاضطهاد، ويكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويفِّر المؤمن بدينه من شاهق الى شاهق ..

 - ٣ /  أما المرحوم كمال جنبلاط أعطى في مقدمة كتاب الدكتور سامي مكارم "مسلك الحكمة والتوحيد" – وهو الاسم الحقيقي للدرزية – 
توضيحا ً، حيث فرَّق ما بين التقيَّة، والسرية ..
 
إذ يقول ..
الإحتراز، ما أمكن فيما يجب أن يبقى سرا ً مكتنزا ً لا تتداوله أيدي عامة الناس ممَّن لا تتفتح أفهامُهم وأذواقُهم لمعناه، ولا تتوفر فيهم شروطُ الأهلية الروحية، والاستحقاق الخُلُقي، ولا يرغبون، في جدِّية وإخلاص، بالانخراط في مسلك هذا العرفان ..

ويستند المرحوم كمال جنبلاط الى الآية القرآنية :

"لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ" [ سورة البقرة  286] ..


وهذه السريَّة كانت نهج حكماء الهند، ومصر القديمة، والصين، وإيران، واليونان وسواهم من الأقوام، ولا تزال ميزة مَن لا يزالون تعمُر حياتُهم وأرواحُهم بمسلك الحكمة القديم المتصل المتجدد أبد الدهر ..
ويخلص المرحوم كمال جنبلاط الى القول :

 - إن السبب الجوهري لمثل هذه السريَّة، ليس هو "التقية" بمعنى الخشية، لانه من القواعد الألفية المكرَّسة في مسالك الحكمة، والعرفان أن يحافظ المؤتمَنون على السرية لسبب جوهري توضحه الكتُّب المُقَدَّسة ..


 - الوجه الثاني للتقيَّة : 

وهذا المنهج، او الطريقة التي سلكها ( الموحدُّون الدروز )، في إحترام عقائد الغير، هي الوجه الثاني الذهبي للتقيَّة ..

إن التاريخ القديم او المعاصر لم يُدوِّن أن ( الموحدُّون الدروز )  تعرضُّوا لأحد على خلفية دينية، او مسَّوا بمشاعر أحَّد من أجل عقيدته، او أهانوا شيخا ً او كاهنا ً او حاخاما ً.. 
بل شهد العالم لبني معروف،  إحترامهم للاديان واصحابها، ومنتسبيها .. 

وبما ان الشئ بالشئ يُذكر، فإن هذه الطريقة في التعامل مع سائر الْمُعتقدات، والأديان فإنها تعود الى أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله حيث جاء ..

إن الحاكم بأمر الله قد منع سَّب أعداء مذهبه ..
ولم يعامل أعداءه بالمثل ..
 ويؤيد المؤرخ، تقي الدين احمد بن علي المقريزي ذلك بكتابه :
إتعاظ الحنفاء  باخبار الأئمة الفاطميين جزء ٣.  

حيث نشر نص وثيقة منع  سَّب الصحابة، بأمر من الحاكم بأمر الله ..
جاء فيه :

لا يُسَّب السلف، ولا تكونوا سبابين، ولا عيابين ..
ويُضيف المقريزي :
لدينا سجل أصدره الحاكم بأمر الله،  ليُقرأ في كل مكان على جميع الناس في رمضان بالعام ٣٩٨ هجرية يظهر فيه منع الحاكم بأمر الله  سَّب السلف وهذا نصَّه :

من عبد الله ووليه أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، إلى كل حاضر ٍ وباد ٍ ..
أما بعد :
فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين ..
 لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ  ..

وقد يعتَّز ( الموحدُّون الدروز ) بهذه الخصلة الحميدة، لان أمر الحاكم بأمر الله جاء واضحا ً وصريحا ً ، وما زال معمولا ً به لغاية تاريخه ..
ألا تلعنوا أحداً  في الدين ..
لان اللعنة، لا تزيد في الدين ..
وخاطبوا الناس بالتي هي أحسن ..
فإن الله يحب المحسنين ..
فتميل قلوب العالم،  اليكم ..

يتبين من أعلاه ..

وبالرغم من كون عقيدَّة ( الموحدُّون الدروز )، فيها تفسير، ورؤية، وفكر جديد مُغاير او مُختلف، فإنهم طبقُّوا ما أُمروا به، اي عدم التعرُّض للمعتقدات الاخرى، بالرغم من ( الافتراءات ). 
ولكن كانت هناك حاجة مُلحَّة لهذا المذهب التوحيدي الجديد، لتجنُّب الخلافات، والاعتداءات، والنعرَّات الدينية، والطائفية، من المعتقدات الاخرى،  فجاءت التقيَّة، بالمفهوم اللغوي، والديني الواضح في أعلاه ..

 ولا يسعني في ختام هذه الْمُدوّنة إلا الى أن أُشير ...

إن التقيَّة، قد تكون السلاح الذي يمتشقه ( المُجددُّون، ضد المتعصبِّين، والمتزمتِّين ) ..

إن التقيَّة، قد تبقى سلاح المُتعلمِّين، والمثقفين، ضد الجهلَّة ..
إن التقيَّة، هي بر الأمان للاستتَّار بالمألوف ..
وإن التقيَّة، ستبقى طالما لا نعترف بالرأي الاخر ..
والى ان يأتي العصر الذي يقتل الجهل، فيه الجهل ..
كما حصل بالماضي، عندما كانت الثورة تأكل، الثورة  ..
وكما قال احد المفكرين أيضا ً :
وأينما وُجدَّت  التقيَّة ..  
هناك ظالم، ومظلوم .. 
وسيد ٌ وعبد ٌ ..
وتعصُّب، ورفض لكل رأي جديد ..
وأكثرية، تقوَّى على الاقليَّة .. 
وتمنعها حقَّها، في المعتقد، والفكر، والحرية ..

وأُنهى هذه الْمُدوّنة بإعادة ما ذكره السيِّد عبد الله النجار في كتابه عن، التقيَّة :

وبقيت التقيَّة، إصطلاحا ً، لا إستيحاء ً، وخفرا ً، لا  وقاء ً ..
وآن لها، أن تُشرِّع باب خدرها للنور ..
وأن تستبدل بالنقَاب، السفور ..


فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا 
٥ كانون الثاني ٢٠١٨

المراجع، ذكرت في حينه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق