عرب اليوم وعرب الأمس ....
هل من ... فوارق ؟ نعم !
دراسَّة تاريخيَّة.
المقدمَّة التي لا بُدَّ منها :
بادئ ذي بدء، هذه المُدوَّنة دراسَّة تاريخيَّة لا تتطرَّق إلى العقيدة أو العقائد الدينيَّة التى سادت أرض العرب قبل وبعد الإسلام، بقدر ما تُسلِّط الضوء على بعض الخِصال التي سادّت في فترة من تاريخ العرب عُرِفَت بالجاهليَّة.
الجاهليَّة ... مُصطلح ظهر بعد الإسلام، يُشار فيه إلى الفترة التي سبقت الإسلام وتعني :
( الجهل من الناحية الدينيَّة، والجهل والجهالة بوجود الله )
بالرغم من أنَّ التعميم في التسميَّة لا يجوز ويتنافى مع وجود الديانتين السماويتّين اليهوديَّة والمسيحيَّة وجماعة الصابئة والأحناف الذين وحَّدوا الله في أرض العرب عشيَّة ظهور الإسلام، إلَّا إذا كان المقصود فئة من العرب كانت على الوثنيِّة وفي هذه أيضاً جدليَّة.
( تُراجع مُدوَّنتي عن الوثنيَّة والأحناف ).
أمَّا مِن الناحية الحضاريَّة والفكريَّة للعرب قبل الإسلام، فإنَّ الواقع العربي في تلك الحقبة أظهر تضارباً فاضحاً مع تسميَّة الجاهليَّة، سواء بمعناها الحصري ( جهل بالدين أو بوجود الله ) أو بمعناها الشامل للعقل والفكر.
تلك الفترة من حياة العرب، شِهدت تنوعاً فكرياً وحضارياً أثبتته الآثار نذكر منها :
سد مأرب في اليمن كدليل على التقدُّم العمراني، كذلك تشييد وإقامة الهياكل الحجريَّة للعبادّة، وبداخلها أشكال هندسيَّة كتلك المرسومة على جدار معبّد الحقَّة في اليمن. وقد عثر الباحثون على رسومات حجريَّة منذ زمن ما قبل التاريخ في عدة مواضع من شبه الجزيرة العربيَّة، منها رسومات في قرية الفاو عاصمة كندّه، وفي البتراء و بُصرى وفي قصر شقر الملكي في شبوة، وازدهر فن الفسيفساء في مملكة الأنباط واستمر ازدهاره حتى العصور المسيحيَّة. وهناك عدد كبير من اللوحات الفسيفسائية صنعها سكَّان تلك المنطقة لا سيَّما في أمّ الرصاص وجرش والنتل ومأدبا. وهناك لوحات فسيفسائية ترجع لزمن الغساسنة، منها فسيفساء كنيسة سرجيوس في النتل، ويذكر المُنقِّبون وجود لوحات من الفسيفساء في كنائس المناذرّة في الحيرة.
كذلك حفرّوا ومدُّوا الاقنية لِلرَّي لتحسين الزراعة.
قُبيل الإسلام انهارّت ثلاث دول عربيَّة قديمة هي :
مملكة حمير ( ٥٢٥ ) ميلادي.
ومملكة الغساسنة ( ٥٨٣ ) ميلادي.
ومملكة المناذرة ( ٦٠٩ ) ميلادي. وكانت كل واحدة تؤلِّف دولة، تحكم أراضيها وتمدُّ سيطرتها على مناطق أُخرى بواسطة قبائل تحكمها تلك الممالك.
وقد ذكر اليهود العرب ما نُقل عن التلمود، أنَّ أحبارهم أخذوا الوصفات الطبيَّة من العرب الوثنيين، وفي ذلك دلالة تاريخية موثَّقة أنَّ العرب الوثنيين كان لهم في الطب باعُ طويل في تلك الحقبات الساحقة. أمَّا ما وصل إلينا من الكنوز الأدبيَّة والقصائد، والمعلَّقات السبع أو العشر هو إثبات على التقدُّم الفكري لا يمكن دحضه، ( حدِّث ولا حرَج عليك إنْ أبديت زهواً وفخراً وأدمعت عيناً لفقدانهم )
في المُدوَّنة : تمهيد :
كان العرب في جزء منهم يتوزَّعون بين الديانتين السماويَّتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، والباقي على الوثنيَّة وفي هذا يصٍّح وصمه بالجاهليَّة بالمعنى الحصري والضيِّق للكلمة، وكان نظام حياتهم الاجتماعية يحكمه الطابع القبلي، حيث الحروب والغزوات تستعِّر بين القبائل لمختلف الأسباب سواء كانت :
إقتصادية، مثل داحس والغبراء.
أو للحماية من اللصوص وأعداء الجوار غير العرب.
أو للشرف، أو لدفع الظلم.
أو للثأر.
وبالرغم من ذلك، فقد كان في المجتمع الجاهلي صفات النُبْل : كالكرّم والسخاء. الوفاء بالعهد والصدق. والإجارّة والنجدة والمروءة. وغضّ البصر. والغزل العفيف. والصبر على المكاره وقوة الاحتمال والقبول باليسير.
الكرم والسخاء عند العرب الاوائل.
كان الكرم من أهم الصِّفات التي حرص العربى على التحلِّي والتفاخر بها، وكان يمقت البُخلْ ويُعيب صاحبه،
وكان لبيئة العربي وظروفه الجغرافية الأثر البالغ في تدعيم هذه الصفة، لأنَّه كان يعيش في منطقة صحراويَّة، وفي أحيان كثيرة يجد نفسه أثناء سفره وترحاله، ليس أمامه سوى النزول ضيفاً علي أهل الخيام الموجودة في الجوار، وهنا يكون استقبال الضيف واكرامه مسألة حياة أو موت، وكان التقاعس عن القيام بواجب الضيافة، يعنى تعريض حياة الضيف لخطر الموت جوعاً أو عطشاً، ولذلك فقد أصبح إكرام الضيف والقيام بحقه واجباً من واجبات ( الجاهليَّة ) وكانت مدة الضيافة ثلاثة أيام، وبعدها ينتهى حق الضيف، إلا إذا جدّد المضيف هذا الحق.
وكان من أشهر أجواد العرب وأكرمهم، حاتم الطائى الذى كان يُضرب به المثل فى الكرم والجود، وله أخبار عديدة أهمُّها كَرمه للشعراء مثل النابغة الذبيانى وغيره، ( تراجع مُدّونتي عن حاتِّم الطائي .. أكرم العرب )
وكان من كرم العرب أيضاً أنَّهم كانوا يتحمَّلون الديَّات يدفعونها من أموالهم عن طيب خاطر حقناً للدماء وحفاظاً على السلم وتخفيفاً عن المُعسرين من أفراد القبيلة، وكانوا يتنافسون فى ذلك ويعتبرونه من دلائل الشرف وعلامات السيادّة.
الوفاء بالعهد والصدق عند عرب الأمس
كان العربي يسترخِص كل غالٍ ونفيس للحفاظ على عهده،
واحترام وعده. ولم تكن الاتفاقيَّات والأحلاف موثَّقة أو مكتوبة، وإنَّما كانوا يعتمدون علي الكلمة أو العهد الذي اكتسب قوة ونفاذاً ووفاءً، وقد جرت الأعراف أنَّ نقض العهد أو الاتفاق، يعرِّض القبيلة وأفرادها للمهانة والنقصان.
وقد تعددّت القُصَّص وصور الوفاء عند العربي منها :
السموأل الذي ضُرِب به المثل فى الوفاء بالعهد فيقال أوفى من السموأل، وذلك عندما أودّع امرؤ القيس عنده دروعاً وسلاحاً، وذهب إلى قيصر الروم يستنجد به على أعدائه، وأستغل هذه الفرصة الحارث بن شمر الغسانى، فطلبها من السموأل وأصرَّ على انتزاعها منه، ولكنَّه أبى وتحصَّن بقصره فى تيماء وكان إبنه خارج القصر، فأخذه الحارث الغسانى رهينةً عنده، وأخذ يساومه وهددَّه بقتل إبنه إنْ لم يستجِب لمطلبه. إلَّا أنَّ السمؤال ظلَّ محافظاً على عهده حتى وهو يرى إبنه يُذبح أمامه.
ومِن أعجب ما يُروى أيضاً مِن قِصَّص وفاء العرب بوعدهم، ما حدث مع المنذر بن امرؤ القيس بن ماء السماء عندما حكم على رجل من طئ يقال له حنظلة بقتله.
وفى الموعد المحدَّد التقى مع المنذر فقال له :
لا بدَّ من قتلك فسّلْ حاجتك.
فقال : أخرِّني حتى أرجع إلى أهلي وأفعل ما أريد.
ثم أصير إليك فتفعل بي ما تشاء.
فقال المنذر : ومن يكفلك أنَّك تعود.
فنظر الرجل في الحضور فعرف شريك بن عمر بن شرحبيل الشيبانى وكان من سادات العرب وأشرافهم فقال
ياشريك، يا ابن عمرو ...
ويا أخاً من لا أخاً له ...
فوقف شريك وقال للمنذر :
أبيت اللعن يدى بيده ودمي بدمه.
فأطلقه المنذر بعد أن أمهله عاماً كاملاً يعود بعده لينفّذ الحكم. فلما حال الحول، وحان الأجل، جلس المنذر ينتظر حنظلة. فلما ابطأ حنظلة قليلاً تقدَّم شريك ليُقتلُ مكانه.
وبينما هو كذلك لم يشعر إلَّا بركب قد ظهر من بعيد فإذا هو حنظلة قد تكفّن وتحنَّط وتهيأ لمقتله.
فلما رأه المنذر عجب من وفائه، وقال له، ما حملك على قتل نفسك ؟ فقال إنَّ لي ديناً وخُلقاً يمنعانى من الغدر.
فإستحسن ذلك منه وأطلقهما معاً.
الشجاعة والأنفة وعزَّة النفس والإجارّة والنجدة والمروءة.
كانوا لا يقبلون ذلاً ولا هواناً ولا يقيمون على الضيم ...
وقد أشاد هيرودوتس بحُّب العرب للحرية وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم، أو إذلالهم أو أستزلامهم. فكانوا إذا تعرَّضوا هم أو حلفاؤهم لأي إهانة استلُّوا سيوفهم وركبوا خيولهم وصاحوا وأشعلوها حرباً ضروساً ولو ضحُّوا فى ذلك بأنفسهم، وكان يُؤجِّج مِن ذلك ما عرف عنهم من سرعة الانفعال وفورة الأعصاب. ولا شك أنَّ هذه النزعة عند البدو أشدُّ وأقوى منها عند الحضّر، وقد فسّر إبن خلدون السبب فى مقدمته تحت عنوان :
( أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر ).
الحلم والصبر على المكاره وقوَّة الاحتمال.
على الرغم مما عُرف عن العرب من شدَّة الانفعال وفورّة الأعصاب، فقد غلب على ساداتهم وأشرافهم وعقلائهم صفة الحلم. كانوا يمتثلون لصوت العقل والحكمة.
فقد سعوا إلى إطفاء نيران الحرب وأنهوا الخلافات بين القبائل وتحمَّلوا الديَّات. وكان من أشهر حكماء العرب الأحنف بن قيس صاحب المقولة الشهيرة :
سيد القوم ... خادمهم.
أى الساعى فى خدمة أبناء قبيلته.
ولمَّا سُئل بماذا سُدْت قومك قال بثلاث خصال ..
بذل الندى، وكف الأذى، ونصرة المولى،
التفاخر والزهو
اشتهر العرب بالزهو والتفاخر ... فكانوا يتفاخرون بالآباء والأجداد والأنساب والأحساب والشرف والسيادة وكثرة الأبناء والأعداد والانتصارات، وبأموالهم وما ملكوه من دواب وخيول وغيرها. وكانوا يعقدون مجالس للمفاخرة بينهم، فيبدأ كل طرف بالمفاخرة بقبيلته فيردُّ عليه خصمه. وكان يجلس الحكَّام للحكم بينهما، وتفضيل أحدهما.
وكان للعرب أيضاً آدابهم :
منها احترام النساء، واحترام حرمة البيوت، وغّض البصر.
وأغضُ طرفي إن بدت لي جارتي، حتى يواري جارتي مأواها. ( هذا ما قاله احد شعراء تلك الحقبة ).
احترام كبير السن، فلا ينادونه باسمه وإنَّما بكنيته ويبادرونه بالتحية، في مجالسهم يقوم القاعد للقادم ويوجه له التحيّّّة.
كانوا يقومون من الأكل ويقولون :
البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع.
الصدق، والصبر والتحمُّل.
الطب عند العرب.
التداوي ببعض الأعشاب البريَّة. والفصد، والحِجامة، والكّي. التكحيل لعلاج أمراض العين. الصبر وهو دواء مر المذاق لعلاج الرمد. الطب الروحي بالرقيَّة وقد برع اليهود العرب فى أعمال الرقي.
وأهم الأطباء العرب في ذلك الوقت الحارث بن كلدة.
علوم الفلك عند العرب الأوائل.
بالرغم من عدم وجود مخطوطات علميَّّة ترجع للحقبة الجاهليَّة، إلَّا أنَّ هنالك ما يدّل على أنَّه كانت لديهم علوم متوارثة في مجالات مختلفة، في مجال الفلك الذي كانوا يدعونه علم الأنوار.
وقد ثَبُت أنهم عرفوا مواقع النجوم، واستدلّوا بها للإهتداء إلى مسالكهم في البر والبحر، وكانت لهم معرفة في أوقات ظهور الكواكب، حيث كانوا يعبدون بعض الكواكب لاسيما، الزهرة التي تظهر في أوقات محدَّدة والتي مثَّلوها بآلهة العزَّى. ( صنم ).
في مجال الرياضيات والعلوم
تذكر كُتُّب التاريخ عن فيثاغورس أنَّه زار بلاد العرب ليتعلَّم من حكمة أهلها، وهذا إثبات قاطع أنَّ العرب في تلك الحقبة من الزمن كانوا على دراية بالعلوم والرياضيات.
وأخيرا ....
هذا لا يعني أنَّ العرب قبل الإسلام كانوا يعيشون في نعيم ورخاء إجتماعي، بل كانت لديهم خِصال سيئة ومُقيتّة كما دوَّنها المُستشرِق جوستاف لوبون، حيث يقول :
قد يكون أظهر وأغرب ما فى الأعراب هو أنَّهم جِماعُ الأضدَّاد، فالنهب والكرم، والسلب والجود، والقسوة والنبل وغير ذلك من الصفات التى تدعو إلى الإعجاب ونقيضه.
أمَّا الفروقات ما بين عرب الأمس وعرب اليوم أتركها للقارئ الكريم.
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
أيار ٢٠٢٤
المرجع :
المُدوَّنات الفيصليَّة كتاب :
أعلام وحوادث وشخصيات تاريخيَّة.
طبعة حزيران ٢٠١٨م
بيروت / لبنان 🇱🇧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق