الصابئة أو المندائيون.
دراسَة تاريخيَّة عن الحضارة
الانسانيَّة والدينيَّة التي عرفها العرب قبل الديانات السماويَّة.
المقدمَّة التي لا بُدَّ منها :
لا يسعني إلاَّ أن أشكر القراء الأعزاء الذين أثنوا على دراساتي التاريخيَّة عن الحضارات والاساطير القديمة التي سبقت الاديان السماويَّة وخاصة الحضارة العربيَّة والقبائل العربيَّة التي لم تعرف الإرهاب في تاريخها، وإن كان بعضها قد تعددَّت الآلهة في طقوسهم الدينيَّة ولكن بقيَّت وهذا الأهم خِصال ( الشهامة والكرامة والأخلاق والشجاعة والكرم والشرف والقيادة الحكيمة ) تسري في دمائهم، حتى أنَّه كانت عندهم أشْهُرْ حُرُمْ يمتنعون فيها عن القتال والغزو وأهمَّه سوق عُكاظ الذي يقع في الأشهر الحُرُم، حيث كانوا يجتمعون وتلتقي القبائل ويتبارون في الشعر بدل السيف والقتل والتدمير.
هؤلاء هم عرب الأمس قبل الديانات السماويَّة، دائماً وأبداً
أحبُّوا الحياة وداسوا ب حوافر خيلهم كُل معتدٍ مِن الجوار وما الشعر وقصص البطولة الذي تركوه إلا خير دليل.
في المُدوَّنة :
سبق وبحثت في مُدوَّنة عن الحنفيَّة والوثنيَّة وهما من الديانات والمذاهب التي اعتنقها العرب.
أمَّا ( الصابئة أو المندائيون ) هم مِن القبائل العربيَّة الذين وحدّوا الله قبل ظُهور الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة.
الصابئة عقيدتهم، وأماكن تواجدهم.
الصابئة هم فئة مِن العرب لا يُستهان بها زهَّت وانتشرت قبل الإسلام، قال عنهم شيخ الاسلام إبن تيميَّة بالرغم مِن تزمُّته وتعصُّبه : الصابئة نوعان، صابئة حُنفاء، وصابئة مُشركون. الصابئة الحُنفاء هم فئة وحَّدت الله قبل ظهور الإسلام، وقد اعتبرهم إبن تيميَّة بمنزلة من كان مُتَّبِعاً لشريعة التوراة والإنجيل، وهؤلاء حمدهم الله تعالى وأثنى عليهم. أمَّا الصابئة المشركون هُم قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون ويعبّدون الروحانيَّات العلويَّة.
تعريف يقول البعض إنَّ كلمة صابئة جاءت من الآرامية، أي تعمَّد اصطَّبغ أو غطَّ أو غطس، وهذه أهمُّ شعيرة مِن شعائرهم الدينيَّة، وهو طقس التعْميد أو العمادة.
أمَّا كلمة المندائي ( الصابئي )، وهي أيضاً آرامية بمعنى العلم والمعرفة، والمندائي هو العارف أو العالم بوجود الخالق الأوحد.
إذن الصابئ، هو المندائي، هو من وحَّد الله. كذلك الرجل الحنيف هو من وحَّد الله، كذلك العرفانيون هُم من وحَّدوا الله. وفي هذا دلالات تاريخيَّة واضحة أنَّ الجزيرة العربيَّة اكتظَّت بقبائل كانت تؤمن بوحدانية الله، وفي ذلك إشارة غير مُبهمة وواضحة وضوح الشمس للسبب الذي أدَّى إلى معارضة القبائل العربيَّة الدين الإسلامي الذي نادى به الرسول العربي محمد (صلعم)، مِن أنَّه لم يأتِ بجديد خلاف مُعتقداتهم الدينيَّة في أمور وحدانية الله، وغيرها من طقوس العبادة. الأمر الذي أدَّى إلى تسارع وتفاقم القتال، واشتداد الخصام، حيث عنُفت المعارك وأُريقت الدماء، وصولاً إلى مقولة ( أسْلِمْ … تسْلَمْ ) التي سادت وانتصرت.
أمَّا فيما يتعلق بهذه الفئة من العرب، إنَّ تاريخ الصابئة يلفَّهُ الغموض بسبب انغلاقهم الديني والاضطهاد الذي تعرَّضوا له أسوةً بالأديان الأُخرى التي كانت مُنتشرة فِي الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام، الأمر الذي أدَّى إلى ضياع الكثير مِن كُتبِهم.
في كتابه الملل والنِّحل للشهرستاني يذكر المُؤلِّف أنَّ الصابئة يُوحِّدون الله ويؤمنون بتلقِّي المعرفة العليا بواسطة الروحانيَّات.
أمَّا ياقوت الحموي يقول عنهم، إنَّهم ملَّة يصل عُمقها إلى النبّي شيت إبن آدم.
مِن جهته يُرجع إبن الوردي المؤرِّخ العربي الشهير تاريخ الصابئة إلى النبّي شيت، ابن النبّي أدم والنبّي إدريس ( هرمس ).
وقد أجمع المؤرِّخون العرب القدماء إلى أنَّ كتاب الصابئة المُقدِّس ( كنزا ربا، الكنز العظيم ) يقع في ٦٠٠ صفحة ويجمع كل معتقداتهم، وقد تبيَّن أنَّ الصابئة ( المندائيون )، تواجدوا في بلاد الرافدين قبل الميلاد بأكثر مِن ٢٠٠٠ سنة
ولديهم مخطوطات دينيَّة وطقوس مكتوبة باللغة المندائية الآرامية وهي غنية بالعمق اللاهوتي الديني والعقائدي والروحاني بحيث انبثّقت منها اليهودية والمسيحية، واستلهم الإسلام من وحيها.
الصابئة في القرآن الكريم :
ورد ذكر الصابئة في القرآن الكريم بصور مُستقلَّة :
سورة البقرة، الآية ٦٢
سورة المائدة، الآية ٦٩
سورة الحج، الآية ١٧
بإلاضافة إلى معتقداتهم وعلومهم التوحيديَّة، كان الصابئة مِن عِليَّة القوم في باقي العلوم، وقد اشتهر الصابئة المندائيون منذ القدم بعلوم الطب والهندسية والشعر والأدب والترجمة، أشهرهم أبو إسحاق الصابئي وزير الطائع والمطيع، وثابت بن قرَّه، وإبراهيم هلال الأديب الذائع الصيت الذي تولَّى ديوان المظالم سنة ٩٦٠م.
وعُرف منهم أيضاً ثابت بن قرّه، وسنان بن ثابت وإبراهيم بن سنان وأبو الحسن الحرائي وقد عاشوا ضمن المجتمع الإسلامي في بغداد بعد هجرتهم من حرّان بعد اضطهاد الكنيسة الرومانية لهم، منهم من برع في الترجمة ( ابو إسحاق الصابئي ) صاحب ديوان الإنشاء الذي كان
له مكانة لدى الخلفاء العباسيين وعلاقة متينة مع الشريف الرضي.
أماكن تواجدهم حتى وقت قريب فقد توزَّعت بين العراق ( دجلة والفرات ) وفي الأهوار وشط العرب، وفي إيران يسكنون على ضفاف نهر الكارون.
نتيجة لما تقدَّم ذكره، يُمكننا القول أنَّ ديانة الصابئة أو المندائية، هي أحدى الديانات الإبراهيمية، وهي أصل جميع الأديان لأنَّها وحدّت الله. وإنَّ اتباع هذه الديانة يتَّبعون أنبياء الله : أدم، شيت، إدريس، نوح، وسام وإبن نوح.
مِن مُعتقدات الصابئة
إنَّهم يؤمنون بوجود الله، ويعتقدون أنَّ الملائكة تسكن في الكواكب، ولذلك يُعَظِّمونها ويقدِّسونها. والمندّي هو معبد الصابئة وفيه كُتبهم المُقدَّسة ويجري تعميد رجال الدين على الضفاف اليُمنى من الأنهر الجارية ضمن طقوس مشدّدة.
أمَّا الصَّلاة عند الصابئة تُؤدَّى ثلاث مرَّات في اليوم، قبيل الشروق وعند الزوال وقبيل الغروب باتجاه القطب الشمالي وتُستحَبْ أن تكون الصلاة جماعة في أيام الآحاد والأعياد مِن دون سجود.
يهتم الصابئي المندائي بالطّهارة وهي مفروضة على الجنسين وينبغي أن تكون في المياه الجارية. والتعميد عند الصابئة هو مِن أبرز طقوسهم حيث يدخل الوليد في الماء الجاري إلى ركبتيه مع الاتجاه إلى القطب الشمالي. وكذلك عمادة الزواج في يوم الأحد. أمَّا عمادة الجماعة وهي العيد الكبير عيد ملك الأنوار.
أمَّا المستشرقة ( دراور ) فقد تعلَّمت لغتهم وسبرت غور كتبهم الدينيَّة، وقالت عنهم أنَّهم لا يعبدون الأجرام السماويَّة ولكنهم يعتقدون أنَّ النجوم والكواكب تحتوي على مخلوقات حيّة تتحكَّم بمصائر البشر، وأضافت أنَّهم موحَّدون يعبدون الله الواحد الأحد، وأنَّ دينهم أقدم الأديان.
ارتبط إسم الصابئة أو المندائيون بالنبي إبراهيم الخليل، الذي عاش في مدينة آور السومرية، مدينة ألهة القمر إنانا في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وكان النبي إبراهيم أوَّل من نبذ الأصنام ودعا لرب واحد عظيم القدرة أطلق عليه السومريون إسم ( لوكال، ديمير، آن، كي، آه)، ملك آلهة ما هو فوق وما هو تحت رب السموات والأرض.
آمن الصابئة المندائيون بتعاليم النبي إبراهيم واحتفظوا بصحفه، ومارسوا طقوس التعميد التي سنّها لهم واستمروا عليها إلى يومنا هذا. وقد هاجر قسم منهم إلى حرّان مع النبي إبراهيم والقسم الاخر بقي في العراق.
من أهم طقوسهم، الصباغة بمياه الرافدين، واعتبروا دجلة والفرات انهاراً مقدَّسة تُطهِّر الأرواح والأجساد فاصطّبغوا في مياهها كي تنال نفوسهم النقاء والبهاء الذي يغمر عالم النور وإليه يعودون.
أمَّا مفهوم الاغتسال والصباغة في العديد مِن النصوص المسمارية، هو دليل على تأثُر الأديان العراقية في زمن الحضارات الاكدية والبابلية والسومرية والآشورية بالديانة المندائية، وهذا دليل على أنَّ الديانة المندائية ( الصابئة ) أقدم الأديان التوحيديَّة.
بناءً عليه، يبدو واضحاً أنَّ التوّحيد في الدين الصابئي الحنيف يعني أنَّ الله مُسبَّح إسمه لا شريك له. مُعظم الصابئة يسكنون قرب النهر، والصلاة عندهم فرض واجب، كذلك الصدقة والصوم له طقوس وهي الامتناع عن الفواحش والمحّرمات. والكُفر عندهم هو عدم آداء الفروض الدينيَّة والارتدّاد عن الدين.
يحرَّم عليهم الختّان لأنَّه لا يجوز تغيير خلقة الله سبحانه، والعلة الشرعية واضحة كما يعتقده الصابئة من أنَّ الله الحي الْقَيُّوم مُسبَّح إسمه خلق الإنسان كاملا.
ويؤمنون بالتوبة ويعتبرون الخمرة توضِع شاربها في قيود وأقفال وتثقل عليه السلاسل والاغلال.
احترام الأب والأم والأخوة والأخوات واجب. والملفت أنَّه مطلوب منهم عدم الاقتراب من الملوك والسلاطين ( ولا تثِقوا بهم وأحبوا أصحابكم ).
فضلاً عن أمور نهاهم عنها الدين كالسحر والكذِّب والغّش والدجّل والربا.
أمَّا البكارة فهي طقس ديني مهم، إذ تقوم والدة الكنزبرا أو زوجته بفحص الفتاة العذراء بعد تعميدها وقبل تسليمها لعريسها بغية التأكُّد من سلامة بكارتها ( يراجع التعريف )
أمَّا الزانية فإنَّها لا تُقتل بل تُهجر، وبإمكانها أن تُكفِّر عن خطيئتها بالارتماء والانغماس بالماء الجاري.
ولا يتم الطلاق إلَّا بعد انحراف أخلاقي خطير، اذ يتّم التفريق عن طريق الكنزبرا.
السنة المندائية ٣٦٠ يوماً في ١٢ شهراً وكل شهر ٣٠ يوماً.
يؤمنون بالتناسخ ويعتقدون بتطبيقاته في بعض جوانب عقيدتهم.
وللرجل أن يتزوج ما يشاء مِن النساء وفق طقوسهم القديمة ولكن الزواج بأكثر من زوجة شيئاً نادراً وغير مألوف في المجتمع المعاصر حيث أصبحت المجتمعات تنظم هذه المسألة وتُحدد أنَّ الرجل يمكنه الزواج بزوجة واحدة فقط.
بناء على ما تقدَّم :
إنَّ العرب يرجعون كلمة الصابئة إلى ( صبأ )، أي خرج من دين الضلاّلة واتحد بدين الحق، وقد أُستعمل هذا التعبير عندما كان الناس يتركون الديانة الوثنيَّة أي ( يصبأوون ) ويدخلون في الدين المندائي الموحِّد لله. أو الذين دعوا بالاحناف كما أتيت على ذلك في مُدوَّنتي عن الأحناف والوثنية.
ومن الجدير بالذكر، أنَّ النبّي محمد ( صلعم ) واتباعه دُعيوا بالصباة ودعاهم مشركي مكه بالصابئة، وهذا يدلُّ أنَّه حتى قبل ظهور الإسلام، كانت اللغة الآرامية والصابئة والمندائيون والاحناف متواجدون في شبه الجزيرة العربية.
في الوقت الحاضر، يتواجد مركز لهذه الطائفة في بغداد، وفي أغلب المحافظات العراقية، وبسبب الظلم عليهم في السنوات الأخيرة، أضطر الصابئة المندائيون إلى الهجرة لكندا والولايات المتحدة الأميركية.
للصابئة الآن جمعيَّات تُعنى بشؤونهم ويحاولون مِن خلالها جاهدين المحافظة على تراثهم العريق وهويتهم الأصليَّة. ويبلغ تعدادهم حوالي ٧٠٠٠٠ سبعين ألف نسمه في العالم.
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
أب ٢٠٢٣م
المرجع : المُدوَّنات الفيصليَّة
كتاب المُوحِّدون الدروز عبر التاريخ
الطبعة الأولى حزيران ٢٠١٨م
مصطلحات للتعريف
الكنزبرا هو مُصطلح يُستخدم بين الصابئة المندائيين للإشارة إلى الكاهن أو القسيس الذي يُشرف على الطقوس الدينيَّة والأنشطة الروحية في معابدهم. يُعتبر الكنزبرا مثل القائد الروحي للطائفة، وهو مسؤول عن توجيه الأتباع وتعليمهم المعتقدات والتعاليم الصابئية المندائية. يمتلك الكنزبرا مكانة هامة وتقدير كبير بين الصابئة المندائيين، يقوم الكنزبرا بأداء الطقوس الدينيَّة والأفعال الروحية المهمة في الطقوس الدينية الصابئية المندائية.
الحنفية تُعتبر من بين الديانات القديمة في الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام وهي مصطلح يُستخدم لوصف الناس الذين كانوا يؤمنون بالله الواحد ويرفضون الوثنيَّة.
0 comments: