تدوين تاريخ العائلات الدرزيَّة العاميَّة
تمهيد :
يستغرب كل باحث في تاريخ العائلات الدرزيَّة العاميَّة عدم توفُّر مراجع أو كُتُب يستند إليها ليستكشِف أو يستشِف تاريخ هذه العائلات، مِن أين أَتَت أو مِن أين قدِمَت حتى استوطنت بلاد الشام بعد غياب الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وبدء سنوات المِحَّن التي تعرض لها أتباعه في مصر.
إعتبر المؤرِّخون أنَّ عائلات طائفة الموحِّدين الدروز، إِمَّا هي عائلات إقطاعية أو عاميَّة، وإذا استثنينا كتاب تاريخ ( عائلة آل المصري جذورها وفروعها ) من تأليف أخي فاروق محمد المصري المنشور في لبنان بالعام ٢٠١٩م. فانَّ هذا الكتاب يُعتبر أول مرجع موثَّق لتاريخ عائلة درزيَّة عاميَّة، لأنَّه قلما وقع نظري على كتاب يتضمن تاريخاً لعائلة درزيَّة عاميَّة سكنت في بلاد الشام ( لبنان، سوريا، الاردن، الجليل والكرمل ) ومردُّ ذلك أنَّ الكتابة اقتصرت فقط على العائلات الإقطاعية التي حكمت هذه الأمصار.
في المدوَّنة :
النطاق الجغرافي لهذه الْمُدوَّنة، بلاد الشام ( سوريا، لبنان الاردن الجليل والكرمل ).
النطاق الزمني لهذه المدوَّنة، منذ ولاية الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، أي منذ حوالي الألف عام، وبالتالي لا تطال هذه المدوَّنة الهجرات المتتالية إلى بلاد الشام من قبل القبائل العربية بعد أنفجار سد مآرب العظيم قبل الاسلام، وفي عصور الخلافة الاسلامية.
كذلك أبدى المؤرخون الغربيون استغرابهم ودهشتهم للافتراءات التي طالت تاريخ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وأتباعه، بحيث كانت معظم لا بل كل المراجع العربيَّة كاذبة وكذوبَة، إلى أن بدأت تظهر في دول شمال افريقيا العربية وخاصة مصر تصويبات وتصحيحات جريئة لتاريخ الحاكم بأمر الله النقِّي الصافي والشريف، بحيث يمكن لكل باحِث عن الحقيقة أن يجد المُدوَّنات ذات المراجع الموثَّقة عن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله على صفحات غوغل العالميَّة.
هذا لا يعني أنه لا توجد في المكتبات العامة الكُتُّب عن الدروز. هناك كَم هائِل وصفحات مليئة مُعظمها يُقارب ولا يَقْرُبُ أو يُمالئ ولا ينطق بالحقيقة أو يخاف ولا يتجرأ، وكأن التقيَّة في المعتقَد باتَّت طقساً وطريقة ومنهجاً حتى في التأليف والتدوين.
وعلى سابق عهدي إن أردت ان أكتب عن الموحِّدين الدروز، آليت على نفسي أن لا أتطرَّق للعقيدة، لأسباب عدة أهمها أنَّي لست رجل دين، وإن كنت أدرى من بعضهم بِشعاب مَكَّة، وأجوب في رحاب دار الحكمة بالقاهرة، دون أي إرشاد لأصل الى ينابيع المعرفة والعقل، بالإضافة إلى أنِّي ما زلت أعتقد أنَّ الكتابة في موضوع الْمُعتقد يجب أن يكون من قبل لجنة مُعترف بها من الأطراف المعنيَّة.
فيما يتعلق بتدوين تاريخ العائلات الدرزيَّة، فإني أجزم بأنه لا توجد لأي عائلة درزيَّة ( عاميَّة ) أي تاريخ مكتوب أو مُدوَّن خِلاف العائلات الدرزيَّة الإقطاعية التي كان الشيخ أو الأمير يُملي على كتبتِّه ما يشاء أو يرغب من أحداث وبطولات ومشاهد تُفرح الشيخ أو الأمير والحاشية. وهذا يعني إنَّ تاريخ العائلات الدرزيَّة الإقطاعية وإن كان مكتوباً فإنَّه يقبل الأخذ والرَّد، وبالتالي لا يمكن القبول به على عواهنه.
لنعطي مثلاً :
عائلة علم الدين عائلة درزيَّة إقطاعية، من المفترض أنَّ لها تاريخ مدوَّن أسوة بغيرها من العائلات الإقطاعية، ولكن بعد البحث والتدقيق تبيَّن أنَّه يوجد خلاف في تحديد أصول ونسب هذه العائلة.
في كتاب ( أخبار الأعيان في جبل لبنان ). إعتبر مؤلف هذا الكتاب القيِّم ( الشدياق ) أنَّ عائلة علم الدين هي من الأسر التنوخيَّة وتعود الى الأمير علم الدين سليمان بن غلَّاب الرمطوني ...
أمَّا في كتاب :
The secret of the house of Ma'n
للدكتور كمال الصليبي، فإنَّه إعتبر أنَّ نسب عائلة علم الدين يعود إلى الأمير علم الدين سليمان بن معن الذي كان أميراً على منطقة الشوف أيام الامبراطورية العثمانية.
يتضِّح من أعلاه أنَّ المؤرخين إختلفوا في تحديد نسب هذه العائلة، والفرق واضح ما بين أسرة تنوخ وأسرة معن.
أمَّا في المجلد التاريخي الغني والموثوق للأمير حيدر أحمد الشهابي ( نزهة الزمان في تاريخ جبل لبنان ) فإنه لم يأتِ على تحديد أصل ونسب عائلة علم الدين، ولكنه توسع في ذكرهم في ولاية الأمير حيدر الشهابي في سنة ١٧٠٨ م وما يليها إذ حدًد هويتهم السياسية في أنهم من الأمراء اليمنية الذين كانوا في الغرب.
وأخلص الى القول إنَّه في مادة التاريخ الصحيح لا يمكننا القبول بهذه النتيجة لتحديد أصل هذه العائلة أو غيرها لأنَّه كما سبق وذكرت، وأُزيد تأكيداً حتى في تاريخ العائلات الدرزيَّة الإقطاعيَّة، لا يمكن الوثوق في تاريخ بعضها.
الأسباب التي أدَّت إلى عدم تدوين تاريخ العائلات الدرزيَّة العاميَّة.
كما أسلفت القول إنَّ عدم التدوين هو أمر مُستغرب، والأشَّد غرابة أنَّ هؤلاء الناس الذين أتكلم عنهم، اعتمدوا العقل في مسلكهم والأدب في معاملاتهم الحياتية، لم يكن فيهم جماعة من الكتبَّة أو المفكرِّين أو الشعراء، أخذوا القلم وسيلة، أو اللسان شعراً أو زجلاً يُحاكي تاريخهم وعذاباتهم وأخبارهم.
الجواب، نعم كان منهم الأدباء والفقهاء والشعراء والمثقفين، ولكن بعد الاطلاع على الرسائل، في الكُتُّب الدِّينِيَّة لطائفة الموحِّدين الدروز نَجِد بعض الاحداثيات في المسير والمسار، لبعض القبائل أو العائلات في مصر أو شمال افريقيا حتى يرحلوا إلى بلاد الشام، أو في أمصار لبنان أو حوله حيث السُكنى والإقامة فيها من الأمن والأمان،
والأخوان الذين يحفظون سريَّة معتقدِّهم وحياتهم الشخصية ومكان سكنهم.
كانت الأوامر والتعليمات تُعطى خطياً وسراً للذهاب إلى تلك المنطقة الآمنة، حفاظاً على سلامة أفرادهم وعوائلهم وممتلكاتهم ومعتقدهِم.
كان الخوف من الملاحقات من السلطات العدائية ضاغطاً حتى لا يعرفوا أماكن تواجدهم، وقد إستمرَّ هذا الخوف لأجيال وفترات لاحقة من القرون القريبة الماضية كما سيظهر في سياق هذه المدوَّنة .
من المتعارف والمؤكَّد أنَّ الموحِّدين الدروز، تعرَّضوا إلى موجات وفترات من المِحَن استمرت لسنوات طويلة بعد إختفاء الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله.
زمن المحنَة الأول بعد الحاكم بأمر الله.
كان الخليفة الفاطمي الظاهر الذي خّلفَ الحاكم بأمر الله من أشد أعداء الموحِّدين الدروز، بالرغم من أنَّه قد تعهد كاذباً للحاكم بأمر الله بعدم التعرُّض لأتباعِه.
وكعادة فقهاء الدين الإسلامي الذين ما زالوا يتبعوا إصدار الفتاوى لتبرير أفعالهم كالاعتماد على الدين كخشبة خلاص لمآربهم وافتراءاتهم، أوجدوا للخليفة فتوى للفتك بأتباع الحاكم بأمر الله.
في هذه المِحنة الاولى، تمَّ هدر دماء أتباع الحاكم بأمر الله، من إنطاكية شمالاً حتى الإسكندرية جنوباً، الأمر الذي جعل بهاء الدين يقوم بحجب الدعوة أكثر أيام المِحنَّة.
أهم محنتان تعرض لهما الموحِّدين الدروز في هذه الفترة هما محنة حلب ومحنة إنطاكية، حيث قُتِل الآلاف منهم بعد العذاب والتنكيل، فكان رجال الخليفة الفاطمي الظاهر يذبحون الموحِّدين الدروز ويرفعوا رؤوسهم على الرماح أو يحرقونهم في النار، أو يعملوا فيهم السيف ويبقرون البطون ويقطعون القلوب والأكباد. وكانوا يصلبون الرجال على الصلبان ويسلبونهم أموالهم، ويسبون النساء والأولاد ويذبحون الأطفال الرُّضع في أحضان أُمهاتهم.
دامت المحنة سبع سنوات قاسية كانت بمثابة إمتحان للموحِّدين الدروز.
وقد عادت المِحنَة مُجدَّداً سنة 1035 م (426 هجري) إذ قام الخليفة الظاهر بالفتك بالموحِّدين الدروز، وذلك للقضاء على نشاطهم في بثِّ التوحيد.
في سنة 1036م. (427 هجري) مات الخليفة الظاهر وتُسلَّم الخلافة إبنه المستنصر بالله ...
سأكتفي بهذا القدر من هذه الأفعال، التي صبغت جبين الخلافة الفاطمية بالذُّل والظلم والخنوع، بعد أن كان مرفوعاً في كُتُّب التاريخ في عهد الحاكم بأمر الله الذي تميَّز بحرية الْمُعتقد والدين.
وبالرغم من ذلك، أثبت التاريخ أنَّ الخليفة الظاهر، لم يستطع القضاء على الموحدِّين الدروز، كذلك لم يأتِ بعد ذلك خليفة فاطمي آخر يجد في نفسه الجرأة ليدعم الموحِّدين الدروز ويساعدهم على نشر مذهبهم، بل جلَّ ما إستطاع أن يفعله الخلفاء في هذا الموضوع، هو بقاء الوضع كما كان عليه، من ملاحقة ضد الموحِّدين الدروز، لكي يأخذوا رضى إستبلشمانت الفقه الاسلامي السني المُتطرِّف.
في هذا الجو من العذاب والالم والملاحقات، اضطرت العائلات المهاجرة والهاربين من الظلم الى المكوث والإقامة في قمم الجبال العالية، حاملين ما إستطاعوا حمله من مأكل ومشرب، وقد طُلب اليهم أن لا يجهروا بعقيدتهم، أو تدوين تاريخ مَقدَّمهم ومن أي جهة أتوّا، وبالتالي لم يقيموا لهم مؤسسات دينيَّة ترعى شؤونهم المذهبية، إستمَّر ذلك لعشرات لا بل المئات من السنين من التقيَّة والكتمان وعدم البوح أو كتابة أي تدوين لجذورهم، إلى أن قامت في لبنان الإمارة التنوخيَّة الدرزيَّة، واستطاعت أن تقيم كياناً للموحدِّين الدروز، الذين أخذوا يظهرون علناً أمام البيئة حولهم.
وقد بدأت تشرق شمس الدروز، في بلاد الشام وانتعش الأمل في العيش الكريم، دون الملاحقات الظالمة والحاقدة وزاد نفوذ الدروز فيما بعد بظهور الإمارة المعنيَّة وخاصة في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني (1575-1635) الذي إتفق جميع المؤرِّخين أنَّه أهم شخصيَّة درزيَّة بعد ظهور الدعوة.
وأخيراً ... لا بد من ذِكْر الإمارة اللمعية الدرزيَّة التي حكمَت جبل لبنان حتى القرن التاسع عشر، وأخذت من صليما مسقط رأس أبي وأُمي عاصمة لهذه الإمارة اللمعيَّة اللامعة في جبين تاريخ لبنان.
وقد أثبت التاريخ أنَّ هذه الإمارات الدرزيَّة التي حكمَت، أبقَت على تاريخ الموحِّدين الدروز العربي على مرِّ الأجيال السابقة والحالية والقادمة.
ولا يستغربنَّ أحداً أنَّ عائلة آلِ المصري المقيمة سابقاً وحالياً في صليما بسبب وضعها الجغرافي والامني والمعيشي، إستقبلت أعداداً هائلة من العائلات الدرزيَّة الْمُهجَّرة والمهاجرة في القرون الماضية، بحيث أصبحت من أكبر العائلات الدرزيَّة عدداً، وتوزعت على عِدَّة قرى، وقد ظهر ذلك جلياً ضمن كتاب المؤرِّخ فاروق محمد المصري حيث ذكر أسماء تلك العائلات الوافدة، والتي انخرطت وانصهرت تحت إسم العائلة الْمُضيفة ( آل المصري ).
فيصل المصري
أُورلاندوا / فلوريدا
نيسان ٢٠٢٣م
المراجع :
المُدونَّات الفيصليَّة.
كتاب الموحِّدون الدروز عبر التاريخ.
كتاب عائلة آل المصري جذورها وفروعها.
سلامات د. فيصل، هل لديك معرفة اكيدة عن اصل عائلة خير وتجذراتها؟
ردحذفdr.kheir@gmail.com
حذف