الموحِّدون الدروز والتقيَّة.
المُقدِّمة التي لا بُدَّ منها.
الظلم التاريخي الذي تعرَّض له الموحِّدون الدروز والافتراء مِن قِبل بعض الفقهاء والمؤرخين العرب المسلمين، كان له الأثر القوي في التقيَّة بالمعنى الذي سأتناوله في هذه المُدونَّة.
لقد شهدَت البشرية منذ هبوط الأديان السماويَّة حروباً تدميرية بسبب المُعتقدات الدينية، واختبر الإنسان التهجير والنفي والسبي والاغتصاب والذبح والقصاص الهمجي.
وبالرغم من تطوُّر الانسان العلمي والثقافي بقي مفهوم حريَّة الإيمان الديني عنده مُنحطاً، واستمر في عدائه تجاه المعتقد الديني الآخر والمغاير، وبقي يضمر في نفسه غايات دفينة عدائية وهي الدين أو المعتقد. وبقيت المُعتقدات تُؤجِّج وتُغلي النفوس نحو الشَّرور والحروب.
لذلك، قامت وعايشَت واختبرت البشرية أنَّ كل دين سماوي يهاجم غيره ويتعرَّض له.
فاليهودية تنكَّرت للمسيحية.
والمسيحية عارضت اليهودية.
واليهودية والمسيحية تُخالفان الإسلام.
والإسلام يدحض كثيراً من عقائد اليهودية والمسيحية.
أما العجَّب والغرابة أنَّ في كل دين سماوي هناك ملل ونحَل وفرَق وطوائف ومذاهب تعارِض وتكفِّر بعضها البعض، ولا ترى غضاضةً في شن الحروب للقضاء على من يخالفها. وقد أطلقت عليها في مُدوِّنات سابقة بالمحن أي مِحَن الأديان السماويَّة.
في المُدونَّة :
مِحنة الديانة المسيحية في أوروبا في القرون الماضية ما بين المذاهب المسيحية، أدَّت إلى شدِّ الركاب والرحيل والهجرة إلى العالم الجديد في القارة الأميركية ملاذاً آمناً لممارسة شعائرهم.
مِحنَة الديانة اليهودية حدِّث ولا حرَّج بما يُسمَّى ( الديسابورا ) أي اليهودي التائه والمنفي والجوَّال الأزلي. مِحنَّة الاسلام فما عليك إلَّا أن تنظر إلى الوراء لأكثر من ألفيَّة ونيف، وتنظر بذات الوقت ومن المكان نفسه إلى الأمام لقرون مُقبلَة، مُدلهمَة، مُدبرَة من الخلاف والشقاق في الدين الواحد والآتي أعظم.
بِنَاءً على هذا العيش غير الرغيد وغير المُفعَم بالحب وقبول الآخر كان لا بد من صيغة مُشتركَة للعيش بأمان وطمأنينة ما بين مُنتسبي هذه المعتقدات من الشعوب، لتزيل الاحتقان وَتُخفي ما في القلوب والعقول من إيمان، حتى ينتشر التعايش والسلام بين البشرية ولو إلى حين، أو بعضاً من الوقت.
الصيغة الأُمميَّة بين هذه الاديان.
هي التقيَّة، وإذا قال لك أي فَقِيه أو مؤرِّخ أنَّ التقيَّة انسحبت وطُبِّقت في دين سماوي واحد أو مذهب واحد فهذا غير صحيح، لأن الأديان السماويَّة كلها طبَّقتها وعملَت وأخذت بها مسلكاً ومنهجاً وطريقاً تجنباً وخوفاً من الآخر.
ما هي التقيَّة، وما أدراك ما هي التقيَّة.
إليكم ما هي التقيَّة.
أولاً : ( المفهوم اللغوي لكلمة التقيَّة )
التقيَّة : الخشْيةُ والخوفُ.
تاريخياً، المُتصوفون والفلاسفة اعتمدوا إخفاء الحَق ومصانعة الناس والتظاهر بغير ما يعتقدون خوفاً من البطش أو الظلم.
التقيَّة مصدرها إتقَّى، إتقَّاءً.
كَأَن يَتَّقِي شَرَّهُ، يَتَجَنَّبُ شَرَّهُ، يَحْذَرُهُ.
ثانياً : ( المفهوم الديني ل كلمة التقيَّة )
إتقَّى الله، صار تقياً وخاف منه. تجنَّب ما نهى عنه، وامتثل لأوامره. ويقال، اِنْتَهَى بِهِ مَذْهَبُهُ إلى التَقيَّة، أي إِخْفاء الإنسان مَذْهَبِهِ والتَّسَتُّر عَلَيْه خَوْفاً وخشيةً.
وبمعنى أخر، مُدارَاة المؤمن للكافر باللِسان، خلاف ما ينطوي عليه قلبه خوفاً على نفسه. .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً. وفي هذا تفسيح لأخذ التقيَّة مسلكاً ولا غضاضَة في ذلك.
بناء على كل ما تقدَّم
لن أسترسل في التقيَّة بالدين اليهودي، لأن التوراة حافل باخبار التقيَّة مع الفراعنة وبابل والفرس وبالحرب العالمية الثانية أيضاً.
كذلك لن أبحث في التقيَّة بالدين المسيحي خاصة مع بدايات البشارة، والصراع مع حاخامات اليهود في أُورشليم القدس، ومع مُمثلي قيصر روما.
أمَّا التقيَّة في بدايات الإسلام، فيها ما يكفي لتبرير الهجرة للمدينة المُنوَّرة، تاركين جور وظُلم قريش في مكة.
ثالثاً : التقيَّة عند الموحِّدين الدروز.
في هذا المبحث سأتطرَّق إلى وجهين للتقيَّة عند الموحِّدين الدروز، ولا تكتمل الواحدة إلا مع الثانية.
الوجه الاول :
هي التقيَّة بمضمونها المُعتقدي الديني، المسلكي، الواجب إعتماده والعمل به، ومُدارَاة المؤمن للكافر باللِسان، خلاف ما ينطوي عليه قلبه خوفاً على نفسه.
( أي إِخْفاء الإنسان مَذْهَبِهِ والتَّسَتُّر عَلَيْه خَوْفاً وخشيةً ).
الوجه الثاني :
وهي مُلازمة للوجه الأول كالعملة الذهبية، وتقضي بعدم التعرُّض للمعتقدات الاخرى، وهذا ما سأُبيِّنُه وأُشدِّد عليه مُسبقاً وأقول أن الوجه الثاني لم تأخذ به المعتقدات الأخرى، بدليل أنَّ السَب للمذاهب والفرَق التي تغاير، ما زال حتى وقتنا الحاضر معمولاً به ومُطبقاً.
في الوجه الاول للتقيَّة.
يقول الأمير السيِّد عبدالله التنوخي في إحدى رسائله :
ونُداري الأمة ونبتغي من هذا الإيمان المحافظة على الودَاد والاخوَّة مع سائر الناس.
استند الأمير السيِّد عبدالله التنوخي في ذلك إلى ما قاله النبي محمد صَلَّى الله عليه وَسَلَّم :
( رأس العقل بعد الايمان بالله، مداراة الناس ).
يُضيف الأمير السيِّد عبدالله التنوخي، إنَّ التقيَّة عند الموحدِّين الدروز، لا تمسَّهم بل تزيدهم شرفاً، لأن هدفها شريف، ليس فقط للمحافظة على كيانهم وأنفسهم من الملاحقة على أيدي المتعصبِين والمتزمتِين، بل للحفاظ على الجيرة الحسنَة، وعلى التسامح وعلى إحترام عقائد الغير وعدم المس بها.
واستند الأمير السيِّد عبدالله التنوخي الى المبدأ القائل :
لكم دينكم ولي ديني. وكل واحد على دينه، الله يعينه.
أمَّا السيِّد عبدالله النجار في كتابه القيِّم مذهب الدروز والتوحيد، يقول في التقيَّة :
كان الموحدُّون الدروز منذ نشأة مذهبهم في مطلع القرن الخامس للهجرة، الحادي عشر للميلاد، مُحترسين في كتمانه، مشيحين عن إعلانه، صيانة لأنفسهم من الاضطهاد ووقاية من العدوان.
والتقيَّة يتذرع بها المُتقون ، بالآية ١٠٦ القرآنية من سورة النحل : إلا من أُكْرِه وقلبُه مطمئن بالإيمان.
يُضيف السيِّد عبدالله النجار أنَّ التقيَّة جاءت بعد أغلاق باب الدعوة سنة ٤٣٤ هجرية.
كان الدعاة يُوصون أتباعهم بالحذر والكتمان، حفاظاً على سلامتهم بعد أن قُضي على المذهب في مصر، وقد حفلَت الرسائل بتحذير المستجيبين منها، على سبيل المثال المنشور الذي أُرسِل الى آلِ عبد الله وآل سليمان سنة ٤٣١ هجرية جاء فيه :
واستديروا بالسِتر لما أوعزناه إليكم، وليتدبر بالسِّتر لما أوعزناه إليكم.
وكان يُنصح الأتباع المُوحِّدون بالارتحال إلى حيث يكون لهم ولي يلطف بهم وينصفهم ولا يحيف عليهم.
وقد كانت النصيحة للأتباع واضحة جداً كالقول لهم :
إن كان الموضع الذي أنت فيه يصلُح للسترَة فالمقام، وإن أردت الانفساح وراحة القلب فعليك ببلاد الشام.
ومن الواضح أن النصيحة كانت تفرض على الاتباع، أخذ الحيطة وحتى الإنكار عند الإضرار، والله العالم بما تُظهرون وما تكتمون.
وقد ذكر التاريخ أن الظلم الذي لحق بالموحِّدون الدروز كان رهيباً ومخيفاً، ومن فرط ما قاسوا به من ألوان الاضطهاد والتعذيب والتقتيل والتنكيل، رحل أكثرهم عن مصر إلى بلاد الشام وأفضى ذلك بالكثيرين منهم إلى إنكار مذهبه، والتظاهر بالجحود.
وخلُصت إحدى الرسائل ( ٧٨ ) في شرح الخطر المُحدِق بالقول :
في ذلك اليوم يصبح المُوحِّدون هدفاً للاضطهاد، ويكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويفِرُّ المؤمن بدينه من شاهق إلى شاهق.
أمَّا المرحوم كمال جنبلاط أعطى في مقدمة كتاب الدكتور سامي مكارم "مسلك الحكمة والتوحيد" وهو الإسم الحقيقي للدرزيَّة توضيحاً حيث فرَّق ما بين التقيَّة والسريَّة.
إذ يقول : الاحتراز ما أمكن فيما يجب أن يبقى سراً مكتنزاً لا تتداوله أيدي عامة الناس ممَّن لا تتفتَّح أفهامُهم وأذواقُهم لمعناه، ولا تتوفَّر فيهم شروطُ الأهليَّة الروحية والاستحقاق الخُلُقي، ولا يرغبون في جدِّية وإخلاص بالانخراط في مسلك هذا العرفان.
ويستند المرحوم كمال جنبلاط إلى الآية القرآنية :
"لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ" [ سورة البقرة ٢٨٦ ]
وهذه السريَّة كانت نهج حكماء الهند ومصر القديمة والصين وإيران، واليونان وسواهم من الأقوام، ولا تزال ميزة مَن لا يزالون تعمُر حياتُهم وأرواحُهم بمسلك الحكمة القديم المتصل المتجدد أبد الدهر.
ويخلص المرحوم كمال جنبلاط إلى القول :
إنَّ السبب الجوهري لمثل هذه السريَّة، ليس هو " التقيَّة " بمعنى الخشية، لأنه من القواعد الألفية المكرَّسة في مسالك الحكمة والعرفان أن يحافظ المؤتمَنون على السريَّة لسبب جوهري توضحه الكتُّب المُقَدَّسة.
في الوجه الثاني للتقيَّة :
وهذا المنهج أو الطريقة التي سلكها الموحِّدون الدروز في إحترام عقائد الغير، هي الوجه الثاني الذهبي للتقيَّة.
إنَّ التاريخ القديم أو المعاصر لم يُدوِّن أنَّ الموحِّدون الدروز تعرضُّوا لأحد على خلفية دينية، أو مسَّوا بمشاعر أحَد من أجل عقيدته، أو أهانوا شيخاً أو كاهناً أو حاخاماً. بل شهد العالم لبني معروف، احترامهم للأديان وأصحابها ومنتسبيها.
وبما أنَّ الشئ بالشئ يُذكر.
هذه الطريقة في التعامل مع سائر الْمُعتقدات والأديان فإنَّها تعود إلى أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله حيث جاء :
إنَّ الحاكم بأمر الله قد منع سَب أعداء مذهبه، ولم يعامل أعداءه بالمثل. ويؤيد المؤرخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ذلك بكتابه :
إتعاظ الحنفاء باخبار الأئمة الفاطميين جزء ٣.
حيث نشر نص وثيقة منع سَبّ الصحابة بأمر من الحاكم بأمر الله جاء فيها :
لا يُسَبُّ السلف ولا تكونوا سبابين ولا عيابين.
ويُضيف المقريزي : لدينا سجل أصدره الحاكم بأمر الله، ليُقرأ في كل مكان على جميع الناس في رمضان بالعام ٣٩٨ هجرية يظهر فيه منع الحاكم بأمر الله سَبّ السلف وهذا نصَّه : من عبد الله ووليه أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين إلى كل حاضرٍ وبادٍ.
أما بعد : فإنَّ أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين : لا إِكْرَاهَ فِي الدِين. ..
وقد يعتَّز الموحِّدون الدروز بهذه الخصلة الحميدة، لأن أمر الحاكم بأمر الله جاء واضحاً وصريحاً وما زال معمولاً به لغاية تاريخه.
ألَّا تلعنوا أحداً في الدين.
لان اللعنة لا تزيد في الدين.
وخاطبوا الناس بالتي هي أحسن.
فإن الله يحب المحسنين.
فتميل قلوب العالم إليكم. .
يتبين من أعلاه
وبالرغم من كون عقيدَة الموحِّدون الدروز فيها تفسير ورؤية وفكر جديد مُغاير أو مُختلف، فإنهم طبَّقوا ما أُمروا به، أي عدم التعرُّض للمعتقدات الأُخرى بالرغم من الافتراءات. ولكن كانت هناك حاجة مُلحَّة لهذا المذهب التوحيدي الجديد، لتجنُّب الخلافات والاعتداءات والنعرات الدينية والطائفية، من المعتقدات الاخرى فجاءت التقيَّة بالمفهوم اللغوي والديني الواضح في أعلاه.
ولا يسعني في ختام هذه الْمُدوّنة إلَّا أن أقول :
إنَّ التقيَّة قد تبقى سلاح المُؤمنين والمثقفين ضد الجهلَة.
إنَّ التقيَّة هي بر الأمان للاستتَار بالمألوف.
إنَّ التقيَّة اليوم لكل الموحِّدين الدروز في لبنان، وسوريا، والاردن، والجليل، والكرمل، ليست خوفاً ولا استيحاءً ولا خفراً ولا وقاءً بل هي باتت الخطوط الحمراء لكل معتدي.
شاء من شاء، وأبى من أبى.
وغداً لناظره قريب.
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
١٣ أيار ٢٠٢١م
( ليلة الجمعة ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق