الخنساء .....
قالوا، عنها.
إنها، التي غلبَّت الرجال .. ( بشار ابن برد )
إنها، أشعر مني .. ( جرير )
وأقول، عنها.
إنها، لم تلد مثلها النساء .. ( فيصل المصري )
إن، دموعها من ذهب .. ( فيصل المصري )
خِتامها مِسك، ما قاله النبي محمد صَلَّى الله عليه وَسَلَّم عنها.
إنها، أشعر الناس ..
وهذا هو عنوان مُدوِّنتي .. الخنساء .. أشعر الناس.
إسمُها : تماضر بنت عمرو السلمية. 575م
وفاتها : 645م
إقامتها : في يثرِّب.
شهرتها : شاعرة، رثاء من الدرجة الاولى.
دموعها : من ذهب، أغنت الشعر العربي، وملأت الخزائن بالذهب الخالص.
قبيلتها : بني سليم.
أزواجها :
-/ رواحة بن عبد العزيز السلمي.
-/ مرداس بن أبي عامر السلمي
والدها : آل الشَّريد، من سادات وأشراف العرب، وملوك قبيلة بني سليم.
الخنساء، شاعرة، مخضرمة من أهل نجد، أدركت الجاهلية، والإسلام وأسلمَّت، واشتهرت برثائها لأخويها صخر، ومعاوية الذيَّن قُتلا في الجاهلية.
لُقبَّت بالخنساء لقصر أنفها، وارتفاع أرنبتيه ..
هي : أم عمرو، تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد. وآل الشريد من سادات وأشراف العرب، وملوك قبيلة بني سليم في الجاهلية، سكنوا بادية الحجاز في الشمال الشرقي من مدينة يثرب، حيث تمتد مضارب بني سليم.
وآل الشريد كانوا سادة بني سليم. وعمرو بن الحارث -أبو تماضر- كان من وفود العرب على كسرى، وكان يأخذ بيدَّي ابنَّيه معاوية، وصخر في الموسم حتى إذا توّسط الجمع قال بأعلی صوته :
أنا أبو خيري مضر، فمن أنكر، فليُغَيرُ. فلا يغُيرُ عليه أحد.
وكان يقول :
من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه. فتقّر له العرب، بذلك.
ولدَّت ألخنساء، وانتقلت من طفولتها إلى صباها، فشبابها، ولا شيء يُثير الانتباه، أو يلفت النظر غير ما كانت تمتاز به من جمال، وما كانت تحسِّه من أبويها، وأخويها من عطف ومحبة، حتى وصل بها الإحساس إلى درجة الاعتدَّاد، أو إلى مرتبة، الأنفة، والكبرياء. ولم يكن ذلك غريباً على من ينشأ في مثل ظروفها.
أب ٌ شريف، وأخوان سيدان، يتباهى بهما الأب ويفاخر العرب، ولا أحد يجرؤ على نقض ما يقول.
وكان لذلك أكبر الأثر في حياة الخنساء، وفي تكّوين شخصيتها.
أما عن جمالها، لا نعرف عنه شيئا ً، الا حين وصفها، دُريّد بن الصّمة بشعره، لما تقدم طالبا ً الزواج منها، وعندها فقط عرفنا أنها جميلة، وقد وقع في هواها، فارس الفرسان، دُرّيد.
الخنساء، إذن :
كانت، ذات حسب، ونسب، وجاه، وشرف.
كانت، ذات جمال آخاذ، وتقاسيم متناسقة...
لذا شبّهوها بالبقرة الوحشية. والعربي إذا تغزَّل في الأنثى، وأراد التعبير عن جمالها، شبهها بذلك.
كانت، ذات جاذبية طاغية.
كانت، تعرف ما تملك في يدها من سلاح، كما عرفت قيمة ذلك السلاح.
كانت، في حياتها ما من شيئ يُقلقها، او يقّض مضجعها. لان مركز قبيلتها، وسيادة أبيها، أوصلاها الى كل أسباب الطمأنينة، كما زاد حُسن جمالها، الى ان تكون غير قلقة، وغير مضطربة.
كانت، العاقلة الحازمة، حتى عُدَّت من شهيرات النساء..
لا يجرؤ أحد عن التهّجم عليها أو التحدّث عنها. وقد ظهر ذلك، حين تقدم لخطبتها دُرّيد بن الصمّة.
كان دُرّيد بن الصّمة، فارس مغوار، شارك في نحو مائة معركة، ما أخفق في واحدة منها، وأصبح له من سمعة، تكفلَّت له التبجيل، والإكرام.
وتقول الرواية، كيف إلتقى بالخنساء ..
وبينما هو في رحلة قصيرة، لفت نظره مشهد فتاة ترعى بعيرا.
فسأل، من هي ؟
قالوا له، أنها تماضر بنت عمرو، شقيقة صديقك الحميم معاوية، سيد بني جشم.
سرَّه هذا الخبر. وقال :
حَيّوا تُماضِرَ وَاِربَعوا صَحبي وَقِفوا فَإِنَّ وُقوفَكُم حَسبي
أَخُناس ُ قَد هام َ الفُؤاد ُ بِكُم وَأَصابَه ُ تَبَل ٌ مِن َ الحُبِّ
ما إِن رَأَيت ُ وَلا سَمِعت ُ بِه ِ كَاليَوم ِ طالي أَينُق ٍ جُرب ِ
مُتَبَذِّلا ً تَبدو مَحاسِنُه ُ ضَع ُ الهِناء َ مَواضِع َ النُقب ِ
مُتَحَسِّرا ً نَضَح َ الهِناء َ بِه ِ ضح َ العَبير ِ بِرَيطَة ِ العَصبِ
فَسَليهُم ُ عَنّي خُناس ُ إِذا عَضَّ الجَميع َ الخَطب ُ ما خَطبي
وفي اليوم التالي، أخذ طريقة إلى منزل صديقه معاوية بن عمرو.
تلّقاه عمرو، والد الخنساء بالترحاب ..
وجلس دريد في مجلسه وقال :
جئت أخطب ابنتك، تماضر الخنساء.
قال له عمرو :
مرحبا ً بك يا أبا قرة ..
وانك لكريم لا يُطّع في حسبه ..
والسيد، لا يرّد عن حاجته ..
والفحّل لا يقرع انفه ..
ولكن : لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها.
وأنا ذاكر لها، وهي فاعلة.
ثم دخل على ابنته. وقال لها :
يا خنساء ..
أتاك فارس هوازن، وسيد بين جشم، دريد بن الصمّة يخطبك وهو من تعلمين ...
قالت، وكان دريد يسمع حديثهما :
يا أبت َّ : أتراني تاركة بني عمي مثل عود الرماح،
ومتزوّجة شيخ، بني جشم ؟
فخرج اليه ابوها فقال :
يا أبا قرة، قد إمتنعَّت، ولعلّها تجيب فيما بعد.
فقال دريد : قد سمعت قولكما ..
قالها وهو منصرف، دون ان يزيد عليه ..
يبدو ان أخاها معاوية، اراد ان يجامل صديقة دريد، فحاول إقناع الخنساء، ولكنها أصرَّت على موقفها من الرفض ..
وبقي صخر طيلة حياته، بجوارها صخرا ً بقوة عطفه، وحنانه.
عرف فيها أبوها، رجاحة العقل، وأتزان الفكر ..
فأبّى إلا ان يكون زواجها بعد موافقتها، ولم يكن ذلك حقا لكل إبنة، وإنما هو تكريم يُمنح لمثيلات ألخنساء.
ولان الخنساء، رفضت الزواج من غير بني العم، فان التاريخ ذكر، أنها تزوجت من رجل من قبيلتها اسمه عبد العزى السلمي أولدها إبنها، أبا شجرة عبدالله.
ابن قتيبة ذهب إلى أن إسمه، رواحة بن عبد العزى، قبلت الزواج من عبدالعزى المقامر، وهي التي رفضت :
سيد بني جشم،
وسيد من آل بدر.
وقد أشارت إلی ذلك في قولها :
أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح.
حاولت الخنساء أن تُمسك عليها زوجها، وتحافظ على زواجها ..
فضحَّت في سبيل ذلك بالكثير ..
غيّرت من طبيعتها وكبريائها، بل إنها بالغت في ذلك لدرجة جعلته يشعر بتعلقّها به ..
فغالى في إنحرافه، واستغَّل حرصها عليه أسوأ استغلال ..
وإنتهز مالها ومال أخيها ..
وكلما فرغت يده أظهر لها الضيق بحياته معها ..
يتظاهر بالرحيل عنها ..
ولكنها تتشبَّث به وتقول له :
أقم، وأنا آتي صخرا ً .. فأسأله.
ويقيم عبد العزى، تكرّما ً منه وعطفاً، بينما تذهب هي، إلى أخيها صخر تشكو إليه حالها وما تلقى من ضيق العيش ..
فما يكون من صخر إلا أن يشطر ماله شطرين، يعطيها، خيرهما.
ويستمر عبد العزى علی ذات الحال، ويضِّيع ما حملت معها من أخيها، ثم يجيئها صفر اليدين، فيلجأ إلى الطلب بدلا ً من التهديد بالترك.
تقول الخنساء :
ثم التفت إلي َّ فقال : أين تذهبين يا خنساء ؟
قلت : إلى أخي صخر.
فأتيناه فقسَّم ما له شطرين، ثم خيرّنا في أحسن الشطرين.
لم تفيض قريحتها شعرا ً، للتعبير عن تلك التجربة، لانها كانت منهمكة في البحث عن حلول، فلم تكن في حاجة إلى ان تتكلم.
خشيت الخنساء من شماتة الناس، ان هي قالت شعرا ً تتناقله الألسن.
خشيت الخنساء من معاوية، الذي مال إلى زواجها من دريد.
الى ان قررَّت الخنساء، ان تنفصل عن عبد العزى ..
وعادت، ومضَّت في طريقها إلى بيت أبيها ..
كان لها من الابناء أبن واحد، من زوجها عبد العزى هو :
أبو شجرة عبدالله :
الذي وقف حائراً بين امه وأبيه، تلك الحيرة، جعلته انتهازيا ً، لا تهمه المبادئ، بقدر ما تهمه المنفعة الشخصية والكسب الخاص.
وتقول المصادر التاريخية، ان معاوية شقيق الخنساء لما فارق الحياة، في إحدى المعارك، كان زوج الخنساء السابق، بالرغم من إنفصاله، عن إخته يقف الى جانبه، وقوف الأبطال، لان المعركة شي مرتبط بعرف القبيلة وعاداتها ..
ولقد وقف نفس الموقف، دريد ..
فلم يؤثر رفض الخنساء خطبته، في ما بينه وبين معاوية اخيها من صداقة،
فوقف دريد يرثي، صديقه معاوية :
ولم يقف عند قول قصيدة فقط، بل طلب ثأر صديقه ..
ولم يهدأ له بال، ولم تخمد له نار حتى ثأر له ..
لم يطّل بالخنساء المطال، حتى تقدّم اليها مرداس بن ابي عامر السلمي، الملقب بالفيض لسخائة. ذلك بعد مقتل صخر، وفي اثناء حدادها على أخيها، وأبيها.
كان مرداس، إلى جانب سخائة رجل جدي، وعملي، لم يترك فرصة إلا إستفاد منها.
مات مرداس، في احدى مغامراته تاركا ً للخنساء أربعة بنين هم : العباس، وزيد، ومعاوية، وبنت إسمها عمرة.
إنهارت الخنساء لفقدان مرداس، وفاضَّت قريحتها عن قصيدة، إعتبرها فحول الشعراء، انها من احسن مراثيها، فهي لا تبعد عن نهجها العام في رثائها، المندرج بين الندب، والتأبين.
عددَّت الخنساء مناقب زوجها ومآثره، وفي رأيها كان مرداس، أفضل الناس حلما ً، ومروءة،
اما اخبار الخنساء، وما تناقله المؤرخون، والمتعلقة بابنها البكر، ابي شجرة
بن عبد العزى، وأحد حاملي لواء الارتداد، انه كان يحرِّض بشعره المرتدين عن الاسلام، بمحاربة المسلمين وقتالهم.
وبعد وقت قصير قضاه في النفاق، رأى تحريضه لم يثمر، ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام، رجع هو كذلك إليه،
وقد قبل منه أبو بكر عودته، وعفا عنه فيمن عفا.
ويبدوا ان عودته إلى الإسلام لم تكن عن صدق، فقد اتى الخليفة عمر ابن الخطاب، وهو يعطي المساكين من الصدقة، ويقسّمها بين فقراء العرب، فقال : يا امير المؤمنين،
اعطني فإني ذو حاجة.
قال عمر بن الخطاب : ومن أنت ؟
قال : أبو شجرة بن عبد العزى السلمي.
قال عمر : أبو شجرة ؟
أي عدو الله :
قُم ْ، وجعل يضربه في رأسه، حتى سبقه عدوا ً، وهرب.
أمّا ما تناقلته الأخبار عن الخنساء في معركة القادسية، انها خاطبت اولادها قبل بدء المعركة وقالت :
إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيّرت نسبّكم ..
وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. وإعلموا أن الدار الباقية خير، من الدار الفانية ..
فإذا أصبحتم غدا ً إن شاء الله سالمين، فاغدّوا إلى قتال عدُّوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين ..
وإذا رأيتم الحرب، قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارا ً على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم، والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما اصبحوا، باكروا مراكزهم، وتقدموا واحد بعد واحد ذاكرين وصية والدتهم.
وما زالوا حتى استشهدوا جميعا ً في حرب القادسية ..
وبلغها الخبر، مع الجيش العائد محملاً بالظفر ..
فقالت : الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
قالتها، ولم تزّد عليها ..
انها الخنساء ..
احداث متتالية، تكشف لنا عن ذلك الجانب في حياتها ..
بعد موت والدها ..
ومقتل شقيقيها ..
وموت زوجها ..
وإستشهاد وأولادها ..
لا تنتهي حادثة حتى تبدو حادثة اخرى، وكانما طلب التاريخ منها ان تقوم بالتدوين، والتصوير ورصد الاحداث في حياتها.
وليس بعيدا ً، موقف صخر منها، حين حاول معاوية اخوها، ان يُكرِهها على الزواج من صديقه دريد ..
فلجأت اليه ليكون لها عونا ..
وليس بعيدا ً، عن ذلك موقف صخر منها، حين أوقعها زوجها عبد العزى في ورطة مالية، فلم تجد غيره ملجأ ً تسعى اليه.
فقد شطر ماله نصفين، خيرّها بين احدهما.
حتى ملّت زوجته واعترضت فقالت :
أما كفاك، ان تقسم مالك حتى تخيِّرهم ؟
فقال كلاما ً قاطعا ً عليها كل اعتراض ..
أما مقتل معاوية، اخوها، سيد بني فزارة، فاجعة ألمّْت بها، ولم تَذِق النوم، لفقدانه ..
وقد وازن النقَّاد، بين مراثي الخنساء، في صخر، ومراثيها في معاوية.
أخذوا عليها قلة شعرها في رثاء معاوية ..
وقد اتفقوا على ان شعرها، في معاوية قليل ..
اذا ما قيس بشعرها في صخر ..
وقد تضاربت الاراء، وظهرت التبريرات، وأُطلقت الاتهامات في حق الخنساء
قيل، ما زال في نفس تماضر من اخيها معاوية، بعد مقتله أثر من آثار الماضي.
قيل، انها الصدمة المفاجئة، ألجمت لسانها وتجمّدت مشاعرها.
قيل ، انه الخوف على اخيها صخر، من ان تهيّجه اشعارها، فيندفع، وهو الذي لا يبخل في سبيلها، إلى حتفه، وعندئذ تفقد الإخوة، مثلما فقدت الزوح، والأب.
ولكن، لو رجعنا إلى عادات العرب واخلاقهم في الرثاء، لبدا لنا الامر في معاوية طبيعيا، لا شذوذ فيه، ولا حاجة تستدعي تلك الافتراضات او بعضها، فقد كان من اخلاق العرب ان يأنفوا من بكاء من مات في المعركة، لانهم يعتبرون ندبهم، وبكاءهم، في حكم الهجاء، فهم ما خرجوا الا ليقتلوا، ولذا يجيئ رثاؤهم، والحالة هذه، تابينا ً يذكرون فيه فضائل المقتول، ومركزه في قبيلته.
لم يقتنع صخر، بان يثأر دريد لصديقه، معاوية والذي هو بذات الوقت شقيقه، بل تابع، غاراته على مُرَّة، حتى اصيب بجرح ٍ، من طعنة، طعنه بها ثور، فمرض لها حولا ً.
واصبحت حياته ممّلة، حتى ان امرأته سُئِلت عن حاله وقالت :
بِشر ِّ حال،
لا حي ً فيُرجى،
ولا ميتا ً فينعى،
ولقد لقينا الأمرّين.
وتجيب الام :
بأحسن حال، ما كان منذ اشتكى خيرا منه اليوم،
فقال صخر :
الموت اهوّن علّي مما انا فيه.
وجاءت الخنساء، وفي يدها قلبها، تسأل والالم يعصرها، صخر ٌ في مرضه، والام، والأخت في اقسى الآلام، لمدة عام او يزيد،
مات صخر في سنه 615 م، ومن قبل ... مات معاوية في سنة، 612،م، ومن قبلهما قابلت تماضر الموت في اسرتها.
يوم ان اقتلع الموت اباها عمرو بن الشريد،
ومرداس زوجها الكريم.
الخنساء، ومشاعرها :
انهارت الخنساء، بعد مقتل معاوية، لولا وجود صخر، ما قدرّت على تمالك نفسها.
اما موت صخر، كان الزلزال المدّمر لحياتها.
فقد مات عزُّها، ومؤنسها، وملجؤها، وحاميها،
ولذا، تراها تُقيم على قبره، زمانا ً تبكيه، وتندبه، وترثيه.
مات صخر، انفجّرت باكية، من غير توقّف.
بقيت الخنساء بعد موت صخر، تائهة، حائرة، حاول من حولها ان يواسيها، كانت ترفض الكلام او التحدّث، إلا عن مَصابها، وفجيعتها.
فقيل لها :
أن تصف أخويها معاوية، وصخر، فقالت :
إن صَخرا ً كان، الزمان الأغبر،
وكان معاوية، القائل الفاعل.
فقيل لها : أي منهما كان أسنى، وأفخر ؟
فأجابتهم :
إن َّ صَخرا ً حر ُّ .. الشتاء.
ومعاوية برد .. الهواء.
قيل لها : أيهما أوجّٓع، وأفجّٓع ؟
فقالت : أما صخر، فجمر ُ .. الكبد.
وأما معاوية، فَسِقام .. الجسد.
وقد اعتبر فحول الشعراء، من الذين عاصروها، ومن الذين، أتوا من بعدها إن موت صخر بن عمرو ابن الشريد، هو تاريخ كشف للعرب ميلاد شاعرة، من بني سليم.
وتقول الخنساء : انا أعظم العرب مُصِيبَة.
فيقّر لها الناس في ذلك،
كما أقرّوا لابيها، حين فاخر، بابنيه.
قصتها مع الشاعرة هند بنت عتبة :
بعد موقعة بدر، ومقتل أبا هند، عتبه وشيبة ابناء ربيعة، والوليد بن عتبة، أقبلَّت، هند، بنت عتبة، ترثيهم ..
وبلغها ان الخنساء في الموسم، عاظمت العرب بمصيبتها، بابيها واخويها.
فقالت هند : بل انا أعظم العرب، مصيبة.
وأمرت ان ترجع الى عكاظ، حتى تلتقي بالخنساء.
لمّا تقدمت ..
سألتها الخنساء، من انت يا أُختاه ؟
أجابتها، انا هند بنت عُتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني انك تعاظمين العرب، بمصيبتك.
في ما تعاظمينهم انت ؟
قالت الخنساء، بابي عمر الشريد، واخي صَخرا ً، واخي معاوية.
وبدأت هند تلقي قصيدتها في رثاء قتلاها.
وهكذا فعلت الخنساء.
كيف كانت نظرة فحول الشعراء المعاصرين، للخنساء ؟
أجمع أهل العلم بالشعر، أنه لم تكن امرأة قبلها، ولا بعدها أشعر منها، أنشدت، في سوق عكاظ بين يدي النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت رائيتها التي رثت بها صخر :
أُعجِب بشعرها، النابغة الذبياني، وقال :
إذهبي، فأنت أشعر من كل ذات ثديين ..
ولولا أن هذا الأعمى (كنية الأعشى الأكبر) أبا بصير أنشدني قبلك، لفضّلتك على شعراء هذا الموسم.
وفي رواية اخرى انه قال :
لولا ان هذا الاعمى سبقك، لقلت انك أشعر الجن، والإنس.
فغضب حسان بن ثابت، وقال :
والله انا اشعر منك، ومنها.
كان بشار ابن برد يقول :
إنه لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه ضعف،
فقيل له : وهل الخنساء كذلك، فقال :
تلك التي غلبَّت الرجال.
سئل جرير، عن أشعر الناس فـأجابهم :
أنا، لولا الخنساء،
قيل : فيم فضل شعرها عنك ؟
قال :
بقولها :
إن الزمان وما يفنى له عجب أبقى لنا ذنبا ً واستؤصل الرأس.
روي في السيرة النبوية، إعجاب الرسول ( صلى الله عليه وَسَلَّم )، بشعرها واستزادته من انشادها وهو يقول : هيَّه يا خُناس، ويومي بيده .
وروي ايضا ً، انه وفد عدي بن حاتم الطائي على الرسول، مبايعا ً على رأس قومه بني طيء.
فقال : يا رسول الله :
إن َّ فينا أشعر الناس،
وأسخى الناس،
وأفرس الناس،
فلما سأله الرسول، أن يسميهم أجاب :
أما أشعر الناس، فامرؤ القيس بن حجر،
وأما أسخى الناس، فحاتم بن سعد (يعني أباه)،
وأما أفرس الناس، فعمرو بن معدي كرب .
فقال الرسول :
ليس كما قلت يا عدّي :
أما أشعر الناس، فالخنساء بنت عمرو،
وأما أسخى الناس، فمحمد،
وأما أفرس الناس، لعلي بن أبي طالب.
ماتت الخنساء، سنة 24 هـ/645م.
كان موتها، في عامها الحادي والسبعين.
طبقت شهرتها الآفاق، إن لم يكن ببكائها على سادّات من بني مضر فباستشهاد بنيها الأربعة.
ماتّت ومعها شاهد، تضمن به تسجيل يوم موتها، ولا يعتمد فيه على الروايات، وإنما اعتمد فيه سجلات الدولة المدوّن فيها اسمها، لتستلم أرزاق بنيها الشهداء الأربعة من ديوان بيت المال، وكان عمر، قد قدر لها عن كل واحد مائتي درهم، إلى أن مات عمر.
فيصل المصري
٨ شباط ٢٠١٧
أُورلاندو / فلوريدا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق