الغناء، والطرَّب ... عند العرب
دراسة تاريخية،
عن أصول الغناء، والطرَّب عند العرب.
إختياري لهذا الموضوع اليوم، له أسباب وجيهة، أهمها :
-/ سئم الانسان العربي أخبار المجد ألتليد، والفخر العنيد، لانه اليوم يُعاصر، ويُعايش، الخيبَّة، وبئس المصير.
-/ ومل َّ أيضا ً، تلاوة بُطولات الاجداد، والفتوحات شرقا ً وغربا ً، لانه بات في عداد المنهزمين، والمتخاذلين، والمقوقعين، في دهاليز التزمَّت، والتقليد، والتكفير، وما الى ذلك من تعابير جعلته يَكْفُرْ، بكل ما في الكلمة من معنى.
-/ وكَرِه َ ان نذكِّره بان السلف الصالح الذي ضرب وتدا ً في الرمال وأقام خيمته، وأضرم النار أمامها، ليقتفي ضوءها كل عابر سبيل مُحتاج، لانه يشاهد أُولّي أمره، يُمعنون في القصور فخامة ً، ويوصدون أبوابهم امام كل محتاج، او طالب صدقَّة.
وسأكتب اليوم ما يُسِّر الخاطر، ويُفرح القلوب، ويُثلج الصدور، في الغناء والطرَّب، عند العرب، على مدى العصور ..
في الجاهلية ..
وما قبلها ..
وما بعدها ..
في العصرين الأموي، والعباسي.
إعتمّدت في بحثي هذا، على عدة ينابيع، أهمها كتابيّن حملا أعذب الأخبار، وأحلى القصص، وهما :
-/ كتاب، العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، ٣٢٨ هجرية.
-/ وكتاب، الأغاني لابي فرج الأصفهاني.
وقد توّسعت، في وصف، وشرح هذين الكتابين، حتى أوفّر على كل طالب، أراد الإستزادة، والإستفادة من تاريخ الغناء، والطرَّب عند العرب، ان يذهب مباشرة الى هذين المصدرين، ولا يُتعِب نفسه مشقَّات البحث، والتقصِّي.
كما وإني سأُشير، وأذكر بعض الكتُّب المهمة، التي أتَّت على ذكر الغناء والطرَّب.
اولا : العقد الفريد.
يشتهر هذا الكتاب، في انه يُعتبر، من أُمهات كتُّب الأدب العربي، لانه يشتمل على اخبار، وأمثال، وحِكَّم، ومواعظ، وأشعار، وقد سُمي بالعقد، لان ابن عبد ربه ...
قَسَّمه الى أبواب، او كتُّب ..
حمل كل منها، حجرا ً كريما ً كالمرجان، والزبرجد، واللؤلؤ، وغير ذلك من احجار ثمينة، تُصلح، لان تكون عقدا ً تلبسه، اجمل مليحات العرب، في ذاك الزمن.
وقد ورد في فصل الياقوتة الثانية ..
كلام عن علم الألحان، واختلاف الناس فيه.
ومع ان ابن عبد ربه، أندلسِّي ..
إلا انه اخبرنا في كتابه الكثير عن أهل الشرق العربي ..
حتى قيل ان الصاحب ابن عُبَّاد، الوزير والأديب، المشهور، انه لما علم بوجود هذا الكتاب، دفع الغالي، والثمين، للاستحصال عليه ..
ولمّا وصلّه، قال كلمته المشهورة :
هذه بضاعتنا .. رُدَّت ْ إلينا.
وقال إبن خلِّكان في كتابه، كشف الظنون ..
أن هذا الكتاب ( العقد الفريد ) مُمْتِّع، لانه إحتوى على كل، نفيس.
ثانيا ً : كتاب الأغاني، لابي فرج الأصفهاني.
هو مصدر مهم جدا ً لهذا البحث.
بقي ابي فرج ٥٠ عاماً حتى أَكْمٓل هذا الكتاب ..
وقد أهدَّاه الى سيف الدولة الحمداني، صاحب حلب ( اليوم ). واعطاه ١٠٠٠ دينار، مكرمَّة.
وقد أُنتقد سيف الدولة على قِلِّة عطائه، لان قيمة هذا الكتاب، تفوق ١٠٠٠ دينار.
وبالفعل وردّت بعض الروايات التي تقول ..
ان أبِّي الفرّج الأصفهاني، كان يقوم بإضافات على هذا الكتاب، ليخلع عليه بعض الأمراء والحكّام، مبالغ إضافية.
لماذا سُمي الكتاب بالأغاني ؟؟
لان هذا الكتاب لم يترك خبرا ً، او قصة إلا وذكرها، او ألمح اليها كما قيل عن ان الخليفة هارون الرشيد، كان يعشق الغناء والطرَّب، الى جانب خِصال حميدة إمتاز بها كحبِّه، للأدب العربي والفروسية، والكرَّم، وغيرها من صفات الرجولة، كالفتوحات التي رافقت هذا الخليفة طيلة حياته ..
وقد ذُكِر، ان هارون الرشيد في كل حقل كان، سباقا ً ورائدا ً، وقد إمتلأت الكتُّب اخباره، وهواياته، ومغامراته، وقصصه.
في صفة عشقه، للأغاني ..
ورد ان في بلاط هارون الرشيد، مغني مشهور إسمه ابراهيم الموصلي ..
طلب اليه هارون الرشيد ان يُغنّي ١٠٠ أغنية جديدة، فضلا عن ألحان، وأغان، كتبها شعراء بالعصر الجاهلي، والصدّر الاول من العصر الأموي.
ولم يستثني كتاب الأغاني، الاخبار الممتعة، والمشوّقة، والمسليَّة، عن المغنين والشعراء.
وقد إعتّبر ابن خلدون كتاب الأغاني ...
انه أيّة حُب ْ ابي الفرج، لقومه العرب، لانه ذكر اسماء المغنين، وأسماء الشعراء، وجميع أبيات شعرهم.
ويقال ايضا ً ...
ان الأديب والوزير، الصاحب بن عُبَّاد، لم يكن يفارقه هذا الكتاب ..
لانه كما إستحصَّل على كتاب العقد الفريد، إستحصَّل ايضا ً على هذا الكتاب.
ومن اخبار هذا الوزير، انه كان يحمل معه في حلِّه، وترحاله حِمْل ٓ ٣٠ جملا ً من الكتُّب ..
فلما إستحصَّل على كتاب الأغاني، إكتفى به.
ثالثا ً : المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر.
هو كتاب في التاريخ، يبدأ بالخليقة، وينتهي بعهد الخليفة العباسي المطيع لله ٩٧٣ م.
وقد سمّاه المسعودي، مروج الذهب، لنفاسَّة ما حوّاه، وجعله تحفَّة الإشراف لما تضّمنه من جمل تدعو الحاجة اليه، لانه اختصر كتابان له، في هذا الكتاب ..
وقد ضمنَّه، بعض الأخبار، والقصص عن الغناء والطرب.
رابعا ً : الفهرست، لصاحبه ابي الفرج محمد بن اسحق النديم. ويطلق عليه إبن النديم، اختصارا ً.
في هذا الكتاب، جمع ابن النديم، كتب الأديان والفقه، والقانون، والشعراء، والمغنين، والعلماء، والمفكرين.
خامسا ً : في الغناء، والطرَّب عند العرب.
إختلفَّت ضروب الغناء في الجاهلية ..
منه، الحِدّاء ..
والإنشاد، في الأفراح والمآتم.
ويعتبر الحِدَّاء أقدم انواع الغناء إذ إعتبرّه المسعودي، انه جاء من أسطورة، بان أعرابي سقط من على جملِّه، فانكسرت يده ..
فجعل يقول : يا يداه ... يا يداه، وكان صوته جميلا ً فإتخذه العرب حداء ً يرجز الشعر، وسمّوه، الرجز وهو اول بحور الشعر وأبسطها.
وقد إستعمل عرب الجاهلية ...
الدّٓف، والقصبه، والزمر او المِزمار ..
وقد ورد ذِكْر هذه الآلات الموسيقية، في الأغاني لابي فرج الأصفهاني، والعقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي.
عرف اللخميُّون، من أهل الحيرة، العود الذي استعاره منهم أهل الحجاز، ويقول المسعودي، ان النضر ابن الحارث ابن كلده، الطبيب الشاعر، هو الذي ادخل العود الى مكّه، من الحيره ..
أما الناي قد أُستعير، وهو اسم فارسي الى الجزيرة العربية.
وقد عدَّد صاحب الأغاني ابو الفرج الأصفهاني، أسماء النساء المغنيات، في الجاهليه ..
وأضاف ان اول الرجال الذين احترفوا الغناء، هو طويس، وقد حنىَّ يديه وقيل، انه غنّى بالمدينة، بعد ظهور الاسلام ...
وقد عُد َّ، أبا الغناء في الاسلام ..
اما في العصر الاسلامي، فقد عُرف طويس ومن تلامذته إبن سريج، الذي ورد عنه في كتاب الأغاني ..
أن، إبن سريج كان يحمل قضيبا ً لإرشاد الضاربين على آلات الموسيقية، في الحفلات الرسمية التي يديرها، المايسترو اليوم، وقيل انه من أصل تركي، وكان موّلى لسكينة بنت الحسين.
وهناك أيضا ً سعيد ابن مسجح المكّي، الأسود اللون الذي يُعَّد اول موسيقي ظهر في مكّه، ولعله اعظم من غنّى في العصر الأموي، وقيل انه إفتبس، ألحانا ً فارسية، ورومية، ونقلها الى غناء العرب، ويعتبر، اول من نظّم الموسيقى العربية، في ناحيتيها النظرية، والعملية،
اما المغني الاخر، فهو إبن محرز، يقال انه صناج العرب.
وقد ورد في الأغاني، أيضا ً اسم المغني معبد، وكان خلاسيا ً.
اما المغنية حُبابَّة، وهي من القيّان الجميلات، وقد تزّعمت الغناء مع المغنية سلامه، محظّيتا، الخليفة الأموي يزيد.
ويقال ان حُبابَّة، خرجت يوما ً الى مكّه، يرافقها حُذَّاق المغنين، والمغنيات، وجماعة من الشعراء، والإشراف، وغيرهم من الرجال، والنساء المعجبين بها، يُشَّيعونها، او يحجُّون، معها ...
وقد ركبوا على الإبل في الهوادج، والقباب، وتخايروا في اتخاذ انواع اللباس العجيب، الظريف، فما إن أشرفت على مكَّة، حتى خرج الناس رجالا ً، ونساء ً ينظرون الى جمعها، وحُسْن هيئتهم، حتى قضت حجَّها، فعادت، وعاد معها جمع ٌ اكثر من جمعها ..
فتلَّقاها، أهل المدينة، ودخلَّت بموكب أحسن مما خرجت به ..
وتوافد عليها الناس مُسَّلمين لا يستنكف من ذلك كبير، ولا صغير ..
( يراجع تفصيلات إضافية عن حبابَّة، في الأغاني ).
اما حفلات الموسيقى، كانت تقام في منازل سيدَّات الطبقات الأرستقراطية ..
وقد ذكر صاحب الأغاني، ان سُكينة بنت الحُسَيْن، استقبلت يوما، عميد المغنين في العراق، حنين الحيري النصراني، وسمحت للناس دخول دارها في المدينة ولم يُرَ يوم اكثر حشرا ً، وصعدوا فوق السطوح ليسمعوا صوته، فسقط الرواق عليه، ومات حنين ..
اما الوصف المثير، الذي أورده صاحب الأغاني، هو ما قاله عن الشاعر عمر أبن ابي ربيعة، في موكبه للحج، إذ خرج عمر في أحسن هيئة، ومعه مغنيه ابن سريج، وجعل يتعرَّض، لمن يرى من الحسان، حتى امسُّوا فرفع ابن سريج صوته، يغني في شعر قاله عمر فسمعه الركبان وجعلوا يصيحون فيه ..
( يا صاحب الصوت أما تتقِّي الله قد حبست الناس عن مناسكهم ).
كانت مكانة الموسيقى في ذلك العصر ..
قريبة للقلوب، وأعظم من ان تقاوم، لا سيما ان أرباب الموسيقى أنفسهم كانوا يستندون الى احاديث نبوية تدعّهم يغنّون.
وقد ذكر الغزالي في كتابه، إحياء علوم الدين، الأحاديث النبوية التي إستند اليها هؤلاء.
كما وان صاحب العقد الفريد، أشار الى ان الشعر والموسيقى، والغناء، ليس من الضروري ان تحِّط من قدر الانسان، بل ان لها قسطاً من التأثير في تهذيب النفس، إذ تبعث ُ على مكارم الأخلاق، والتجاوز عن الذنوب.
ويقول المسعودي ..
انه ما إن جاء اخر العصر الأموي، حتى كان حب الغناء، قد سرى في نفوس الخاصة، والعامة فإتخذ العباسيون، ذلك الامر سلاحاً ضد خصومهم الأمويين وقاموا ينشرون دعوتهم ويتوعدون ( أعداء الله ).
اما الموسيقى في العصر العباسي ...
بالرغم من استنكار اصحاب الشرع لها ..
لم تتأثر دمشق ولا تأثرت بغداد ..
بل بدأ الفن حيث انتهى خلفاء بنو أمية، وأول الخلفاء العباسيين الذين إهتموا بهذا الفن، هو المهدي الذي احضر المغني سياطا ً المكّي، صاحب الصوت الشجي الذي قيل في صوته :
( ادفأ للمقرور من حمَّام مُحَمَّى ).
ثم أُحضر أيضاً المغني ابراهيم الموصلي ..
ويقول صاحب العقد الفريد، انه أيضا ً إستعمل القضيب، لتركيز إيقاع الموسيقى، وانه كان لو خرجت اليه ثلاثون جارية يضربن في الأوتار، اذا شذَّت إحداهُّن، يشير اليها شدِّي مثناك فتشِّده، وتستوي الأوتار.
لما جاء هارون الرشيد ..
كان بلاطه يفوق الوصف في الأبهة والأناقة، وقد أخذ يرعى الموسيقى وقد زها في ظله نفر ٌ من أقطاب الموسيقى، حيث أُجريت عليهم الأرزاق، بكثرة.
وتركت هذه الفئة من أهل الفن، اثارا ً ادبية خالدة من قصص الغناء في الكتُّب كما نرى في الأغاني، والعقد الفريد، والفهرست، ونهاية الأرب، وفوق هذا كله، كتاب الف ليلة وليلة.
وقد روي ..
أنه في عهد هارون الرشيد، أقيم مهرجان ضخم للموسيقى إشترك فيه ألفان، من المغنّين والمغنّيات.
اما المُغَّنين، في ايام هارون الرشيد، غير ابراهيم الموصلي ..
كان إسمه مخارق ..
الذي إن غنّى يُبكي الحاضرين.
كذلك، زها في ايام المأمون ..
إسحاق ابن ابراهيم الموصلي عميد أهل الموسيقى في عصره، وتمثَّلت فيه روح الموسيقى العربية الكلاسيكية ..
وقد أعتبر ابن خلكان ..
ان إسحاق هو اعظم من أنجبهم الاسلام في هذا الفن ..
وقد إدّعى اسحق كما ادعى ابوه من قبل ..
وكما إدّعى زرياب، من بعدهما ..
إن الجِّن كانت تُلهمهُّم الألحان.
وقد فاق بنو العباس في بغداد، بنو أمية في دمشق، في مضمار حُبِّهم للغناء والطرب ..
وقد قيل، انه نبغ ابراهيم ابن المهدي، ( اخو الرشيد ) في هذا الفن، أما الواثق، كان يضرب على العود، وقد صنع مئة صوت.
اما الخليفة الذي برع في الموسيقى، هو المعتمد الذي ألقى في حضرته الجغرافي الشهير، ابن خرداذبه خطبة في الموسيقى والرقص، تُعّد ُ من الأصول إلهامة، التي بين أيدينا عن حالة هذين الفنين في ذلك العصر.
اخيرا ً ...
إن كتاب الأغاني لأبو الفرج الأصفهاني ...
يُعَّد من اهم الذخائر، في وصف النواحي الاجتماعية، عند العرب ..
وهو الى جانب ذلك، تاريخ مفصَّل للموسيقى منذ ايام الجاهلية الى ايام الأصفهاني ..
وقد أُعتبر الأصفهاني، أعظم مؤرخ للموسيقى، أنجبته العرب، قاطبة ً.
فيصل المصري
أُورلاندو / فلوريدا
٢٣ كانون الثاني ٢٠١٧
0 comments: