في الغناء والطرب
عبر التاريخ العربي
قال لي أحد الأصدقاء منذ فتره، ان اللغة التي يحبها قارئ اليوم هي الفن بجميع ألوانه، والحب بجميع أصوله وفروعه.
وقد تبين لي أن هذا الصديق معه الحق
لأن قارئ اليوم :
سئم اخبار المجد التليد، لانه يعاصر ويعايش الخيبة وبئس المصير.
وملَّ أيضاً تلاوة بطولات الفتوحات شرقاً وغرباً، لانه بات في عداد المنهزمين والمتخاذلين والمقوقعين في دهاليز التزمّت والتقليد.
وكره ان نذّكره بان السلف الصالح الذي ضرب وتداً في الرمال وأقام خيمته، وأضرم النار أمامها ليقتفي ضوءها كل عابر سبيل محتاج، وهو يشاهد أُولي أمره يمعنون في القصور فخامةً، وفي اقتناء الأثاث ما ندر.
وهو صابر عنيد.
وسأكتب اليوم ما يسّر الخاطر، ويفرح القلوب، ويثلج الصدور !! في الغناء والطرب على مدى العصور !!
اختلفت ضروب الغناء في الجاهلية فمنه الحداء والانشاد في الأفراح والمآتم. ويعتبر الحداء أقدم انواع الغناء إذ اعتبره المسعودي انه جاء من اسطوره بان أعرابي سقط من على جمله فانكسرت يده فجعل يقول ( يا يداه ... يا يداه ! ) وكان صوته جميلا ًفاتخذه العرب حداءً يرجز الشعر وسموه ( الرجز ) وهو اول بحور الشعر وأبسطها.
وقد استعمل عرب الجاهلية الدف والقصبه والزمر او المزمار، وقد ورد ذكر هذه الآلات الموسيقية في الأغاني والعقد الفريد.
عرف اللخميون من أهل الحيرة العود الذي استعاره منهم أهل الحجاز، ويقول المسعودي ان النضر ابن الحارث ابن كلده
الطبيب الشاعر هو الذي ادخل العود الى مكه من الحيره. وقد استعير الناي وهو اسم فارسي الى الجزيرة العربية.
أما صاحب الأغاني ابو الفرج الاصبهاني عدّداسماء النساء المغنيات، في الجاهليه، وأضاف ان اول الرجال الذين احترفوا الغناء طويس وقد حنىّ يديه وقيل انه غنّى بالمدينة بعد ظهور الدين الجديد، وقد عُدّ أبا الغناء في الاسلام.
اما في العصر الاسلامي فقد عُرف طويس ومن تلامذته ابن سريج، الذي ورد عنه في كتاب الأغاني انه كان يحمل قضيباً لإرشاد الضاربين على آلات الموسيقية في الحفلات الرسمية التي يديرها ( المايسترو اليوم ) وقيل انه من أصل تركي وكان مولى لسكينة بنت الحسين.
وهناك أيضاً سعيد ابن مسجح المكي الأسود اللون الذي يعد اول موسيقي ظهر في مكه ولعله اعظم من غنّى في العصر الأموي وقيل انه اقتبس ألحاناً فارسية ورومية ونقلها الى غناء العرب. ويعتبر انه اول من نظم الموسيقى العربية في ناحيتها النظرية والعملية،
اما المغني الاخر فهو ابن محرز يقال انه صناج العرب، وقد ورد في الأغاني أيضاً اسم المغني معبد وكان خلاسياً.
اما المغنية حبابة وهي من القيان الجميلات وقد تزعمت الغناء مع المغنية سلامه محظيتا الخليفة الأموي يزيد.
ويقال ان حبابة خرجت يوماً الى مكه يرافقها حذاق المغنين والمغنيات وجماعة من الشعراء والإشراف وغيرهم من الرجال والنساء المعجبين بها يشيعونها او يحجّون معها وقد ركبوا على الإبل في الهوادج والقباب وتخايروا في اتخاذ انواع اللباس العجيب الظريف، فما إن أشرفت على مكه حتى خرج الناس رجالا ً ونساءً ينظرون الى جمعها وحسن هيئتهم حتى قضت حجّها فعادت وعاد معها جمع اكثر من جمعها فتلقاها أهل المدينة ودخلت بموكب أحسن مما خرجت به وتوافد عليها الناس مسلّمين لا يستنكف من ذلك كبير ولا صغير ( يراجع تفصيلات إضافية عن حبابه في الأغاني ).
اما حفلات الموسيقى كانت تقام في منازل سيدات الطبقات الأرستقراطية، وقد ذكر صاحب الأغاني ان سكينة بنت الحسين، استقبلت يوما عميد المغنين في العراق حنين الحيري النصراني وسمحت للناس دخول دارها في المدينة ولم يُرَ يوم اكثر حشراً وصعدوا فوق السطوح ليسمعوا صوته فسقط الرواق عليه ومات حنين.
اما الوصف المثير الذي أورده صاحب الأغاني هو ما قاله عن الشاعر عمر أبن ابي ربيعة في موكبه للحج إذ خرج عمر في أحسن هيئة ومعه مغنيه ابن سريج وجعل يتعرض لمن يرى من الحسان حتى امسوا فرفع ابن سريج صوته يغني في شعر قاله عمر فسمعه الركبان وجعلوا يصيحون فيه ( يا صاحب الصوت اما تتقي الله قد حبست الناس عن مناسكهم )
كانت مكانة الموسيقى في ذلك العصر قريبة للقلوب وأعظم من ان تقاوم، لا سيما ان أرباب الموسيقى أنفسهم كانوا يستندون الى احاديث نبوية تدعهم،
وقد ذكر الغزالي في كتابه احياء علوم الدين الأحاديث النبوية التي استند اليها هؤلاء.
كما وان صاحب العقد الفريد أشار الى ان الشعر والموسيقى والغناء ليس من الضروري ان تحط من قدر الانسان بل ان لها قسطاً من التأثير في تهذيب النفس إذ تبعث على مكارم الأخلاق والتجاوز عن الذنوب.
ويقول المسعودي انه ما إن جاء اخر العصر الأموي حتى كان حب الغناء قد سرى في نفوس الخاصة والعامة فاتخذ العباسيون ذلك الامر سلاحاً ضد خصومهم الأمويين وقاموا ينشرون دعوتهم ويتوعدون ( أعداء الله )
اما الموسيقى في العصر العباسي بالرغم من استنكار اصحاب الشرع لها، لم تتأثر دمشق ولا تأثرت بغداد، بل بدأ الفن حيث انتهى خلفاء بنو أمية وأول الخلفاء العباسيين الذين اهتموا بهذا الفن هو المهدي الذي احضر المغني سياطاً المكي صاحب الصوت الشجي الذي قيل في صوته ( ادفأ للمقرور من حمّام محّمى )
ثم احضر أيضاً المغني ابراهيم الموصلي، ويقول صاحب العقد الفريد انه أيضاً استعمل القضيب لتركيز إيقاع الموسيقى وانه كان لو خرجت اليه ثلاثون جارية يضربن في الأوتار اذا شذّت إحداهّن يشير اليها شدّي مثناك فتشّده، وتستوي الأوتار.
لما جاء هارون الرشيد كان بلاطه يفوق الوصف في الأبهة والأناقة وقد أخذ يرعى الموسيقى وقد زها في ظله نفر من أقطاب الموسيقى حيث اجريت عليهم الأرزاق، بكثرة.
وتركت هذه الفئة من أهل الفن اثاراً ادبية خالدة من قصص الغناء في الكتب كما نرى في الأغاني والعقد الفريد والفهرست ونهاية الأرب وفوق هذا كله كتاب الف ليلة وليلة.
وقد روي انه في عهد هارون الرشيد أقيم مهرجان ضخم للموسيقى اشترك فيه ألفان من المغنين والمغنيات.
اما المغنين في ايام هارون الرشيد غير ابراهيم الموصلي، مخارق الذي إن غنّى يُبكي الحاضرين،
كذلك زها في ايام المأمون إسحاق ابن ابراهيم الموصلي عميد أهل الموسيقى في عصره وتمثلت فيه روح الموسيقى العربية الكلاسيكية وقد أعتبر ابن خلكان ان إسحاق هو اعظم من أنجبهم الاسلام في هذا الفن، وقد أدعى اسحق كما ادعى ابوه من قبل وكما ادعى زرياب من بعد ان الجن كانت تلهمه الألحان.
وقد فاق بنو العباس في بغداد بني أمية في دمشق، فقد نبغ ابراهيم ابن المهدي
( اخو الرشيد ) اما الواثق كان يضرب على العود وقد صنع مئة صوت، اما الخليفة الذي برع في الموسيقى هو المعتمد الذي ألقى في حضرته الجغرافي الشهير ابن خرداذبه خطبة في الموسيقى والرقص تعد من الأصول إلهامه التي بين أيدينا عن حالة هذين الفنين في ذلك العصر.
اخيراً
إن كتاب الأغاني لأبو الفرج الاصبهاني يعد من اهم الذخائر عن النواحي الاجتماعية عند العرب وهو الى جانب ذلك تاريخ مفصل للموسيقى منذ ايام الجاهلية الى ايام الاصبهاني الذي يعد اعظم مؤرخ للموسيقى أنجبته العرب قاطبةً.
اورلاندو في ٩ حزيران ٢٠١٤
فيصل المصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق