قِصَّة كراون دايسي وكريستل.
تأليف فيصل المصري.
من ٨ أجزاء.
و ٢٢ فصلاً.
طبعة أولى حزيران ٢٠١٨م.
تعريف :
كراون دايسي وكريستل هي قِصَّة من واقع الحياة وليست أُسطورة كشقيقتها ( إمرأة الوادي المُقَدَّس ) فهي تُقارب الحقيقة وتُصلح أن تكون سيرة ذاتية للعديد من الْقُرَّاء.
( كراون دايسي ) هي زهرة بريَّة تنمو في جبال لبنان وهضابه وسهوله ويُطلق عليها باللغة العربية أُقحوان إكليلي برِّي .
أمَّا ( كريستل ) فهو إسم الغنج والدلال أو ( الدلع ) لبطلة هذه الرواية.
أحداث هذه القُصَّة حصلت في إحدى جامعات لبنان في أواخر ستينيات القرن الماضي، ومعظم أحداث هذه القصَّة حقيقيَّة، مع تعديلات أجراها الكاتب لزوم السرد القصصي.
واسم الدلع ( كريستل ) مُشتقّ من حجرة الكريستال المشهور بصناعتها معمل ( شواروفسكي ) العالمي.
الجزء الأوَّل.
الفصل الأوَّل.
أحداث هذه القصَّة حدثت في حَرَم إحدى جامعات لبنان في أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث كانت أروقة وقاعات إحدى الكليَّات مسرحاً ومكاناً لهذه الرواية.
كانت الجامعات اللبنانية في ذلك الوقت من الزمن أرضاً وحقلاً خصبة للأفكار التحرريَّة، في عالم عربي مُدلهِمّ ومُكْفهِّر، مُدجَّج بعقليَّة حُكَّام تعود إلى أزمنة تخلُّف وتقهقُر فكري ومعنوي.
كانت عقليَّة شباب ذلك الزمن تنحو إلى تطلُّعات مستقبليَّة زاخرة بالأحلام وزاهية بطُموحات تصل إلى حدود السماء، بعد أن ظنُّوا واهمين أنَّ الاستقلال من نير الاستعمار الفرنسي هو طريق الخلاص، والبدء بالسير في درب تكافؤ الفرص وتطبيق مبدأ سيادة القانون.
من بين شباب وشابات الجامعة، التقى شاب بإحدى الشابات :
هو …
يعود في أصله وفصله، إلى عائلة معروفة بين الأهل، وقد جار الزمن على جَدَّ هذه العائلة، بأن رزح تحت وطأة نكبة الحرير، والمادة الجديدة للنايلون المبتكرة، حيث تمَّ إغراق الاسواق العالميَّة بالنايلون وإغلاق معامل الحرير في طول البلاد وعرضها، فبيعت الاراضي وحُجزت الأملاك تسديداً للديون.
أمَّا هي …
فإنَّها تنحدر من أُسرة ثريَّة يرافقها ويُصاحبها نُفوذ واسع، ونُبلٌ في التعاطي وعفوٌ عند المقدرة.
كانت هي …
إن دَخَلت الجامعة، لا يُدرك أي شاب أو شابة من رفاقها، مدى الثراء الذي تتمتَّع به، ووفرة النعيم الذي تعيش فيه، لأنَّ تواضعها ينسحب إلى ملبسها ودماثة خُلقها، وكانت إن خرجت تسير سيراً إلى محطة توقُّف حافلة الركاب ومن ثم تختفي.
تشابكت وتقاطعت النظرَات، ما بين هذا الشاب وتلك الفتاة. كان يُلفتها جدِّيته واجتهاده وانكبابه على الدرس والمطالعة في مكتبة الجامعة.
أمَّا هو …
فقد أذهله انكبابها على تدوير زوايا الخلاف فيما بين زملاء الصف، فإن إختلفوا على الجلوس في الصف الأمامي كانت تُعطي مكانها، فينفضُّ النزاع خجلاً منها.
ذات يوم، لم تاتِ إلى الجامعة كعادتها، وتكرَّر الغياب لأكثر من أسبوع، أفتقدها الطلاب والأساتذة، حتى أنَّ أحد الأساتذة سأل :
هل يعلم أحد منكم عن سبب غياب زميلتكم ؟
ساد الوجوم والصمت قاعة المحاضرات، وأضاف المُحاضر عجيب أمركم، تحلمون ببناء شركات في مخيَّلاتكم، وتتراكضون نحو سراب المستقبل، ولا تفكرون حتى برفاق الدرب الطويل، ولا تعلمون ولا تعرفون من أنتم.
إنتهت المحاضرة، وتدافع الطلاب للخروج إلَّا هو ...
بقي على كرسيه يُفكر بملاحظة المُحاضر، وبدأت الأفكار تأخذه كيف السبيل للوصول إلى عنوان سكنها أو حتى رقم هاتفها.
لم يطل الأمر كثيراً، وبينما هو شارد الفكر وإذ بصوت أحد زملائه يناديه قائلا :
في الباب ثمَّة شخص يسأل عنك.
نظر إلى هذا الشخص واستغرب فهو لا يعرفه.
تقدَّم الشاب إليه وقال له :
أنا شقيق زميلتك في الدراسة، وهي مريضة طريحة الفراش، لذلك ترجو منك أن تُرسل لها المحاضرات التي أُلقيت في غيابها، وقالت لي إذا سألك لماذا ( أنا ) أجبه فوراً بأنِّي أعرف أنَّك من الطلاب الأنشط والأذكى في الدورة.
أيَّام مرَّت قبل أن تعود وتتعافى زميلته إلى الجامعة، لكنَّها كانت ضعيفة، مُنهكة شاحبة الوجه ومُتعبة.
تقدَّمت منه وشكرته على المحاضرات، وسألته إن كان لديه بعض الوقت، لأنَّها عجزت عن فهم بعض ما جاء فيها.
كعادته دخل معها مكتبة الجامعة وسألها لماذا أتيت وآثار المرض لا زال بادياً عليكِ، وعرض عليها أن يستمر في إرسال المحاضرات بشكل يومي، ومن فرط شفقته الممزوجة بالاهتمام على صحتها، عرض عليها أن يزورها طبيب عائلته القادم لتَوِّه من أميركا من دون مقابل.
استغربت هذا الاهتمام الممزوج بعاطفة قلَّ نظيرها، وأدركت في تلك اللحظة أنَّه لا يعرف مدى الغنى والترَّف الذين تنعم بهما.
أبدت جزيل شكرها، وقالت له قد أستعين بك في حال لم تتحسَّن ظروفي الصحيَّة.
في تلك اللحظة لمعت في مخيلتها أن تُبقي هذا الصديق الجديد، في جهله المُطَبق لوضعها المادي، وشعرت أنَّ هذا الإهتمام بشخصها يُثير إعجابها، بالإضافة إلى إدراكها أنَّه مُتمكِّن في الدراسة.
في المكتبة …
وضعت أمامها أحد الْكُتُب، وكانت عندما تُشير وتُقلِّب صفحاته تقوم بسحب زهرة من كل صفحة، تُرِيد إستفساراً أو توضيحاً، وتكرَّر ذلك في الكتاب الثاني والثالث، وكانت تنزع الأزهار ثم تُعيدها إلى الصفحة ذاتها.
في المكتبة طال الشرح والتفسير، لكن تبيَّن له أنَّها أجهدت نفسها كثيراً فقال لها :
سنكتفي بهذا القدر اليوم، وغداً نُكمل إن إحتجت تفسيراً.
وعندما همَّت بالانصراف، استمهلها وسألها :
هل تستعملين هذا النوع من الأزهار كعلامة ( ماركر Marker ) بين الصفحات.
أجابت ب نعم.
وأضافت : أُحِب هذه الزهرة إنَّها زهرة بريَّة تعشق الشمس وتُحب الربيع، ومُتمردة لا تهاب الأشواك من حولها، فيها اللون الأصفر هو قلبها، وفيها اللون الأبيض علامة نقاؤها. وتقول الأساطير أنَّها كانت تُستعمل إكليلاً وتاجاً لأجمل النساء.
وتابعت مُتوجِّهة بالسؤال : أنت من الساحل ولا تعرف هذه الزهرة ! وإنَّ إسمها ( زهرة أُقحوان إكليلي ). ثم استدركت، لكن أنا أفضل إسمها باللغة الانكليزية ( كراون دايسي ).
أجابها فوراً : للتوضيح أنا أتحدَّر من الجبل، وأعرف هذه الزهرة تمام المعرفة، لكن لم أُعرها يوماً أي إهتمام، لكن من الأن وصاعداً أعِدك كُلَّمَا أنظر إلى هذه الزهرة … سأتذكَّرك .
علت وجهها ابتسامة ناعمة ...
رسمت خيوطاً حمراء على مُحَيَّاها خجلاً …
فبادرها قائلا :
لقد أشرقت شمسُ وجهكِ، وها أنت تبتسمين ...
لكنَّها ازدادت خجلاً …
وتواعدا إلى غدٍ أخر ...
وودَّعته وبقيت تنظر إليه وهي تسير وهو ينظر إليها، وكأنَّها نسيت معه سِراً لم تقُّله، وكأنَّه نسِي معها سِراً لم يقُله.
الفصل الثاني :
كعادتها حيث تأتي باكراً إلى الجامعة وتجلس في المقاعد الأماميَّة، دخلت وبقيت تشيح بنظرها إلى المقاعد الخلفيَّة لعلَّها تراه.
كانت تنظر إلى ساعتها، بين الفينة والأخرى وتعيد وتكرِّر النظر إلى الوراء إلى أن دخل المُحاضر وبدأ بإلقاء محاضرته.
أمَّا هو، خلافاً لما درج عليه، فإنَّه تأخَّر في الدخول إلى قاعة المحاضرات عمداً، لأنَّه كان يرغب في استرقاق النظر إليها من المقاعد الخلفيَّة، علَّه يُشبع نظره المُتهالك لرؤيتها.
كان ينظر إليها …
فاستدارت فجأة إلى الخلف، وتلاقى نظرهما فابتسمت له وأشار إليها بيده بسرعة فائقة وكأنَّه صيَّادٌ مُحترفْ.
ما إن إنتهت المحاضرة، وعلى غير عادتها، أسرعت في الخروج وكان بانتظارها. ضحكت كثيراً عندما قال لها لا تعتمدي عليَّ في شرح هذه المحاضرة، لأنَّي لم أفهم شيئاً منها، بل يُمكنني أن أُعدِّد المرَّات التي نظرتِ إلى الوراء، وعدد المرَّات التي وقع قلمك على الأرض.
ارتاحت أساريرها وابتسمت، ولمَّا سألته لماذا تأخَّر، ولماذا يبدو مُنهكاً ؟.
أجابها دون تردُّد ...
كان ليلي طويلاً ...
وأرقي مُتعباً ...
وقلقي عليك مُنهكاً ...
فرجوتُ القمر أن يغيب ...
وتضرَّعت للشمس أن تشرق ...
كلُ ذلك .. بسببك !!
وسألها:
كيف حالك أنتِ ...
قالت :
كان ليلي قصيراً ...
لأنَّ النُعاس غلبني ...
واتكأت جفوني على بعضها ...
ونِمت قريرة العين ...
لم يكترث لأنَّها إدعَت ذلك، بدليل أنَّها طلبت منه الدخول إلى كافيتيريا الجامعة، لأنَّ التعب بدأ يجتاحُها ولا يُخَفِّف من وطأته إلَّا القهوة.
في الكافيتيريا وهي ترتشف القهوة، أخرجت من حقيبتها قلم باركر نصفه الأعلى ذهباً ونصفه الآخر لونه أزرق، وقدَّمته هدية له.
رفض إستلام الهدية لأنَّها غالية الثمن، وقال لها عليكِ أن تُنفقي ثمن القلم على صحتك بدلاً من أن تشتري قلماً لن استعمله.
طلب إليها إعادة القلم واسترجاع ثمنه.
وإدراكاً منها بصدقه واهتمامه بصحتها، أخذت القلم وأعادته إلى حقيبتها، وأردفت قائلة :
لم أشترِ القلم فهو لوالدي تركه على طاولته بعد أن استعمله، لكنَّه يبدو جديداً.
كسابقة النوم قريرة العين طوال الليل …
لم يُعِر إدعاء مقولة القلم أنَّه لوالدها أي إهتمام.
كان ذكاؤها حاداً لأنَّها تركته يتخبَّط بافكاره وجهله عن مدى الثراء الذي تتمتَّع به، وهذا بحدِّ ذاته سبباً كافياً للهيام به.
عرض عليها أن يُرافقها إلى محطة توقُّف الحافلة، فشكرته قائلة :
إنَّ والدها سيمرُّ عليها لأخذها إلى المنزل.
افترقا إلى غدٍ أخر، من قِصَّة ستطول.
الفصل الثالث :
كان هذا اليوم عاصفاً ماطراً، وكانت الشوارع المُحيطة بالجامعة تُزمجر أنهاراً وزادت سرعة الرياح عن المألوف.
لم يتحمَّل أن يمُرُّ هذا اليوم دون أن يراها، لأن سُحُب الحب بدأت تتجمَّع في قلبه، والشوق إليها ما لبث أن تسلَّق إلى أسوار عقله، فدلف إلى قاعة المُحاضرات يائساً من طول الانتظار.
دخلت القاعة على عجَلة من أمرها، لم تجول نظرها كثيراً لأنَّه كان على عتبة الباب مُطأطأً رأسه.
ربتت على كتفه وقالت :
ماذا بك ؟
أجابها :
ماذا بكِ أنتِ ؟
لماذا تأخَّرتِ ؟
قالت :
أخذني وقت كبير حتى أصل من محطة الحافلة إلى الجامعة، وأشعر الآن بالبرد القارس. المطر الغزير بلَّل ثيابي والشوارع باتت جداول ماء.
تركها تُكمل وصفها وأشفق عليها. مسك يدها مصافحاً لعلَّه يعطها بعض الدفء، فَذُهِل عندما شعر بأنَّ الدفء
في يدها تماماً. أطبق يده الثانية على يدها فبادرت إلى وضع يدها الأُخرى فوق يده. نظر إلى وجهها وقد غطَّاه الخجل.
فقالت له : ما الأمر … ماذا حصل لك ؟.
قال : خِفت عليك كثيراً! وانتابني القلق لأنَّ موقف الحافلة بعيد عن الجامعة.
ثم أسقط عمداً قلماً وانحنى ليلتقطه، فإذ به يُصاب بالذُهول لأنَّ حذائها الكُحلي اللون، والمخملي النوع لم يتبلَّل بنقطة ماء واحدة. هذا الأمر حفَّزه ليُدقِّق في ملابسها وما إذا كانت مبلَّلة بالماء، فوجدها جافة ولَم تطاولها نقطة مطر.
عادت وسألته : ماذا حصل لك ؟
بقي صامتاً ولم يُجِبْ !
ساد صمت رهيب، لم يقطعه إلَّا خياله الذي انحصر متأملاً نعومة يديها، وطراوة ملمسهما.
شيئ ما نهاه عن تأمله فراح يضرب إخماساً بأسداس !كيف تسير من موقف الحافلة حتى مبنى الجامعة، دون أن تتبلَّل بنقطة ماء ؟
وكيف تقول أنَّ البرد أخذ منها ويديها دافئتان !
لحظات لمعت في مُخيَّلته وكأنَّها سنوات.
تألَّم كثيراً لأنَّه وقع طريح سهم من حب قاتل، أطلقته إمرأة يجهل من هي، ولكنَّه يعرفها.
من إمرأة إحتلت قلبه دون قتال.
من إمرأة تشغُل حياته، وهي ليست من هذه الحياة.
توقَّفت هواجسه ومخاوفه عندما همست في أُذنه وقالت : سأترك القاعة الآن، لأنَّ الأرصاد الجويَّة أعلنت بالأمس أنَّ العاصفة ستشتدُّ بعد ساعات وتصبح أكثر ضراوة، وأنا مضطرَّة للعودة إلى المنزل قبل أن تشتدّ، ولكنِّي وبالرغم من هذا الطقس العاصف، جئت لسبب واحد فقط هو أن ألتقي بكَ !.
زاده الذهول ذهولاً ...
أعطته يدها فانحنى يُقبِّلها، بكفيه.
وقالت : أخبرني لاحقاً عن المحاضرة إن شئت.
تركها تُهرول مسرعة، إلَّا أنَّه تسلَّل خلسة من قاعة المُحاضرات دون أن تراه وتنتبه له.
سار مُسرعاً ووقف أمام نافذة الدرج التي تُشرف على مدخل الجامعة وعلى الطريق العام.
لم يتمالك ذلك المشهد الذي رَآه بأُم العين.
سيارة أميركية فارهة متوقِّفة على باب الجامعة، سائقها يلبسُ بدلة كحلية اللون، ويعتمر على رأسه قُبَّعة وكأنَّه جنرال من جنرالات الوغى، يُسرع في فتح باب السيارة الخلفي لتدخل هي التي كانت معه منذ لحظات !.
أقفل السائق الباب وتراجع هو إلى الوراء، فلمحها من ثاقب نظره وهي تُسرِّح نظرها للأعلى ومن حولها، فاطمأنت أنَّه لم يشاهدها أحد.
كان ذهوله هذه المرَّة أشد من وقع الصاعقة عليه.
لم يدخل قاعة المُحاضرات واجتاحت خياله ذكرياته معها وانتابته الظنون.
ظنَّ أنَّها أقلُّ يُسْراً منه !.
ظنَّ أنَّها أكثرُ صُدقاً منه !.
ظنَّ أنَّها تُحبُّه !.
وعادت ظُنونه وشُكوكه تساوره، بأنَّ لا بد من سبب لهذا الكذب المُتمادي والتكتُّم الشديد عن وضعها المادي.
عاد إلى منزله والسماء تعصف وتسيل أنهاراً من المطر تنهمر عليه دون أن يكترث لها.
لم تبرح من مُخيَّلته ....
الفصل الرابع :
في مساء ذلك النهار الصاخب عاطفةً، والعاصف أجواءً، وإذ بجرس الهاتف يرنّ، ولَم يتوقَّع أبداً أن تكون هي على الجهة المقابلة.
بادرته قائلة :
لن اسألك عن المحاضرة لأنَّها لا تهمُّني بقدر قلقي عليك كيف وصلت إلى المنزل ؟؟
وانهمرت عليه بالاستفسارات …
هل أصابك مكروه … وهل ... وهل ... ؟
إلى ان توقَّفت عن طرح الأسئلة.
أجابها فوراً :
أنا بدوري انتابني القلق عليك، لانَّ تساقط المطر لحظة مغادرتك الجامعة كان من الغزارة بأن تغرقي فيه
أجابته : تبلَّلت ثيابي كثيراً، وتأخَّرت الحافلة، وشعرت بالبرد الشديد ...
أجابها ساخراً ...
كم تمنيت لو كنت معك ...
فقالت مُستغربة : لماذا ؟؟
فأجاب مغازلاً : لأنِّي كنت سأُخبئك تحت معطفي وأدفع عنك المطر والبرد.
قالت له : أتمنى لو تهبُّ عاصفة ثانية حتى ننزل سوياً تحت المطر لأنعم بدفئك ولأتمتع بحمايتك.
فقال لها متسائلاً : هل ما تقولينه هو على سبيل المزاح … أو السخرية ؟.
أجابته : ابداً ... وأعدك بأنَّه إذا طال وقت هبوب العاصفة حتى الغد، سأطلب اليك مرافقتي تحت المطر إلى محطة الحافلة.
أجابها بحدَّة والحُنق بادياً من لهجته :
وماذا ستفعلين بسائقك الخاص ؟
ولماذا تهزئين مني ؟
ولماذا …
ولماذا ... ؟
وأنهى المكالمة طالباً منها عدم الإتصال به مُجددَّاً..
لم تتمالك نفسها فانهارت باكية، وسالت الدموع على خدَّيها بغزارة.
سمعت والدتها بُكاءها المرير، فأتت مُسرعة مُستفسرة عن سرّ هذا البكاء، وانتابها القلق على إبنتها.
أخبرت والدتها بتفاصيل الموضوع …
من كتمان إلى تنامي الحب بينها وبين ذلك الشاب، وكيف أنَّه أحبَّها وهي تُخْفِي عنه مستواها المادي.
قالت لها والدتها :
لن أطلب منك تفاصيل إضافية …
لكن الشاب يستحقك.
وكفى بكاءً.
أضافت :
دعيني أُصلح ذات البين، بينكما.
وطلبت منها رقم هاتفه.
الفصل الخامس :
مع تزايد واشتداد العاصفة، هبَّت رياحٌ قوية أدَّت إلى انقطاع الكهرباء. وعلا في أرجاء المدينة أصوات وكأنَّها عواء ذئاب جائعة. تطاير الزجاج وانهارت الأبنية القديمة
وامتلأت الشوارع بمياه الأمطار.
أغراه وأغواه مشهد العاصفة برياحها وأمطارها، فنزل إلى الشارع بالرغم من معارضة الأهل وفي مُخيَّلته أنَّها معه وتحت معطفه.
أنهكه السير تحت المطر وهو يُحاكي نفسه في خضِّم هذه العاصفة الهوجاء، عاد ادراجه إلى المنزل وهناك سبح في أحلامه حتى صباح اليوم التالي، حيث أيقظه والده من سُباته العميق،
قائلاً له :
هناك سيدة تطلبك على الهاتف وتريد أن تتحدَّث معك.
وعلى الجانب الآخر من الهاتف أجابه الصوت :
أنا والدة زميلتك بالجامعة. أطلب إليك أن تقبل اعتذار إبنتي عن الذي حصل بالامس، ولو كانت في حالة صحيَّة جيدة لكانت هي من قام بالاعتذار، لكنَّها الآن ترقد في المستشفى لعارض صحي مفاجئ أصابها.
وليس عليَّ أنا …
تغيَّرت لهجته وقال كلاماً ارتطم صداه أرجاء الغرفة،
ما الذي حصل ؟
وكيف ؟.
وأين هي ؟.
وفِي أي مُستشفى ؟.
وفِي أيَّة غرفة ؟.
أجابته : هدِّئ من روعك ...
إنَّها الآن بخير ...
ولا أرى مانعاً إن قمت بزيارتها ...
وختمت قائلة :
إلى اللقاء.
في تلك اللحظة :
انقشعت الغيوم السوداء، من سماء عقله، وجفَّت الدماء السوداء من جدران قلبه، وانبسطت أساريره ونسي عتّبه، وفاضت في وجدانه موجات من العطف والشفقة والحنان عليها.
فتح نافذة غرفته، ورأى الشمس كعادتها تُشرق وترسل أشعَّتها وكأنَّها تضحك وتبتسم له.
هدأت العاصفة وانحسرت …
إنقلبت حياته وتبدَّلت رأساً على عقب وشعر أنَّه تقمَّص حالاً أخر … من جيل الخيبة إلى جيل الأمل ..
تراكمت وتزاحمت الأفكار في مُخيَّلته ...
ماذا سيفعل ؟
كيف ومتى سيزورها ؟
لكن في ظلّ تزاحم هذه الأفكار، طرأ أمرٌ لم يكن يخطر في البال … شائك صعب المنال والتحقيق وهو الهديَّة التي سيقدمها أثناء زيارته لها في المستشفى.
إنَّها تُحِّب وتعشق زهرة ( كراون دايسي ) لكنه فصل الشتاء وهي زهرة بريَّة ربيعية.
ماذا سيفعل ؟
الفصل السادس.
في تلك الليلة الليلاء، وبعد ان أخذت رقم هاتفه من إبنتها
سألتها :
الآن وحالاً وفوراً …
ما قِصَّة هذا الشاب ؟
وتابعت أسئلتها بسرعة متتالية :
ولماذا الكذب ؟
ولماذا إخفاء من أنت ؟
ولماذا ... ولماذا ... وكيف.
أسئلة ... أُم :
أجهدت نفسها لتجعل من إبنتها صديقة لها، حتى تعود إليها في أحلك الأوقات.
وكانت إبنتها خير صديق وخير جليس لها.
إذن ما الحكاية ؟
قالت لوالدتها :
أنت تعلمين لماذا تركت الجامعة الأولى ، والتحقت بهذه.
أنت تُدركين كيف كان شباب الجامعة يتملَّقون ويتودَّدون لي …
كل ذلك بسبب الثراء الذي أنا فيه.
ما زلت يا أُمي أتذكَّر نِفاق الشباب في تصرُّفاتهم الرعناء، وتسابقهم مع سائق سيارتي لفتح الباب لي … وأنتِ الوحيدة التي وقفت بجانبي حتى وافق والدي بأن أغيِّر الجامعة إلى أخرى بالرغم من عُلوّ شأنها، والثانية أقلُّ منها.
كل هذا جعلني اشمئز من الجامعة ومن الطلاَّب والشباب فيها، فأحسست أنَّي لا شئ لولا هذا الثراء ومال أبي …
ساد الصمت قبل أن تُعقِّب الأم على حديث إبنتها :
وما دخل كل هذا بهذا الشاب ؟
أجابت والدتها :
منذ اليوم الأوَّل لدخولي الجامعة، طلبت من السائق أن لا يقترب من باب الجامعة كما كان يفعل سابقاً، بل طلبت منه أيضاً أن يوصلني إلى قرب محطة وقوف حافلة الركاب، بجانب أحد الحوانيت الصغيرة حيث إتفقت مع صاحبه أن يسمح لسائقي بالوقوف لقاء أن أشتري كل يوم منه حلوى أو ماء، حيث أُقدمها إلى أُم وابنتيها الصغيرتين اللواتي يتوسلن دائماً المارَّة أمام باب الجامعة، ويطلبنَ منهم المساعدة.
تابعت حديثها مع والدتها :
بقي الحال على هذا المنوال إلى يوم هبوب هذه العاصفة الشريرة، عندما شاهدني وشاهد سائقي، حيث وقعت الكارثة، وحصل المأزق الذي أنا فيه.
قالت الأم باستهجان :
لا زلت عاجزة عن فهم ما جرى …
هل إرتكبت جريمة ؟
فأجابتها :
توطَّدت علاقتي بهذا الشاب بشكل سريع ونمى الاحترام، والمودَّة بيننا، وفِي ذهنه أنِّي من بيئة فقيرة متواضعة.
وأردفت بحسرة :
أحبني كما أنا ..
أحبَّ صفاتي وأُعجب بأخلاقي ..
أحبَّ ثيابي البسيطة والمتواضعة.
أحبَّ تعلُقي بالزهرة البريَّة لميزتها المعنوية، وليس المادية ..
أحبَّني ( أنا ) التي أنا ..
تصّوري يا أُمي عندما مرضت وتغيَّبت عن الجامعة ماذا فعل. لقد عرض أن يأخذني إلى عيادة طبيب عائلته، وعرض أن تكون تلك المعاينة مجَّانية، مُعتقداً أنَّني أعيش في ضائقة مالية وأتحدَّرُ من بيئة فقيرة.
كان دوماً يرسل لي مُلخَّص المحاضرات ويرفقها برسالة بخطه يُعلمني بكل شاردة أو واردة حصلت في غيابي.
كانت رسائله لي أهمُّ من المحاضرات، لأنَّها أبقتني حاضرة، وأعطتني البهجة والسرور، ولم يتطرَّق بأي خبر يُزعجني، حتى جعلني أظنّ أنَّ الجامعة بطلابها وأساتذتها وعميدها، افتقدوني طالبين بالصوت العالى ...
تعافي وعودي ...
نحن بشوق اليك.
كانت رسائله لي :
دائماً وأبداً تبدأ بحرف ( و )
كقوله :
وبينما ...
وعندما ...
ومتى ... و … الخ.
تتابع بشغف حديثها لوالدتها :
سألته مرة واحدة لماذا تبدأ رسائلك لي بحرف ( الواو )
أجابني :
ل وٓصْلِ، ما انقطع ...
إن انقطع …
ولن ينقطّع ...
قلت له وكيف :
قال :
منذ اليوم الأوَّل لتعارفنا، عاهدت نفسي أن تبقى أيامي وأيامك موصولة إلى الأبد ...
وهكذا …
وهذا ما أعنيه … وٓصْلِ، ما إنقطّعْ ...
......
......
لم تستطع تمالك نفسها ومتابعة حديثها …
أجهشت بالبكاء، وغابت عن الوعي ولَم تصحو على نفسها ألَّا وهي ممدَّدة على سرير المستشفى.
الفصل السابع :
بقي يفكِّر ويفكِّر كيف الوصول إلى كراون دايسي، إنَّه الشتاء والصقيع وتراكم الثلوج، فكيف سيستطيع التفتيش في جبال قريته والتنقيب عن تلك الزهرة حتى ولو كانت ذابلةً.
لم يترك متجراً لبيع الزهور والورود إلَّا وسأل عن تلك الزهرة. كان الباعة يتعجَّبون ويقولون له :
هذه الزهرة بريَّة لا تُباع لأنَّها تنمو على حافة الطُرق لا قيمة ماديَّة لها، فضلاً عن ذلك فإنَّ موسمها في الربيع ونحن في الشتاء.
لم يترك مكاناً لليأس أو للإحباط لكي يسيطران عليه، فدخل أحد المتاجر التي يُباع فيها كل شيئ يخصُّ المرأة،
وقال لإحدى البائعات :
زميلتي في الجامعة تُحِّب زهرة بريَّة إسمها بالعربية وبالانجليزية كذا، وكذا … لذلك أودُّ أن أشتري لها هدية عليها رسم تلك الزهرة.
لم تفهم البائعة ما طلبه، ولكنها رغبت في المساعدة فقالت له :
هذه رزمة أقلام ملونة، أُرسم لي تلك الزهرة، وساساعدك.
استجمع كل قواه الذهنيَّة والفنيَّة وراح يرسم ( كراون دايسي )، فرسمها بدقَّة مُتناهية بالأبيض والأصفر والغصن الأخضر.
عندما شاهدته العاملة في المتجر ماذا يفعل قالت مهلاً وأتت بالعقود والسلاسل وكل شيئ فيه صورة ( كراون دايسي ).
بعد وقتٍ طويل أخذه في التأمُّل بالقطع، أعجبته من بينها قطعة واحدة … مرآة صغيرة يُمكن وضعها في حقيبة نسائية، في وجهها الأوَّل مرآة تُعطي الصورة حجماً أكبر، وفي الوجه الآخر، رسم ناتئ وبارز لهذه الزهرة بكل تفاصيلها.
وبينما كانت العاملة في المتجر تهِّم بتغليف الهديَّة، سألها إن كان لديها ورق هدايا عليه رسم ( كراون دايسي ).
لم تتمالك العاملة نفسها، فبان عليها علامات الابتسام والضحك، وبادرت إلى سؤال زميلاتها في المتجر إن كان يوجد هذا النوع من الورق.
بعد وقتٍ من الانتظار وطول غياب العاملة والذي أمضته في التفتيش عن ذلك النوع من ورق الهدايا، جاء الفرج حيث أطلَّت إحدى العاملات حاملةً معها رزمةً من ذلك النوع، فانفرجت أساريره ومعه ظهرت علامات الفرح على وجه البائعة أكثر منه.
حضَّرت البائعة ورق الهديَّة ونظرت إليه قائلة : هل هناك تصميم معيَّن ترغب به في لف الهدية.
فأجابها بسرعة الواثق من رؤيته لتغليف الهديَّة قائلاً :
رسم الزهرة الذي رسمته أُريدة مع المرآة وفِي داخل العلبة …
والباقي أترك لك حريَّة الاختيار فيه.
قبل مغادرة المتجر سألته البائعة بفضول :
لماذا إصرارك على هذه الزهرة ؟
تمهَّل قليلاً ثمَّ أخذ يقصُّ عليها الجزء الاول من قصة كراون دايسي وكريستل.
الجزء الثاني :
الفصل الثامن.
لم يكن المشهد في المستشفى والاستعلام عن غرفتها أمراً عادياً. فالممرّ المؤدي إلى جِناحها كان مكتظاً بسلال الورود وباقات الأزهار من شتَّى الألوان والأجناس والأشكال.
اعترته الدهشة وقادته إلى المقارنة بين هديَّته المُتواضعة مع تلك الصفوف من السلال.
استقبله شقيقها مبتسماً وهو الذي كان صلة الوصل بينهما ناقلاً المحاضرات والرسائل.
بادر إلى مهمة التعريف عنه أمام الحشد الكبير المتجمهر في قاعة الضيوف، ومن ثمَّ قدَّمه إلى والدته مُعرِّفاً عنه.
بادرت الوالدة إلى أخذه جانباً، شاكرةً له على الزيارة. أدخلته مباشرة إلى غرفتها، وهناك وقف صامتاً جامداً لا حِراك فيه، شخصت عيناه إليها هي غارقة مُمدَّدة في
سرير صغير، وجهها أصفر باهت وشاحب، ويدها ممدودة ومربوطة إلى أنابيب من الأدوية.
مرَّت الدقائق كأنَّها سنون. حاولت فتح عينيها لكنَّها لم تستطع، وكأنَّ أثقالاً وضعت على جفنيها. حاولت جاهدة أن تراه لكنَّ محاولتها باءت بالفشل، فعادت وأغمضت عينيها على دموع سالت سخيَّة كحبات اللؤلؤ في مهد أصدافها.
سحبت يدها من تحت الغطاء بتمهُّل وصعوبة، فما كان منه إلَّا أن أمسكها بيديه الاثنتين وقبض على يدها بإحكامٍ.
اغرورقت الدموع … وسالت ... ومن ثم قالت :
إن كنت تفهم لغة دموعي فلا حاجة لي أن أتكلَّم …
وإن كان قلبك كبيراً … فاترك مجالاً لقبول عُذري …
قال لها :
دموعك أغلى … من حبَّات اللؤلؤ ...
أمَّا عُذرك، فهو من قبيل وٓصْلِ ... ما انقطع ...
كلماته هذه كان لها وقع مدوِّ في داخلها، فتكشَّف عن ابتسامة ساحرة أزالت معها شحوب الوجه والحزن الذي لفَّه لأيَّام.
التفت ناحية والدتها والبسمة تعلو محيَّاه وقال :
يبدو أنَّ الشمس في المستشفى تأخَّرت اليوم في الشروق !
فترة الاطمئنان على صحَّتها انتهت وحان موعد تقديم الهديَّة، فأخرجها من جيبه، فبادرته بالقول ...
افتحها أنت ...
فتح الهديَّة قائلاً لها :
أُنظري في المرآة، حينها ستشاهدين آلهة الجمال.
أُنظري إلى الخلف. زهرة الإكليل هذه ستكون دائماً وأبداً تاجاً يزيِّن رأسك ؟
لم تتمالك نفسها من البكاء.
فتدخَّلت والدتها، وقالت :
بُكَاء الحزن قبلنا به، أمَّا بُكَاء الفرح ... فإنَّه مرفوض.
التفتت إليه قائلةً :
إنَّها أجمل هديَّة تلقيَّتها طوال حياتي.
ثمَّ سألته :
ما سبب وجود صورة زهرة ( كراون دايسي ) مع الهديَّة ...
أخبرها حادثة الهديَّة بالتفصيل.
تأمَّلت الهديَّة مطولاً ثم رفعت وجهها وخاطبته قائلةً :
سأضع لهذه الصورة إطاراً من الذهب الخالص، وسأضعها على مكتبي طوال حياتي.
الفصل التاسع :
واظب على زيارتها في المستشفى طوال المدَّة التي أمضتها وهي سبعة أيَّام، وفِي خلالها كان يحمل إليها المحاضرات ويُخبرها كعادته بكل شاردة أو واردة، حتى يُضفي الحبور والبهجة في نفسها.
حتى في مرضها كان يراها أجمل الجميلات، وكانت نظراتها إليه كلَّما زارها، ترسم علامات فرحٍ وسعادة.
في إحدى الزيارات لم تكن كما عهدها، فوجهها بدا عليه الحزن والكآبة، ووالدتها مُنزعجة، وهي ترجوها أن تهتَّم بصحَّتها قبل كل شئ.
فسألها لماذا الوجوم وكأنَّ قناطير الهموم تنهمر عليك من السماء ؟.
فتدخَّلت الأُم قائلة : إنَّها كئيبة منذ الصباح الباكر، لأنَّها انقطعت عن تقديم الحلوى والعصير لابنتي المتسوِّلة التي تقف على باب الجامعة.
ضحك وابتسم،
فقالت له بنبرة حادَّة : أنت مثل أُمِّي أيضاً تهزأ بي.
قال لها مهلاً مهلاً ...
منذ اليوم الأوَّل لغيابك وأنا أقوم بالمهمة ذاتها ...
لم يكْد يُنهي حديثه حتى اغرورقت عينيها بدموع الفرح، وهبَّت والدتها وأعطتها منديلاً وهي تقهقه من الضحك والبهجة تعمَّ أرجاء الغرفة،
إيَّاك إيَّاك ( والكريستال ) أن يتدحرج أرضاً التقطيه، واحفظيه في هذا المنديل.
قالت له وقد تُحِّولت إلى إنسانة تعج بالسعادة :
أنت اليوم وكعادتك تجلب لي السعادة، وطلبت إليه أن يمدَّ يده.
حضنت يده وقامت بوضعها على وجهها.
كان يُلاحظ أنَّ والدتها تُوليه اهتماماً خاصاً، وبدأت تخبره أنَّ ابنتها كل شئ فيها مثل ( الكريستال ) دموعها وقلبها ورقَّتها، وما عليك إلَّا أن تُحافظ على حبَّات الكريستال كما أفعل دائماً.
لم يُعلِّق كثيراً، ولكنَّه توجه بحديثه إليها وسألها إن كانت مرتاحة.
أجابت الوالدة فوراً بكلمة واحدة.
بوجودك.
ساد صمت رهيب عمره وكأنَّه .... قرون.
في يوم خروجها من المستشفى قالت له :
أُحِبُّ أن أُبلغك أنَّني لن أُغيِّر عادتي وهي قدومي سيراً من محطة الحافلة إلى الجامعة.
وأضافت : أيضاً لن يكون معي مظلَّة حتى تقيني من المطر.
قال لها :
ولماذا تتحمَّلين كل هذه المشقَّة، فالأمور أصبحت واضحة بيننا، فضلاً عن ذلك الأرصاد الجوية، تُحذِّر من هبوط درجة البرودة، وأنت لا زلت بحالة صحيَّة غير مستقرَّة.
أجابته :
السير من محطة الحافلة إلى الجامعة، كان هو السبب الذي أدَّى إلى تعارفنا، وسأستمر في سلوكه من دون السائق وكما جرت العادة.
تابعت باسترسال :
بالاضافة لذلك، إذا كنت تتذكَّر ليلة خلافنا تمنيت حينها لو ترافقني إلى محطة الحافلة إذا استمرت العاصفة لأنَّي أُحب أن أسير معك تحت المطر.
اليوم أُكرِّر طلبي، وأقول لك إنَّه لن يكون معي مظلة لأنَّي أودُّ أن استظل تحت معطفَك ومظلتك.
أجابها متسائلاً :
ماذا تريدين منِّي أن أفعل ؟
قالت له : الأمور ستتغيَّر الآن. أُريد أن نكون في قاعة المحاضرات والمقصف معاً وسوياً ... لأنَّها من أجمل لحظات العمر.
أُريد أن ترافقني من الدكَّان بالقرب من محطة الحافلة، وندخل سوياً إلى الجامعة.
قال لها :
هذه أمور كنت أحلم بها وقد تحقَّقت الآن، ولكن لي سؤال واحد ...
قالت : ما هو ؟
قال : والدتك تقول أنت مثل .. حبَّات ... الكريستال ....
ولكني أنا اقول أن إسمك سيكون من الآن وصاعداً ( كريستل ) وسأترك لوالدتك دمعة واحدة من الإسم، وهي حرف ( الألف ).
ابتسمت واشترطت :
أُقبل بذلك لكن لي شرطٌ واحد وهو أن لا يناديني أحد في الكون بهذا الإسم إلا أنت ...
وتابعت حديثها : أمَّا أنا فسأناديك ب مستر ( واو )
فليكن هذا سرَّنا ...
أجاب : قَبِلْتْ ... يا ... كريستل ...
الفصل العاشر :
بدأت الأيَّام السعيدة تتدحرج على كريستل وحبيبها، وتجرُف معها كل الهموم، وتضفي البسمة والفرحة.
كانت كريستل تغرف من الحب الذي وفَّره حبيبها، بنهِّم دون اكتفاء.
كانت تقول له أنا عطشى وأكاد أموت من الظمأ، فيهبُّ مسرعاً لجلب الماء لها، فترفض بدلال وتقول :
أنا عطشى لحُبِّك وحنانك واهتمامك.
كانت تتصِّل به يومياً في الصباح الباكر، وقبل أن تخلد إلى النوم، وتسأله السؤال نفسه :
ماذا أكلت ..
ماذا شربت ..
ماذا لبست ..
ماذا فعلت ..
وماذا، وماذا ؟؟؟
كانت إذا دعته إلى العشاء لا تقبل إلَّا أفخم المطاعم وأغلاها سعراً ..
كان إذا دعاها إلى العشاء تتعمَّد وتدَّعي أنَّها مُشتاقة إلى صحنٍ من الفول أو الحمُّص ( صحن شعبي في لبنان، زهيد في سعره )
كانت إذا قدَّمت له هديَّة، وغالباً ما تكون من الهدايا الفريدة وباهظة الثمن، تشترط عليه أن تكون هديته لها بالمقابل، زهرة أو وردة إلى حين قدوم فصل الربيع.
كانت تطلب إليه في فصل الربيع أن يقدِّم لها يومياً باقة من أزهار (كراون دايسي )، حتى تقوم بجمعها على شكل تاج، أو عقد أو إسوارة ، ثم تضعها في كتاب.
كانت والدتها تُلاحظ تعلُّق كريستل بحبيبها، وتحاول جاهدة أن تلقى من زوجها قبولاً لهذا الواقع.
كان الأب في خِصام شبه يومي مع كريستل، حتى تلاشت مقاومتها وانهارت عندما سأل الأب حبيبها في تحدٍ صارخ :
( ما هو الأجر الشهري الذي تتوقَّعه فور تخرُّجك من الجامعة هذه السنة ) ؟؟
نهض حبيبها ممتعضاً وقال للأب :
أجري الشهري الذي سأناله سيكون مثله مثل كل شاب يبدأ حياته من أول الطريق.
امتعضت الأم ولامت زوجها وخاب ظنها.
أمَّا كريستل وكعادتها في لغة الدموع والعيون، نظرت الى حبيبها وهو يغادر منزلها وهمست في إذنه :
سأتصل بك.
خرج حبيبها مكسور الخاطر، تسبق الخيبة خطواته على السلالم.
نادته كريستل :
مستر ( واو )
Take care !!!!
I, love you !!!
كانت كلماتها بلسماً على جراح …
لم يتوقَّف نزيفه …
وزاد الألم على مرِّ الأيام …
وزادت القروح على تراكم السنين …
فلا دواء عليل ناجع يُخمد البركان الذي انفجر، وبدأ ينفث الحِمم دون هوادة …
ولكنَّه لم يستسلم.
طالما كريستل تحبه حُباً ما بعده حُب.
واقتنع أنَّ جذوَّة الحب لن تخبو مهما طال الزمن.
الفصل الحادي عشر :
كعادتها كل مساء، إتصلت به وانهمرت عليه بالاسئلة ذاتها.
كان الْحُزْن والاختصار باديين وواضحين من الأجوبة.
كانت تُحاول التخفيف من وقع الصاعقة عليه.
قالت له ممازحة لترطيب الأجواء.
ولماذا التجهُّم .. يا مستر واو ؟؟
غداً … ستدعوني إلى العشاء، لأنِّي أُحِب واشتهى أن أتناول البصل والزيتون والفول واللبنة والخبز المرقوق،
وأغرف بيدي ولا أنظِّف أصابعي ألَّا بفمي ...
هذه هي أنا :
أحبُّ الأُمور إلى قلبي أن أكون معك ...
أن أمشي معك تحت المطر ...
أن يكون غدائي حُبُّك …
لا تهتمَّ لكلام والدي …
طالما أُمي بجانبي ومعي …
وتفضِّلك على سائر الشبان الذين تقدَّموا لي ...
بالأمس نشب خلاف بين أُمي وأبي ... وبيني ...
كنت واضحة، صريحة معه وقلت له :
إمَّا هو ... أو لا أحد ....
غضب والدي وخرج من المنزل …
لم تنفع كل هذه التوسُّلات والأخبار مع حبيبها، لأنَّه لا يُرِيد أن يتسَّبب بخلاف بين العائلة بسببه.
كانت الأمور والأيام على قلَّتها تسير كالسلحفاة.
كان التحفُّظ بادياً وهو سيِّد المواقف.
حلَّ فصل الربيع وحلَّت معه الحرب الأهليَّة في لبنان، ومع تقدُّم الأيَّام كانت هذه الحرب تشتدُّ ضراوةً وقساوةً ...
كانت السماء تُمطر القذائف كهطول المطر في فصل الشتاء.
بدأت اللقاءات تتقلَّص بسبب انقطاع الطرق وإنهمار القذائف وتكاثر الحواجز الأمنيَّة.
كانت كريستل، ُترسل سائقها إلى حبيبها يحمل منها الرسائل والأخبار، ومع كل رسالة زهرة ذابلة من ( كراون دايسي ).
سألها لماذا ترسل زهرة ذابلة، وهو لم ينقطع عن إمدادها مع السائق بكميَّات من الأزهار النضرة.
كان جوابها :
لأني حزينة …
روحي ذابلة …
وشوقي إليك …
كشوق هذه الزهرة للماء …
وإن كنت تُحبُّني إسقي الزهور الذابلة وأحفظها …
وإن ماتت لا ترمها، بل إدفنها داخل كتبك ...
بقي يرسل لها في ذلك الربيع والصيف، أزهاراً من كراون دايسي، وهي تُعيد إليه الذابلة منها ...
وبقي يضعها داخل كتبه …
وبقيت هي تصنعها أكاليلاً وعقوداً وأساور، وتضعها أيضاً في كتبها.
إلى أن أيقظه والده يوماً ذات يوم على خبر هزَّ كيانه ونال منه مقتلاً وأجهض أحلامه وأطبق على حياته.
تُوفيت والدتها إثر نوبة قلبيَّة حادَّة وخرجت الصُحف في ذلك الصباح باللون الأسود، وتوقَّفت الإذاعة الرسميَّة عن بثّ برامجها كالمعتاد حداداً على هذه السيدة الفاضلة.
الفصل الثاني عشر :
لم يهدأ ذلك الصباح …
استاءت صحته وبدا كالمجنون … كيف السبيل للوصول إليها.
حاول مراراً وتكراراً الإتصال بها عبر الهاتف لكن دون جدوى، فخطوط الهاتف في العاصمة قُطعت ذلك الصباح، الأمر الذي زاد حظَّه سوءاً.
منذ الصباح بدا اليوم رهيباً، بقسوته وشراسته وظلمه …
كيف لا يكون بجانب كريستل في أصعب يوم ٍ يمرُّ في حياتها.
تمرُّ اللحظات ثقيلة كئيبة يقطعها طرقٌ على الباب. ركض باتجاه الباب وإذ بالعم فؤاد سائق كريستل، الذي اعتاد أن يراه بالبذلة الرسميَّة والقُبعة، لكنَّه اليوم كان مختلفاً، شعره الأبيض الذي ملأ رأسه زاده كِبراً وهمَاً، وزاد اليوم حزناً.
قال له العم فؤاد :
أرسلتني الست الصغيرة، لأُخبرك عن وفاة والدتها، وهي تطلب منك أن لا تحضر مناسبة العزاء، لأنَّها تخاف أن يحصل لك مكروه، فيكفيها وفاة والدتها ولا تريد أن تخسرك أنت الآخر في هذه الحرب القذرة.
وأضاف : يوم الدفن تقرَّر يوم غدٍ في مسقط رأسها.
وتقول أيضاً أنَّها ستتكلم معك أو سترسلني إليك، وهذه رسالة منها ...
على عجلٍ ولهفة فضَّ الرسالة حيث بانت الكلمات التي بدأ يقرأها بنهم المتعطِّش لشوق اللقاء ومعرفة أي تفصيل يروي ذلك العطش.
بدأت عيناه تتنقَّل بين كلمات الرسالة التي قالت فيها :
خسرت أُمي وعضَدي وسندي ..
لم يبق لي إلَّا حِلْمٌ واحد ..
هو أنت ...
حافظ عليه، وإهتم بنفسك، لا أريدك إلَّا أن تبقى مَثَلي الأعلى، وحبِّي الذي لا ينضب.
توالت الأيَّام واحداً تلو الآخر تمضي وتزيد نار الشوق والحنين، تنهشه وتحيل أيَّامه جحيماً لا يُطاق.
في اليوم الذي تمَّ فيه تحديد موعد للدفن، توجَّه إلى قريته حيث أمضى أيَّامه يجمع ويقطُف أزهار كراون دايسي، فيأخذ الذابلة منها ويسقيها حتى امتلأت صفحات كُتُبه بالأزهار الذابلة.
بقي على هذا المنوال إلى أن وصل فجأة إلى قريته العم فؤاد، حاملا إليه أزهار كراون دايسي الذابلة، والتي كانت استلمتها قبل وفاة والدتها.
لم تكن تلك الأزهار وحدها ذابلة، فمن خلالها فهم أنَّ كراون دايسي أزهاراً وحبيبة أصبحت جميعها ذابلة.
حاول أن يعطي العم فؤاد باقة من الأزهار النضرة، والتي يقطفها صباح كل يوم، إلَّا أنَّ العم فؤاد قال له :
الست الصغيرة أوصتني أنَّه إذا لم تكن تلك الأزهار جاهزة فإيَّاك أن تطلب منه. والحمدلله أنَّ باقة الأزهار حاضرة جاهزة دائماً ككل يوم.
وتابع العم فؤاد حديثه فرحاً :
اليوم ستفرح الست الصغيرة لهذه الأزهار. سأُخبرها أنَّك ما زلت تقطف هذه الزهرة كل يوم.
عندها قاطعه بلهفة المتحدِّث : قُلْ لها أيضاً سأبقى إلى نهاية العمر، أقطف وأقطف وأقطف زهرة كراون دايسي.
بسبب الحرب الأهلية الطاحنة، قرَّرت إدارة الجامعة إعطاء إفادات لطلبة السنوات الاخيرة باجتيازهم السنوات المُقرَّرة. وقد استندت الجامعة في قرارها، إلى أنَّ طلاب السنوات الاخيرة، منهم من تمَّ قُبوله في جامعات أجنبية، ومنهم من حاز على على وظيفة.
من جملة الطلاب الذين إستفادوا من قرار الجامعة كريستل، وحبيبها.
لم يكن القرار مُفرحاً للثنائي العاشق، لأنَّه سيتسبَّب بوضع حدٍ لكل اللقاءات فيما لو استأنفت الجامعة عملها من دون هذا القرار.
عودته إلى بيروت لم تُبدِّد من رتابة الأيَّام ولَم تغيِّر ما أصبح بادياً على وجهه من تعب وإرهاق لاحظه الأهل وساءهم وضعه الصحي وبدأوا يقلقون عليه.
المفاجأة الوحيدة التي بدَّدت رتابة أيَّامه خبر من شقيقته المتواجدة في أميركا تُبلغه فيه أنَّ عليه، السفر إلى قبرص لتسلُّم سمَّة دخول إلى الولايات المتحدة الاميركية.
الخبر لم يكن مُفرحاً بالنسبة إليه ولَم يعنيه، فأحلامه ترقد هنا بين زهرات كراون دايسي و ( كريستل )، وليست في أميركا !
تلكأ في السفر إلى قبرص، وتمهَّل في الموافقة على عرض شقيقته، إلى أن إتصلت به كريستل عشية يوم من أيَّام الخريف بعد طول غياب.
الفصل الثالث عشر :
الضياع والتردُّد هما سيِّدا الموقف. الأهل يحثُّونه على السفر، والظروف في لبنان تزداد سوءاً يوماً بعد يوم على
جميع الصُعُد. حرب وفوضى وانهيار إقتصادي وشيك !
هتف قلبه عند سماع رنين الهاتف حيث كانت المفاجئة الكبرى ! كريستل تناديه وبالعادة ذاتها المُحبَّبة إلى قلبه. لم تتوقَّف اسئلتها واستفساراتها، حتى قال لها :
من أين ابدأ ؟؟
أجابت : كيفما تشاء، ما يعنيني هو أن أسمع صوتك ....
أخبرها عن سمَّة الدخول إلى أميركا.
فسألته : ماذا ستفعل ؟
فأجاب : ما زلت أتريَّث وأتلكأ.
قالت : ولماذا؟
أجابها : حتى أسمع منك شيئاً.
قالت : هذا يعني أنَّك لم تتخِّذ قرارك بعد.
أجاب : نعم لم أتخذ قراراً بعد.
فبادرته بالقول والهواجس تعتريها :
أفهم أنَّك ما زلت تنتظرني ؟؟
أجاب إجابةً سريعةً وحادة :
بالطبع … أنت ظلِّي وخيالي والعمر من دونك سراب أرجو
ألَّا أقع فيه.
تنفَّست الصُعداء وقالت له :
هل تريد أن تسمع أخباري ؟.
أجابها متلهِّفاً بالطبع أُريد !!
فبدأت : بعد انتهاء مراسم الدفن والعزاء لوالدتي واللذان استمرا لأسابيع عديدة، فاجأني والدي بدخوله غرفتي موجِّهاً كلامه لي :
هل ما زِلتِ على الوعد ؟؟
قلت له : أي وعد تقصد ؟
قال : الوعد الذي قطعتيه لي وقبلتُ بموجبه أن تنتقلي إلى الجامعة التي تخرَّجت منها شرط أن تُكملي شهادة الدكتوراه في فرنسا.
أجبته : الظروف تبدَّلت والأحكام تغيَّرت، وأنا في الوقت الحاضر أُفتش عن وظيفة هنا في لبنان.
أجابني والحُنق بادياً على وجهه :
وظيفة … هنا ! ...وأجرٌ لا يكفيك أيام عِدَّة.
تابع غاضباً : أرفض رفضاً قاطعاً عِنادك وإصرارك على عدم السفر، والسبب أعرفه وهو زميلك في الجامعة.
أضاف مُهدِّداً مُتوعِّداً، فليكن معلوماً لديك، لن تتوظَّفي ولن تبقي في لبنان، وستُتابعي دراستك العليا في باريس، وقد اتفقت بذلك مع سفير فرنسا عندما منحنا جميعاً سِمَّة الدخول إلى فرنسا.
أجبته ببرودة : طالما تفاهمت مع السفير، أكمل تفاهمك معه والتحق بالجامعة وارجع لنا بالدكتوراه.
بالرغم من تأجُّجه غضباً قلت له :
لن اسافر ...
لن أُكمل تعلمي ...
إفعل ما شئت ...
بعد تلك الواقعة أي منذ أسبوع تقريباً لم يُكلِّمني، ولم ألتقِ به.
أجابها مُتنهداً : الأقدار هي مَن يرسم مصيرنا ! أتُلاحظين ذلك ! وهل تُلاحظين أنَّنا نواجه المعضلة ذاتها، ألا وهي السفر طلباً للعلم.
تابع مُتسائلاً : لماذا لا نفكِّر أنَّ باب العلم المفتوح لي في أميركا، هو باب العلم ذاته الذي سيأخذك إلى فرنسا ؟
أسئلة كبيرة تُشكِّلُ تحدِّياً لنا يا حبيبتي كريستل لا تحتمل
إلَّا جواباً واحداً وهو أن نقرِّر سوياً الآن وهذه الليلة السفر.
لمعت الفكرة في رأسها وقالت له :
بوفاة والدتي خسرت النصيحة وبوجودك أنت استعدتها. وختمت كلامها له :
إلى فرنسا .. سأذهب أنا . ..
وإلى أميركا .. ستذهب أنت …
هذه المكالمة في ذلك اليوم الخريفي، كانت الأخيرة بينهما
ختمها بكلمتين : إلى اللقاء يا كريستل
يا حبيبة العمر.
فأجابت : سنلتقي يوماً يا حبيب العمر.
فأنا مثلك مُقتنعة بمبدأ :
وٓصْلِ ما انقطع ...ولن ينقطع ...
ولتكن أخر كلمة أقولها لك .....
و .. أُحِبُك ٓ ... حتى آخر عمري …
الجزء الثالث
الفصل الرابع عشر
في خريف تلك السنة كان مطار دمشق الدولي يعجُّ بالركاب المغادرين، معظمهم من اللبنانيين ومنهم ( مستر واو ) حبيب كريستل.
كانت الرحلة إلى دمشق من أقسى الرحلات وأطولها وأكثرها تعباً. فأجواء دمشق كانت تختلف كلياً عن بيروت التي كان يعيش فيها.
كان الاقتصاد السوري وغلاء الأسعار بسبب تدفُّق اللبنانيين يُثير قلق التجَّار، فالارتفاع الجنوني لأسعار العملة الوطنية كان بنظرهم لا يستند إلى مؤشرات إقتصادية، وكان الخوف إن توقَّفت الحرب في لبنان سيتقهقر الاقتصاد في سوريا وتتراجع العملة الوطنية.
ولخوف انتابه من أن تسبقه الطائرة وصل إلى مطار دمشق الدولي قبل عشر ساعات من موعد إقلاع الطائرة، فضلاً عن أنَّه تراءى له حُلم منَّى نفسه به، أنَّه قد يلتقي ب كريستل.
لم يترك ردهة أو زاوية أو مكاناً داخل المطار، إلَّا وزرعه ذهاباً وإيَّاباً لعلَّه يرى هنا في أروقة المطار حبيبة العمر، ورفيقة درب الأحلام الورديَّة.
سافر على الطائر الميمون ولا يعرف شيئاً عن مكان كريستل في فرنسا. انقطعت آماله وبقيت ذكرياته وبعض ازهار كراون دايسي الذابلة.
بعد أن أقفلت المكالمة مع حبيبها ( مستر واو ) فاجأت والدها في مكتبه الخاص. ألقت التحيَّة عليه، لكن لم يكترث لها ولَم يُعِرها أيُّ إهتمام أو التفاتة.
بعنفوان ما بعده عنفوان قالت له :
أُبلِغك إنَّني وافقت على السفر إلى فرنسا، وسأُكمل دراساتي العليا، وهو الوعد الذي قطعته لك أمَام أُمي.
نهض من كرسي مكتبه وعانق كريستل وقال لها :
أنت إبنتي الوحيدة، وكل آمالي معقودة عليك. بعد وفاة والدتك ضاقت بي الدنيا وازداد ضيقها عندما تشاجرت معك بخصوص السفر إلى فرنسا.
تابع والد كريستل حديثه بصوت ملؤه الراحة : سيكون لك شقة خاصة قريبة من الشارع الأهم في العالم ( الشانزيليزيه ) وسيكون لك أيضاً سيارة موديل العام ومصروف شهري لا تحلم به فتاة في عمرك.
وعندما تعودين إلى لبنان ستكون شركاتي وأموالي كلها تحت تصرُّفك، لأنَّك ستحملين الشعلة قبل وبعد وفاتي.
استرسلت ( كريستل ) بسماع حديث والدها صامتة شاردة مُتعجبَّة فقاطع ذلك الصمت قائلاً بزهو : لو تعلمين ما الصعوبة التي واجهتها حتى استحصلت لك على موافقة من جامعتين في باريس.
حينها التفتت إليه قائلة : ولماذا ؟.
أجابها شارحاً بأنَّ الجامعة التي تخرَّجت منها في لبنان، لا تربطها أي معاهدة ثقافية مع أي جامعة في فرنسا، بعكس جامعتك السابقة التي انفصلت عنها والتي كان لديها ذلك. وعلَّل والدها سبب قبولها في الجامعة في فرنسا بأنَّ علاماتها في السنة الاخيرة كانت ممتازة بحيث حلَّت الثانية بين زملائها.
كلام والد كريستل أحدث حماساً منقطع النظير داخلها، فانبرت بلهجة واثقة تُخاطب والدها : هل تعلم من كان الاوَّل في سنتنا الجامعيَّة ؟.
قال لها : لا … لا أعلم ... من هو ؟
فاجابت بلهجة حازمة : إنَّه هو الذي كان يُرسل لي المحاضرات عندما كنت في المستشفى. هو الذي قلت له يوماً كلاماً جارحاً.
إنَّه هو الذي يعود له الفضل في قبول الجامعة الفرنسية انضمامي إليها.
بعد كلامها الصريح لوالدها والذي أراحها كثيراً، شعرت أنَّها تنفَّست الصُعداء، فبادرت إلى شكره ومعانقته. وسألت : في أي وقت يحين موعد السفر أجابها :
القرار لك .. فبادرت إلى القول كمن حسم أمره مُسبقاً : فليكن يوم ٢٥ من هذا الشهر.
يوم ٢٥ ليس يوماً عادياً في حياة كريستل، ففيه صارحها حبيبها بحبِّه لها، وقال لها أجمل كلمة سمعتها في حياتها : أُحِبُكِ …
وهي نطقت بأجمل كلمة تنطق بها في حياتها : أُحبُكَ …
الفصل الخامس عشر
حبيب كريستل مستر واو في الولايات المتّحدة الأميركية.
عندما هبطَّت الطائرة التي أقلَّته في مطار نيويورك الدولي، كان في استقباله شقيقته التي فاجأته بأنَّه سيمضي ثلاثة أيَّام في هذه المدينة سائحاً، مموِّهاً عن نفسه من عناء السفر الطويل وبعيداً عن الأحزان نتيجة فراق الأهل.
كانت نيويورك مربط خَيْل والده الذي هاجر في بداية القرن العشرين حيث كان حينها في الثامنة عشر من عمره إلى جزيرة نائية في الكاريبي ( كوراسو ) ولمَّا أشرقت شمس نجاحه التجاري بعد حين، صارت نيويورك مقصده لترويج تجارته ومربط خيل سياحته إلى الولايات المتحدة الأميركية.
الوصول إلى الفندق كان محطَّة استعاد فيها ذكرياته مع والده حين كان يرافقه طفلاً صغيراً، أثناء زياراته المتعدِّدة إلى هذه المدينة.
مدينة نيويورك في سبعينيات القرن الماضي كانت عاصمة المال والاقتصاد والتجارة العالمية ولا تزال حتى الآن.
هنا نيويورك … لا تستطيع وأنت القادم من الشرق مكَّبلاً بتقاليده وعاداته، إلَّا أن ينتابك الاستغراب عندما ترى كيف تجانست وتعانقت كل هذه الأديان والملل والشعوب وألوان البشر، وكيف امتزجت مع سُدرة منتهى العلم، حتى باتت هذه المدينة عاصمة العالم دون مُنازع.
ذهب به تفكيره كيف أنَّه وغيره وقبله من سكان وطنه
الجريح لبنان هُجِّروا أو هُاجروا إلى أقاصي العالم خوفاً من انفلات الملق وانبعاث روائح الجهل الديني والاستبداد في فرض هيبة ملوك وأمراء الشوارع في كل مدينة أو حارة أو زقاق من هذا الوطن الهزيل ببنيانه العلمي والديني والاخلاقي والسياسي.
كانت السنة الدراسيَّة في إحدى جامعات الساحل الشرقي التي قبلت طلبه لإكمال دراساته العليا.
تأخَّر وتأنَّى في إختيار تخصُّصه وكان واضحاً وبادياً عليه ميله إلى التاريخ السياسي القديم، وآداب الشعوب التي زهَّت قبل ظهور الأديان السماوِّية.
خلال دراسته، لفتته تعابير جديدة في مصطلحات
التاريخ السياسي الأميركي إبَّان ثورة الإستقلال عن بريطانيا العُظمى في العام ١٧٧٦ وما تلاها. كذلك تأثَّر بما أنتجته الحرب الأهليَّة الأميركية في العام ١٨٦١ وما بعدها.
كان إذا أراد التحدُّث عن العفَّة السياسية فلا يري بديلاً عن جورج واشنطن الذي رفض أن يبقى رئيساً للولايات المتحدة لفترات طويلة، مستنداً إلى منطق الثورة، وهو نزع الذهنية الملكيَّة والتوريث السياسي في إدارة العالم الجديد.
كان إذا أراد أن يعطي مثلاً عن الحنكة القانونية لا يستبعد واضع وثيقة الاستقلال الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جفرسون.
كان إذا أراد البحث في التفوُّق الدبلوماسي، تنتصب أمامه قامة بنجامين فرانكلين، صاحب الصولات والجولات فى أروقة بلاط الملكيَّات الأوروبية سفيراً للثورة المجيدة في ذاك الزمن.
أمَّا فيما فيما يخصّ شرعة وحقوق بني البشر، لا يرى مثالاً إلَّا آبراهام لنكولن.
أمَّا الصداقة النبيلة المخلصة، فكان لا يجدها إلَّا في ماردين شامخين في مخزون مفهوم الصداقة الذي لا ينضب عندهما، ألا وهما الجنرال غرانت والجنرال شيرمان.
في هذا الجو العابق بأزهى ألوان العلم وحضارة القرن العشرين بدأ ينهل من تلك الحضارة الأجمل والأرقى، وبدأ يغرف من علوم الأوائل كل مفيد.
أدرك أنَّ مخزون الحضارات القديمة يُمكن أن تتدفَّق وتجري إلى العالم الجديد، لكن بوسائل وطرائق تزيدها رونقاً وجمالاً عن طريق رجالات وأدمغة تؤمن بالتطوُّر والاعتراف بالفكر الآخر.
في هذه الحقول الزاخرة بالعلم ومباهج الفنون والعلوم، كانت كريستل لا تُفارق مُخيَّلته وفكره ووجدانه. كان دائم البحث عن زهرة كراون دايسي، على حفافي الطرق وداخل الحدائق العامة.
لكن عبثاً كانت محاولاته … فبدأت تتوقَّف وهمَّته تخبو وإيمانه يضيع. وصل به الأمر إلى اليأس وإلى قناعة جعلته يدخل دهاليز الضياع والقنوط. وصل إلى معادلة اعتقد معها أنَّه إذا لم يجد هذه الزهرة في هذا العالم الجديد، فإنَّ كريستل أيضاً غير موجودة في المقلب الاخر من العالم القديم، وأنَّها باتت سراباً وحلماً وأملاً مفقوداً صعب المنال ...
عاش لسنوات في فترة يأس شبيهة بالأيام التي تلت لقاؤه بوالدها، وقوله له بأنَّه ليس بوسعه أن يؤمِّن حياة سعيدة، وكافية لابنته كريستل.
تألَّم جداً من ملاحظة والدها له وتركت جرحاً بليغاً في نفسه وكيانه، تحوَّل مع الأيام إلى خلاقين من الغضب. استعاد شريط الأيام وكيف كان تفكير والدها به، وكيف أحس بالمهانة، وهو لا زال منذ ذاك الوقت وبعد عقودٍ من الزمن يبحث عنها، ويفتِّش عن أخبارها، ويضحِّي بكل غالٍ ونفيس من أجلها، لا تفارق خياله ولا تترك حتى يقظته في حالها.
وعاد ليأخذ العبر من تجربته مُتسائلاً، هل أنَّ صعوده سلالم العلم والصيت والشهرة وجني المال كان بسبب كريستل ! ومن أجل كريستل ؟.
عاد إلى واقعه وتعقُّله يسأل نفسه : لكنَّها غير موجودة الأن معه ولا هي بقُرْبه ... هي فقط بالخيال تعيش معه !!
وذهب أبعد من ذلك من أنَّ إيمانه واعتقاده بالأساطير ترسَّخ في حياته وعقله …
والسبب … هي كريستل.
فهو عاش وترعرع في العالم الجديد على أملٍ واحد وهو أنَّه سيجد يوماً كريستل تنتظره على حافة النهر …
نهر التاريخ.
حتى لو طال أمد الانتظار.
لم يَعُّد يهتم لشكل كريستل وكيف ستكون بعد تراكم سنوات عديدة على غيابها عن ناظره. وسبب ذلك هو أنَّ الأُسطورة التي يؤمن بها تقول أنَّ الأرواح تتلاقى في زهوٍ وبهجةٍ وفرح كالأطفال، ولا تشيخ وكأنَّها في عز الشباب مهما هٓرُمَ الجسد وتعب وتلاشى.
تعِب كثيراً من إيمانه، ولكنَّه لم يتلاشَ أو ينهار، بل كانت صور كريستل تنهمر عليه كالمطر الغزير دون كَلَلٍ أو ملل كلَّما تصفَّح كتاباً بداخله زهرة كراون دايسي.
عادت ذكرى موت والدة كريستل تؤرِّق مضجعه، حيث كان يزور أقرب المدافن في مكان إقامته ويتجوَّل بين القبور يتحدَّث مع والدتها ويشكُرها كيف أنَّها كانت له العضد والسند والأمل في علاقته مع كريستل، وإنَّه وبالرغم من وفاتها لا يزال يؤمن بقدرتها على مساعدته، على الأقل في إيجاد كريستل وهي السابحة في الأعالي.
كان يتجوَّل بين القبور ويسأل والدة كريستل في كل لقاء : هل وجدت كريستل ؟
هل قابلت كريستل ؟
هل لا زالت تنتظرني كريستل ؟
أسئلة غزيرة تنهار بين القبور وكأنَّها صخور تتدحرج من الأعالي.
في آخر زيارة لهذه المدافن وعد والدة كريستل أنَّه لن يزورها ثانية إلَّا برفقة كريستل وطلب منها العفو والمعذرة إن تأخَّر.
زيارته الاخيرة للمدافن كان يشوبها اليأس وفقدان الأمل، ولكنَّه حافظ على رباطة جأشه وسأل نفسه :
كيف يجتاحه القنوط والخيبة وهو المؤمن بأنَّ الأساطير هي من واقع الحياة.
كيف يترك ويهجر هذا الأيمان المتجَّذر داخله …
في كيانه ودمه وعقله.
هو الذي أصبح باحثاً وأديباً لا يُشقُّ له غبار …
صيتّه بين أصحابه وأقرانه وتلامذته وزملائه الأساتذة ومُريديه.
عاد وتذكَّر أنَّ قصصه ورواياته كلها حول الأساطير، وأنَّها قصص واقعيَّة، وليست من ضروب الخيال، وأنَّه آمن ونشر معتقداته في مؤلَّفاتٍ عديدة، تدور حول أنَّ القصص الحقيقية تُقارب الخيال حتى الأُسطورة، وأنَّ الأُسطورة تقارب الواقع حتى تصبح حقيقة.
امتزجت لديه الأُسطورة والقصة.
كل ذلك يحدوه الأمل بأن يجِد كريستل.
على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على غياب كريستل، إلَّا أنَّه لم يتعايش مع فكرة فقدانها إلى الأبد، فانكبَّ على الدراسة وتلبية الدعوات من الجامعات فى شتى أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي أدَّى إلى اختمار فكرة في عقله، وهي الغوص والإبحار في معتقدات الشعوب التي عاشت وسمت وزهت قبل الأديان السماوية.
قرأ الأساطير والملاحم حتى يزيد في معتقده وإيمانه، دعَّم ذلك بالدلائل والبراهين بأنَّ الأُسطورة يمكن أن تكون قصة واقعيَّة.
بدأت مؤلفاته تدور حول الأُسطورة في عالمنا المُتمدِّن، وكانت حبكاته كلها تتمحّور حول كيف سيلتقي يوماً ب كريستل في عالم معقَّد ومُرَكَّب بألف عقدة.
بقي على هذا المنوال حتى استقال من كل مهامه، وطلب من الدوائر الحكومية إحالته على التقاعد.
حصل له حفلات تكريميَّة عِدَّة، فكان زملاؤه وتلامذته، وأصحابه من المتحدِّثين في حفلات ومؤتمرات التكريم.
في إحدى المرَّات وهو في سياحة إلى مدينة نيويورك التي كانت بالنسبة إليه ك ( مكَّّة ) يحجُّ إليها دائماً ليستعيد ذكرى والده ووالدته، وأيضاً عندما زارها في القرن الماضي وذكرى قدومه إلى أميركا في هذا القرن. سمع صوت هاتفه الخليوي يرن فأيقن أنَّها مخابرة من خارج الولايات المتحدة الأميركية، فاستمع إلى المتكلم مُعرِّفاً عن نفسه بأنَّه عميد كليَّة الآداب والعلوم الانسانية في إحدى جامعات فرنسا في باريس العاصمة، وأنَّه قد أرسل إليه دعوة على عنوانه، لمناقشة أُطروحة أعدَّتها تلميذة عن دور الأُسطورة في عالمنا الحديث، وقد حُدِّد يوم المناقشة في الأول من أيلول، أي بعد شهرين من تاريخه.
وقد أردف عميد الجامعة حديثه بالقول :
أنَّ مستندات الدعوة كتذكرة السفر والأُطروحة والسيرة الذاتيَّة للطالبة، وأيضاً الإقامة لمدَّة عشرة أيَّام في فندق يُطلُّ على أفخم شوارع العالم في باريس، شارع الشانزليزيه كلَّها مؤمَّنة.
لم يحتمل إكمال المخابرة، فأحسَّ بتعبٍ شديد قاده إلى أقرب مقهى فى شارع مانهاتن ليستعيد قِواه، وهناك بدأت الأسئلة الكبرى تنهال على رأسه وكلَّها تتمحور حول ما ستؤول إليه هذه الدعوة إلى فرنسا من ذكريات وعِبَر.
بدأت الأفكار تُراوده وكريستل الحاضر الأكبر.
منذ أكثر من أربعة عقود، سكنت كريستل في شارع الشانزليزيه. لم يَعُّد يتذكَّر إسم الجامعة التي تسجَّلت فيها.
وبدأت الأسئلة تتراكم وتتزاحم في رأسه ومنها :
هل الأُسطورة شارفت وقاربت الحقيقة ؟.
عاد استغرابه لهذه الدعوة يزيده اضطراباً وأرقاً، وهو لم يزر فرنسا في حياته، ولا يتكلَّم الفرنسيَّة إطلاقاً، وكل كتاباته ورواياته باللغة العربية.
كان يعتبر الولايات المتحدة الأميركية، دولة رائدة تقوم على تلاقي جنسيَّات المعمورة كلَّها، وعلى ابتلاع لغات الكون، حيث تدرَّس جميعها في جامعاتها، ولها نظام مبرمج مقونن عن الهجرة، ووسائل أو طرائق، لجذب عقول البشر من الجنسيات كافة للاستفادة منها. وإنَّ عبارة :
God bless America
وضعت للدلالة على أنَّه من نِعْم الله على أميركا هو العلم والخير الذي يجلبه المهاجر لهذا العالم الجديد.
كان يعتقد أنَّ نظام الهجرة في فرنسا مُعقَّد وغير مفهوم وأنَّ اللغة العربية ليس لها شأن كبير في جامعات فرنسا، كما لهذه اللغة من مكانة راقية سامية في أميركا.
كان تفكيره في فرنسا ينسحب إلى كونها لم تجلب للدول التي انتدبتها إلَّا تأسيس كيانات وليس دُولاً.
ومع ذلك قرَّر السفر إلى فرنسا.
فور عودته إلى منزله بدأ بقراءة وتصحُّف بريده المتراكم، لكنَّ اللهفة كانت إلى تلك الدعوة التي التقطها بيديه وبدأ بقراءتها.
كانت الدعوة تحتوي على الآتي :
تذكرة سفر لشخص واحد.
إقامة في فندق فخم خمسة نجوم في شارع الشانزليزيه.
السيرة الذاتية للطالبة واسمها كريستل …
جنسيَّتها فرنسيَّة.
من أبوين فرنسيَّين.
تتقن اللغتين العربيه والفرنسية بطلاقة.
تقيم في باريس.
تبلغ من العمر ٢٩ عاماً.
المرفقات :
الأُطروحة على شكل كتاب في تجليد فاخر جداً، وفي الصفحة الأولى منها إهداء من الطالبة كريستل إلى والدتها يقول :
إلى أُمي التي آمنت بقدراتي …
وقفت إلى جانبي …
وجعلت من الأُسطورة حقيقة ...
أُحبك يا أمي ...
كريستل ...
باريس ٢٠١٥
موعد مناقشة الأُطروحة الأوَّل من أيلول ويصادف وقوعه نهار الثلاثاء.
إنكبَّ على التحضير وقراءة الأُطروحة وقبْل أن يخلِد إلى النوم يومياً يعود ويقرأ الإهداء ....
فهم الاطروحة …
ولكنَّه لم يفهم الإهداء …
قال لنفسه …
كتاب الأُطروحة فهمته …
سطر الإهداء لم أفهمه.
الجزء الرابع
الفصل السادس عشر.
حان موعد الرحيل ...
وبدأت كريستل تحضير حقائبها وكُتبها وأغراضها الشخصيَّة، إستعداداً للسفر إلى باريس. لكن بسبب الحرب الأهليَّة أُغلق مطار بيروت الدولي، ولم ترضَ كريستل السفر عن طريق مطار دمشق، ظنَّاً منها أنَّ حبيبها ( مستر واو ) قد يسافر من قبرص بعد نيله سِمَّة الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية.
بدأت جمع أغراضها الشخصيَّة وفِي مقدَّمها الرسائل التي كان يزوِّدها بها مستر واو أثناء مرضها، ولم تنس هديته المُميَّزة التي لم تفارق عيونها أبداً. المرآة الصغيرة، رسمه لزهرة ( كراون دايسي ) التي وضعتها داخل إطار جوانبه من الذهب الخالص.
مثلها مثل حبيبها ( مستر واو ) آمنت كريستل بالظواهر غير الطبيعيَّة وتقبُّل فكرة أنَّ بعض الأشخاص لديهم قُدُرات وطاقات خاصَّة، لا يٌستهان بها ولَم تكن تسخر من قراءة الكف والفنجان.
جمال كريستل لم يكن الشئ الوحيد الذي تتميَّز به، فقد كانت تمتلك صوتاً جميلاً، إن غنَّت تتمايل مع اللَّحن حتى يكاد أن يقول لها ( صوتك الجميل، ملائكي ليس من هذا العالم ).
أن تُغنِّي وتُغنِّي هو ما كان يطلبه حبيبها مستر واو من كريستل. ينصت ويذهب معها بعيداً إلى عالم أخر يُُحلِّقان فيه.
الابتسامة لم تكن تفارق شفتيها. كانت نقطة ضعفه وسعادته في آن. يتقصَّد إضحاكها من خلال اخبار طريفة ومفرحة، وغايته في ذلك أن تُبان تلك الابتسامة عن ذلك العقد من الألماس الذي كان يشعُّ بياضاً ولمعاناً.
وصف جمال كريستل والتغزُّل بها هو ما كان يُنعش قلب مستر واو ويُؤنس روحه، فيشبِّبها بأنَّها تختلف عن الكرة الارضيَّة بذلك العقد الألماسي الذي يُضيئ كالقمر ويشرق من بين شفتيها، لكنَّه يظهر نهاراً ويغيب ليلاً.
الحرص على تلك الصفوف المتراصَّة من الألماس والخوف من المأكولات الصلبة من أن تؤذيها هو ما كان مستر واو ينبِّه كريستل منه ويمنعها عنه.
خصر كريستل النحيل لم يكن أقلَّ لفتاً للنظر من ابتسامتها وصفوف الماس التي تبين من خلفها، فكان مثار متابعة من حبيبها مستر واو، الذي كان ينبِّهها دائماً من اكتساب أيُّ وزنٍ زائد ومن تعكير نسقه بالأثقال.
اللون الأسود هو ما كان يُميِّز شعر كريستل الطويل، وقبل أن يعترض ذات مرَّة على تقصيره بشكل لافت، بادرته بالقول بأنَّها فعلت ذلك من أجل معالجته حتى يستعيد قوته ولمعانه، ووعدته بأنَّها لن تُعيد تلك التجربة ثانية.
كتبها المليئة بأزهار كراون دايسي، مالت معظم صفحاتها إلى اللون الأصفر. وعندما كانا يلتقيان بعد عطلة نهاية كل أسبوع، تبادره بالقول : كيف كانت الغلَّة، وكم زهرة جلبت. فإن كان عددها قليلا قالت له بغنج، إنَّك لا تحبُّني. فإن كان عددها كثيراً بانت عليها علامات البهجة والسرور.
أن تنظر إليه من طرف عينيها، حتى تظهر له مساحة بياض العين وسوادها أكبر، كانت لعبته المفضَّلة، حينها يبدأ بإلقاء قصائد من شعر جرير :
إنَّ العيونَ التي في طرفها حورٌ.
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا.
هكذا كانت كريستل …
وهكذا كانت حياتها مع حبيبها مستر واو.
حبٌ متدفِّق …
وشغفٌ متواصل …
وحنانٌ لا ينضب …
وحمايةٌ مُكثَّفة للعاشقين …
ولكن جرياً على عادتها أصرَّت أن يكون سفرها يوم الخامس والعشرين من الشهر، لأنَّه اليوم الذي قال لها : أُحبُّك ...
فكرة أنَّ للأرقام دلالات غير مرئيَّة بدأت تترسَّخ في مُخيَّلة كريستل وفِي طريقة تفكيرها وتصرُّفها، لدرجة أنَّ أي عمل أصبحت تقوم به تتردد كثيراً في حسمه، إلى أن يقرُّ قرارها على يوم مُحَدَّد، يرمز إلى ذكرى أو حادثة وقعَّت مع حبيبها أو مع والدتها التي أجبتها كثيراً ...
قضى الإتفاق الذي عقدته كريستل مع والدها بأن يبقى معها في باريس لفترة قصيرة إلى حين تُدبِّر أمور دخولها الجامعة. لكن بقيت لديها مسألة خلافية واحدة مع والدها.
هو يريدها أن تدخل كليَّة إدارة الاعمال، أمَّا هي كانت تُصِّر على دخولها كلية الحقوق في جامعة السوربون. حيث لكلٍ منهما غايته في ذلك.
غاية الوالد واضحة وهي أن تتسلَّم كريسْتِّل بعد تخرُّجها من كليَّة إدارة الأعمال إدارة شركاته وممتلكاته بعد عودتها إلى لبنان. وهي كانت تحاول إقناعه بأنَّ نيلها لشهادة الحقوق تسمح لها بإدارة شركاته بطريقة أفضل ودراستها لإدارة الأعمال لن تسمح لها أن تكون متمكِّنة على قدر من السيطرة الفعليَّة.
من الشروط التي وضعتها كريستل على والدها أن يكون العم فؤاد هو سائقها في باريس، لأنَّها بعد فقدان والدتها لم يتبقَ لديها من يُذكِّرها بحبيبها مستر واو إلَّا العم فؤاد لأنَّه بقي في جولات الحرب الأهليَّة ناقلاً أخباره لها.
في الخامس والعشرون من الشهر موعد السفر، بدأ العم فؤاد نهاره حزيناً وقلقاً على السيَّدة الصغيرة، يمنعها من حمل أي شئ. ينهض مسرعاً يساعدها في حمل أغراضها.
الدموع انهمرت غزيرة من عُيون العم فؤاد، تارةً يمسحها بأكمام قميصه وتارَّة أُخرى يُكمل عمله في جمع أغراض السيَّدة الصغيرة وحملها إلى السيَّارة، إيذاناً بالبدء برحلة السفر.
لاحظت كريستل دموع العم فؤاد فتقدَّمت منه وقالت : أبكيتني يا عم فؤاد … ماذا أصابك ؟.
أجابها : ماذا تتوقَّعين من إنسان لم يفارقك لحظة واحدة منذ يوم ولادتك !
لم تذهبِ يوماً إلى مدرستك أو جامعتك إلَّا وكنت سائقك الأمين.
لم تزورِ أحداً أو تحضري احتفالاً إلَّا وكنت حارسك البصير.
والذي يؤلمني أكثر أنَّني لم أتزوَّج، وكنتِ أنتِ بمثابة إبنتي أشاهدها تكبر يوماً بعد يوم أمام ناظري.
بالإضافة لذلك والذي يؤرِّقني أنَّ السيَّدة الكبيرة والدتك، قبل وفاتها أوصتني، على أثر الخلاف مع الوالد أن لا أتركك لحظة أو أن تغيبي عن ناظري وأن أكون بقربك في جميع الحالات، حزينة كنت أم سعيدة !
هذا ما أنا فيه الآن … وانهمرت الدموع مُجدَّّداً من مقلتيه تُبلِْل وجهه ويمسحها جاهداً في يديه.
ابتسمت كريستل وقالت له : عم فؤاد … وهل تظنُّ أنِّي ذاهبة إلى فرنسا من دونك ؟
أجابها مُتلعثماً : ماذا تقولين ؟
كانت مُفاجئة مدويَّة بالنسبة للعم فؤاد، تلقَّفها وتبدَّلت ملامحه رأساً على عقب، حلَّت الابتسامة مكان الحزن وعاد إليه الفرح بعد فترة عصيبة من القلق على كريستل.
قالت له : من شروطي التعجيزية التي وضعتها على والدي أن تكون معي في باريس، وأن يكون لك غرفة خاصَّة وسيَّارة جديدة كالتي تحبُّها ( رينو ).
أنت تأخذني فيها إلى الجامعة وأنت تنتظرني وتُعيدني إلى البيت.
لم يتمالك العم فؤاد نفسه، فانهار باكياً مقبِّلاً يديها ووجهها، داعياً الله إن يحفظها في حلِّها وترحالها وأن يأخذ بيدها.
ضحكت كريستل كثيراً في تلك اللحظات وقالت له :
مهلاً مهلاً عم فؤاد …
هناك شرطٌ واحد …
قال لها أنتِ تأمرين …
قالت كريستل :
سِمَّة دخولك إلى فرنسا مؤمَّنة وستكون مع والدي فور عودته من قبرص بعدما أجازها صديقه السفير الفرنسي الذي يقيم مؤقتاً هناك. والشرط هو أنَّه في حال استتاب الأمن، وتوقُّف إطلاق النار جراء هدنة أو إتفاق، عليك زيارة أهل صديقي في بيروت، وفي حال لم تجدهم إصعد إلى الجبل وإلى قريته وإلى بيت أهله تحديداً، لأَنِّي أريد أن أعرف كل اخباره.
واردفت قائلة :
لن تسافر إلى باريس إذا لم يكن بحوزتك اخباره، ماطل وقم بتأجيل سفرك حتى تتمكَّن من زيارة أهله وتقصِّي معلومات عنه.
أجابها العم فؤاد :
سمعاً وطاعةً ...
سأجلب لك كل أخباره …
فأنا أحببت هذا الشاب …
لسب واحد فقط... لأنَّه يعشقك.
مع هبوط الطائرة في مطار أُورلي في باريس، أحسَّت كريستل أنَّ حياتها تبدَّلت وتغيرَّت.
وبالرغم من دخولها كليَّة الحقوق في جامعة السوربون وحتى فترات لاحقة، لم تشعر كريستل بأنَّها تنتمي إلى الحياة الاجتماعية في فرنسا. حاولت جاهدة أن تندمج في ذلك المجتمع وأن يكون لديها أصدقاء لبنانيين، لكنَّها لم تفلح بذلك.
قلَّة قليلة جداً منهم استحوذوا على إهتمامها، فإنكبت على الدراسة وتمنَّعت عن ارتياد الحفلات الصاخبة في أروقة الجامعة، والسبب في ذلك فقدانها لصديق تأنس إليه أو تُغنِّي له.
أخبار حبيبها مستر واو المقطوعة أقلقها جداً عليه. هذا القلق انقلب استياءً من تأخر قُدُوم العم فؤاد.
لهفتها إلى معرفة أخبار مستر( واو ) جعلها تعاتب والدها على تأخُّر صدور سِمَّة دخول العم فؤاد إلى فرنسا. إلى أن فاجأها والدها بخبر قدوم العم فؤاد الأسبوع المقبل إلى فرنسا.
أصرَّت على مرافقة والدها إلى المطار. وما إن وصل العم فؤاد حتى عانقته وقد بدا هزيلاً مُتعباً من عناء الإبحار إلى قبرص على متن باخرة تحمل سيَّارات لبنانية ومقتنيات وأثاث منازل، تعجُّ باللبنانيين الهاربين من جحيم الحرب.
أخبرها العم فؤاد عن رحلة العذاب وكيف بقي في مطار قبرص مدَّة يومين منتظراً الطائرة المتوجِّهة إلى باريس، خائفاً وقلقاً أن يؤول مقعده إلى أحد النافذين اللبنانيين.
قال لها بصوت متهدِّج : لا تغضبي يا حبيبتي، اللبنانيون في قبرص في هياج تام، الفاجر منهم يأكل مال الضعيف أمثالي، ولو كنت معكم لما خالجني أي خوف، ولما تجرَّأ عليَّ أحد.
عند وصلولهم إلى المسكن أخذته إلى غرفته وقالت له :
ما هي اخباره ؟
طأطأ رأسه حزيناً متألِّماً لا تخرج منه الكلمات.
نهرته كريستل خائفة : ما بك ؟
وعلى جري عادتها كرَّت سبحة الأسئلة :
هل هو حي أم ميت ؟
هل التقيته …
هل التقيت أهله …
هل ما زال في بيروت أم انتقل إلى الجبل ؟
هل سافر …
هل حصل له مكروه ؟.
أجابها : مهلاً يا حبيبتي ....
لم أجده في بيروت ولم أجده في الجبل !
قال لي جيرانه عندما زرتهم آخر مرَّة أي قبل ثلاثة أيَّام من قدومي، أنَّه سافر قبل أهله إلى الولايات المتحدة الاميركية عبر مطار دمشق، وأنَّ والده هو الذي أوصله إلى المطار.
كذلك قالوا الجيران أنَّ أهله سافروا إلى الأردن وأعطوهم مفتاح البيت للاهتمام به في غيابهم.
لم تقوَ كريستل على سماع هذه الأخبار، فاجهشت بالبكاء
وجلست أمام نافذة غرفة العم فؤاد الصغيرة.
وردَّدت بحزن : هذا اليوم هو أتعس أيَّام حياتي.
ضاع مني صديقي …
ورحل عني حبيبي …
وماتت أُمي …
وماذا بعد ؟
لم يبقَ لي سوى الذكريات !
حاول العم فؤاد أن يُهدئ من روعها ولوعتها لم يفلّح. كأنَّ هموم الكون تجمَّعت كلها ووقعت عليها دفعةً واحدة.
وكأنَّ الْحُزْن بات رفيقها الدائم …
وكأنَّ الوحدة باتت رفيقتها الأبدية …
بعد هذا اليوم عادت كريستل لتختار اللون الأسود في معظم الأيام. تذهب صباحاً إلى الجامعة وتعود عصراً. تدخل غرفتها ولا تبرحها إلَّا لتناول الطعام.
لم يبقَ لها سوى العم فؤاد الذي من فرط عاطفته وحنانه عليها، وضع كرسياً خشبياً أمام باب غرفتها حتى يتسنَّى له أن يسمعها إن أرادت شيئاً أو طلبت استغاثة، إلى أن سأله والدها يوماً، إلى متى ستبقى جالساً أمام هذه الغرفة ؟
أجابه : إلى أن تنقلني إلى القبر محمولاً في هذه الكرسي.
بسبب غزارة عاطفتها ودماثة أخلاقها وعظمة إنسانيَّتها، كانت كريستل تشفق على العم فؤاد ولا تجرح كبريائه وتطلب إليه أن يترك باب غرفتها حتى يبحث لها عن زهرة كراون دايسي في شارع الشانزليزيه.
ويُجيبها مُتسائلاً : أفي هذا الشارع توجد أزهار بريَّة ؟تُجيبه : إفعل ما أقوله لك.
وبحزن وألم تقول له، حتى في أميركا اشعر بأنَّه يبحث لي عن زهرة كراون دايسي.
كانت كريستل بهذه الطريقة التي تختزن فيها أسمى مكنونات رد الجميل والعطف والاحترام لهذا الرجل الذي يعطيها المحبة دون حساب، تجعله يمشي ويتجوَّل في شارع كان ملقى وإعجاب سكان العالم.
وعندما كان يهِمُّ بالخروج يسألها:
ماذا تريدين أن أجلب لك …
تُجيبه جريدة لبنانية.
لم تقرأ في حياتها وطيلة مكوثها في فرنسا أيَّة جريدة لبنانية، لأنَّ من تريد أن تعرف اخباره ليس في لبنان ولا يهمُّها أخبار لبنان، بل كانت الجريدة تطلبها حتى يقرأها العم فؤاد.
نالت كريستل الدكتوراه في الحقوق بدرجة إمتياز. وأقام لها والدها حفلاً دعى إليه معظم الجالية اللبنانية في فرنسا، وخصَّ بالدعوة زملاءها وأستاذها الذي ناقش أطروحتها.
بعد انتهاء مراسم الاحتفالات والعشاء الفاخر من مطعم مكسيم الشهير في باريس، ووصلات من الرقص قامت بها فرقة من فناني ملهى ( المولان روج ). تقدَّم منها والدها وطبع على خدها قبلة وسلمَّها قلادة من الذهب الخالص، فيها مفتاح سيارة من الذهب الخالص أيضاً.
وقال لها : مثل هذه الهدية وأغلى منها ستكون يوم زفافك.
لم تفهم كريستل قصده، فقالت له :
لم أفكِّر بعد بالزواج.
أجابها : شارفت أيامي على خريف العمر، وأريد أن أرى أحفادي، واليوم إتصل صديقي من موناكو ودعانا أنا وأنت إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في منزله، لأنَّ إبنه الوحيد قد ابتاع يختاً ويريدنا أن نقوم معه بنزهة عائلية بحرية.
ارتعدت فرائصها وقالت بغضب شديد :
تريدني أن أمخر عباب البحر مع إبنه المكتنز مالاً والفقير فكراً ؟.
وعدّدت صفاته وقالت : هذا لن يحصل.
وتابعت بعصبيّّة : في الماضي رفضت صديق دراستي، والآن تفرض عليَّ إبن صديقك الثري الخالي علماً وفكراً. وأنا السيدة التي تحمل شهادة دكتوراه في القانون من جامعة السوربون !
تابعت بحدَّة : تختار لي زوجاً !
فليكن معلوماً لديك، لن اتزوَّج لبناني …
والذي ساتزوَّجه هو ثري من طرازك، ويفوقك شأناً اجتماعياً … إنَّه استاذي في السوربون الذي أشرف على أطروحتي … إنَّه الدكتور جاك ،،،،،
لم يحتمل والدها هذا الكلام …
فقال لها إنَّه أكبر منك بسنوات …
قالت كريستل عندما تقدَّم زميلي وصديقي والشخص الذي أحبَّبته رفضت لأنَّه ليس من مستواك الاجتماعي والمادي، ولم تهتم بالعمر !
واليوم ترفض بسبب العمر؟.
أبلغك … هذا هو قراري النهائي …
لانَّ الزواج عندي الآن هو أن أؤمِّن لك وريثاً من بعدي.
الجزء الخامس :
الفصل السابع عشر.
الزواج عندي الآن هو أن أُوَّمن لك وريثاً من بعدي ...
هذاما قالته الدكتورة كريستل لوالدها ودخلت غرفتها وأجهشت بالبكاء.
لم تعد تحتمل كريستل أعباء الحياة، تُصارع وحيدة الضربة تلو الأُخرى. لكن يبقى موت شقيقها الوحيد خلال حادث سير مروِّع على طريق ساحل النورماندي، الضربة الأقصى التي تلقَّتها في حياتها وأنهكت قواها وبقيت طوال حياتها ترزح تحت وطأتها حيث اعتبرت نفسها المسؤولة عن تلك الحادثة.
انقطاع أخبار حبيبها مستر واو وبُعدها عنه أحدث فراغاً عاطفياً لدى كريستل التي أرادت أن تملأه من خلال الانخراط في الأنشطة الاجتماعية، حيث كانت التحرُّكات الطلابيَّة في جامعة السوربون حيث تدرس الحقوق، وفِي الجامعات الأُخرى في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تشهد نشاطاً مُتزايداً، كان يؤدي في بعض الأحيان إلى اصطدامات مع الشرطة.
لكن بالرغم من ذلك لم تكن كريستل تُلبِّي أي دعوة من الدعوات التي كانت تنهمر عليها بكثرة، فغياب حبيبها ( مستر واو ) والفراغ الذي أحدثه لم يستطع أحد أن يملأه، لذلك أدارت وجهها باتجاه الجمعيَّات المدنيَّة وانخرطت فيها، وشيئاً فشيئاً زاد شغفها بالدور التطوُّعي وتنامى دورها في هذه الجمعيَّات، حتى باتت محط أنظار الجميع.
العمل في الحقل التطوُّعي والجمعيَّات المدنيَّة أعادها بالذاكرة إلى ( مستر واو ) الذي كان يشبِّهها دائما ويُطلق عليها ( مدام همرشولد ) وذلك بسبب قُدرتها الفائقة في حل مشاكل زملائها وتدوير الزوايا أثناء خلافات الطلاب.
همرشولد هذا كان أميناً عاماً سابقاً للأُمم المتحدة، وقد أُشتهر بدبلوماسيته وقدرته على فضِّ النزاعات. لقب مدام همرشولد عندما يُناديها به حبيبها كان يُضحك كريستل كثيراً، ولإغاظته واحراجه ومن باب التدلُّل والغنج والعشق كانت تسأله من تُحِّب أكثر …
كريستل أم مدام همرشولد.
فيُجيبها : كريستل همرشولد …
فتضحك ( وتحرد ) ليجيبها بأنَّها الوحيدة التي تتربَّع على عرش قلبه، فتتنفس الصعداء.
لم تفعل كريستل شيئاً في فرنسا ألَّا وله دلالات في علم الأرقام يشير في مضمونه إلى حبيبها ووالدتها المتوفاة !
ذاع صيت كريستل في أواخر سنوات الدراسة في كليَّة الحقوق في أروقة السوربون ولمع إسمها خصوصاً في المجال التطوُّعي الطلابي والهيئات والجمعيَّات المدنيَّة، فهي الثريَّة والذكيَّة والقديرة ذات الأخلاق الرفيعة والصيت الحسن.
استدعاها عميد الجامعة وأخبرها أنَّ شهري أيار وحزيران من هذه السنة سيكونا مُختلفين، حيث ستُقام حفلات وطنيَّة في النورماندي بمناسبة ذكرى الإنزال البحري للحلفاء وتحرير فرنسا من النازيَّة في نهاية الحرب العالمية الثانية.
تابع عميد الجامعة موجِّهاً حديثه لكريستل إنَّ رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس وزراء إنكلترا سيكونان من بين الحضور، وقد طلبت الحكومة الفرنسية من جامعة السوربون القيام بالتحضيرات اللازمة والمشاركة في الحفل من خلال إلقاء الضوء على المعاهدات القانونيَّة التى تلت هذا الاجتياح، وأنَّ إدارة الجامعة اختارتك على رأس فريق من طلاب الحقوق يُشرف عليه الدكتور جاك .......
فرحت كريستل كثيراً ولكنَّها اشترطت أن يكون اللقاء الأوَّل لها في النورماندي يوم ٢٥ أيار.
لم يفهم الدكتور جاك ،،،،،، السبب في تحديد هذا اليوم لكن رضخ لطلب كريستل وتواعد الفريق أن يكون التئام اللقاء الأوَّل لهذا الفريق في اليوم الذي قرَّرته كريستل.
وصل شقيق كريستل لتوِّه من بيروت، وما إن وصل حتى أهداه والده على المطار سيارة جديدة، إختارت كريستل لونها، وهو اللون الأحمر الذي تُحبه كثيراً ولا تفضِّل لوناً آخر عليه، وتختاره حتى في تلوين أظفارها.
بعد غد في ٢٥ أيار سنذهب إلى النورماندي في سيارتك الجديدة، أنت تمضي إجازتك هناك على الشاطئ اللازورّدي وأنا أنهي عملي. هذا ما قالته كريستل لشقيقها وانصرفت لتنهي ذلك العمل حيث سجَّلت نجاحاً باهراً، فلم تترك معاهدة دولية إلَّا وذكرتها، بحيث نالت اعجاب الجميع.
غالباً ما كانت كريستل تخوض نقاشات صاخبة مع الدكتور جاك وتغمز دائماً من قناة دور فرنسا في إنهاء انتدابها لوطنها لبنان، وتُقارنه مع دور الولايات المتحدة الأميركية بعد إنزال النورماندي. كانت تقول جِهاراً وعلناً أنَّ فرنسا تركت لبنان بعد انتهاء انتدابها يتخبَّط بالمشاكل، بينما أميركا بعد إنزال النورماندي، جعل من فرنسا دولة عُظمى.
سِعة إطلاعها وثقافتها الواسعة كانا السبب في لفت نظر الجميع إليها، على رأسهم زُملاؤها الذين كانوا يكنُّون لها واسع الاحترام والتقدير خاصة رئيس الفريق.
لكن بالرغم من تلك النجاحات، لم تكن نار الشوق تخبو داخلها حين تجتاحها الذكريات والأيام ( الملاح ) لدرجة أنَّها أصبحت تؤمن وتعتقد بأنَّ أي مكروه يحدث لها، هو بسبب عدم وقوفها إلى جانب حبيبها مستر واو، وأكثر ما يُشعرها بعقدة الذنب هي تلك اللحظة التي لم تواجه فيها والدها يوم وجَّه كلامه القاسي لحبيبها.
العودَّة إلى تلك اللحظات القاسية كان يزيد كريستل ألماً وغضباً، حيث كانت تناجي ربُّها دائماً كيف لم يمنحها القوَّة لكي تتدخَّل وتدافع عن حبيب العمر مستر واو بدل أن تتركه وحيداً يُقاسي ويُعاني.
خلال أحد إجتماعات النورماندي وقبل حفل الافتتاح وقعت الفاجعة الكبرى، وما لم يكن بالحسبان. مات شقيق كريستل في حادث سير مروِّع على الشاطئ الذي كان لازوردياً لكنه تحوَّل إلى أسود عشيَّة ذلك النهار المشؤوم.
إلتفَّ الجميع حول كريستل، زملاؤها والمشرف على الفريق وإدارة جامعة السوربون، التي طلبت من الحكومة الفرنسية إنهاء التحقيق بأقصى سرعة ممكنة.
كل ذلك ارضاءً لحُزن كريستل …
وتخفيفاً لشجون كريستل …
عادت كريستل إلى باريس برفقة جُثمان شقيقها الوحيد. وبزغ في حياتها فجر العذاب والألم والقهر.
وخيَّم عليها خريف الأحزان والحرمان.
صار النَدمُ رفيقاً لها طوال أيامها. يقضُّ مضجعها ويؤرِّق لياليها.
لم تيأس كريستل عندما رأت والدها ينهار فخاطبته أمام الجُموع : صبراً يا أبي، فالأبناء لا يموتون بل يُرزقون أحياء من جديد، وهذا ما أعدك به أمام الملأ وأمام الله.
الفصل الثامن عشر
على جري عادتها في فرض الشروط التعجيزية، طلبت كريستل من الدكتور جاك ،،،،،، الزوج المُعلن والمُتفق عليه أن يُعلمها عن الهدية التي سيقدمها لها قبل الزواج.
وبما أنَّه ينتمي إلى عائلة ثريَّة وسياسية، بدأ بتعداد ما سيؤول إليها من حقوق عينية ومادية وجواهر وأملاك وعقارات منها مزرعة في ريف باريس.
أجابته كريستل : كل ذلك لا يعنيني ولا يهمُّني ولا يُثير فضولي.
أجابها جاك متعجباً : ماذا، تطلبين إذن ؟.
شيء واحد فقط أُريده ويكون هدية زواجي … الجنسية الفرنسية.
بعد هذه الجملة صمتت كريستل ليجيبها الدكتور جاك دون ترَدُّد :
بعد عقد القران بأقل من ثلاثة أشهر، سيصلك بالبريد شهادة تُثبت حصولك على الجنسية الفرنسية.
لكن كريستل بصوت واثق قالت :
أعلم ذلك … لكنِّي أريدها قبل الزواج فشروط استحقاقي للجنسيَّة متوفِّرة، لكن القانون الفرنسي وَمِسخه القانون اللبناني ينخرهما الفساد الاداري، والمُعاملة فيهما تحتاج إلى توسُّط وغش وخداع وكذب لنيل الجنسيَّة، بخلاف القانون الأميركي الذي لا يؤمن إلَّا بسيادة القانون.
هذا هو شرطي حتى أُعلن قبولي بالزواج منك.
قالت كريستل كلمتها ومشت غير آبهة بأيَّة ردود فعل.
لم يحتّمل والدها هذا الشرط التعجيزي فسألها :
لماذا كل هذا …
ما دمت ستحصلين على الجنسيَّة الفرنسيه دون هذا الشرط.
التفتت واجابت كريستل بعنفوان وتحدٍ وكبرياء يُخفي في حناياه الغصَّة والقهر وحتى فقدان الأمل.
أُريد تغيير إسمي وهويِّتي وجنسيَّتي وانتمائي قبل الزواج، وعلى الطريقة التي أريدها.
أكره إسمي وأُريد إسماً جديداً غير هذا الإسم.
إسمي القديم ( …… ) أصبح من الماضي.
إسمي الجديد هو كريستل ….
أجابها الزوج المُتفق عليه سأفعل كل ما بوسعي.
وفَّى الدكتور جاك بوعده وبأقل من ثلاثة أشهر وصل إلى كريستل كتاب يدعوها إلى مقابلة … وامتحان خطي في تاريخ فرنسا. نجحت فيهما.
وأصبح إسمها الجديد كريستل.
كريستل فخامة الإسم تكفي …
وهو الذي يُرضي سِراً دفيناً ستحتفظ به كريستل ما دام قلبها ينبض بالحياة، وكيف لا وهو الإسم الذي أطلقه عليها حبيبها مستر واو منذ عقود واشترطت في وقتها أن يبقى سِراً بينهما.
الجنسية الفرنسية هو ما أصبحت تحمله كريستل على هويَّتها وجواز سفرها وشهادتها الجامعية التي حازت عليها من السوربون.
ساءت صحة العم فؤاد بعد سنوات طويلة أمضاها في فرنسا.
نهشه المرض وأُصيب بهزال شديد، كِبَر سنِّه وعجزه جعلاه لا يبرُح غرفته، إلى إن سمعته كريستل يوماً وخفيةً عنها يطلب من والدها أن يُعيده إلى لبنان حتى يموت هناك.
تدخَّلت كريستل وانتفضت كالسيل الجارف لتقول :
لن يحصل هذا قبل أن يسمح الأطباء الذين يعالجونك بالسفر.
قال لها العم فؤاد، بالرغم أنَّ لا عائلة لي في لبنان لكنِّي أفضل الموت هناك.
أجابته كريستل والحزن يعتصر صوتها : أنت عائلتي لن أتركك تُغادر فرنسا إلَّا بعد موافقة الأطباء، وقد حجزت لك غرفة في المستشفى وسأكون معك حتى تنتهي من جميع الفحوصات الطبيَّة.
أضافت كريستل وقد تغيَّرت لهجتها لتصبح بلغة الأمر : وليكن معلوماً لديك، ستبقى معي حتى انتهاء مراسم الزواج، وتسافر معنا إلى لبنان وتستقرَّ هناك تحت رعايتي وإشرافي مُعزَّزاً مُكرَّماً حتى أخر يوم في حياتك.
لم تستطع كريستل إكمال حديثها فأجهشت بالبكاء وضمَّت العم فؤاد إلى صدرها وقالت له :
سيكون لك ما تريد :
سأشتري لك أرضاً في قرية مستر واو.
وسأبني لك منزلاً قريباً من منزل أهله. حتى أُوفِّر عليك عناء تقصِّي أخباره وتُعلمني إذا عاد.
إلى هذا الحد لا زلت تُحبِّيه ؟. سألها العم فؤاد ؟.
أجابت كريستل والدموع تلمع في عينيها :
وأكثر … لقد غيَّرت إسمي حتى يذكِّرني الناس من حولي به عندما ينادون بإسمي. هذا الإسم لا يعلم به إلَّا ثلاثة : هو وأُمي وأنت.
كلُّكم ستغيبون عني إلَّا إسم كريستل …
الذي أحبَّه حبيبي ووهبني نعمة سماعي صوته يناديني به.
سيقى هذا الاسم لي …
ومن هو بعدي …
مراسم الزواج كانت عادية جداً وبسيطة ...
هكذا أرادتها كريستل. إختارت يوماً لحفل الزواج يعود تاريخه إلى يوم قدوم العم فؤاد منذ سنوات عدة من لبنان، حيث أعلمها انقطاع أخبار حبيبها مستر واو، وقد كان النهار في الثالث من ذلك الشهر.
لم يُوافق والد كريستل عندما علم بأنَّ ابنته قررت أن يكون يوم زواجها في الثالث من الشهر المقبل، باعتباره يُصادف يوم الخميس وهو يريده أن يكون يوم سبت أو أحد.
كل من هو حول كريستل أصبح لا يُناقش قراراً تتَّخذه أو أمراً تُريده، خصوصاً فيما يخص الأرقام، حيث تحوَّلت الأخيرة هاجساً لديها تطوِّعه كيفما تشاء.
عاشت كريستل سعيدة مع زوجها وزادت سعادتها عندما رُزقت بإبنة أطلقت عليها اسم كريستل، وعاد العم فؤاد يُردِّد عبارته الشهيرة : السِّت الكبيرة كريستل، والسِّت الصغيرة كريستل.
راحت كريستل تتنقَّل ما بين باريس وبيروت.
في الأولى تُدير مكتباً للاستشارات القانونيَّة الدولية، وفي الثانية تُدير مكتباً لإدارة أعمال والدها الذي تقاعد عن العمل وسكن باريس يلهو ويمضي أجمل الأوقات مع حفيدته كريستل الصغيرة، والتي شارفت على دخول الجامعة ذاتها السوربون.
لم تعد تسمع كريستل بالعبارات المحبَّبة إلى قلبها السِّت الكبيرة كريستل، والسِّت الصغيرة كريستل …
مات العم فؤاد ودُفن كما أراد في قرية حبيب كريستل مستر واو.
وهناك واظبت كريستل كل سنة على زيارة ضريحه. تختلي به وتسأله :
هل رأيته …
هل زارك يوماً …
هل … هل … ووو هل.
لم يمضِ وقت طويل على وفاة العم فؤاد حتى تُوفي الدكتور جاك أيضاً، وبناءً لطلبه كان مرقده الأخير في قصره في ريف باريس.
الجزء السادس
الفصل التاسع عشر.
بدأ الربيع العربي بإطلالته المُبكرة يُنذر بالوجوم والسموم وعواقب الأمور. كانت أخبار المشرق العربي تملئ الصحف والمجلات بشتَّى ألوان الكذب والخداع والتدجيل.
كانت الدكتورة كريستل تتساءل أمام زبائن مكتبها الحقوقي في باريس، وهم يعرضون مشاكلهم ويطلبون مشورتها القانونية، أنَّها لم تعد تناقش من يقول أنَّ التاريخ العربي وخاصَّة اللبناني كاذب ومُغاير للحقيقة، نظراً وبالرغم من أنَّنا على مشارف القرن الواحد والعشرين المترابط معلوماتياً، حيث ما زالت تتدفَّق الأخبار المتناقضة في وسائل الاعلام الرسميَّة والخاصَّة والأجنبيَّة.
وراحت الدكتورة كريستل في تشكيكها إلى حد أنَّ كل خبر يصدر من لبنان بحاجة إلى هيئة دوليَّة للتحقُّق من صحَّته.
ذاع صيت الدكتور كريستل في بدايات القرن الحالي وهي خريجة جامعة السوربون، ولمعت خبرتها في مجال المُرافعات القانونيَّة أمام المحاكم الجنائيَّة الدوليَّة وأمام محكمة العدل الدوليَّة. وقد برعت في المرافعة ضدَّ جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب خاصة جرائم أوغندا والكونغو.
رفضت الدكتورة كريستل رفضاً قاطعا أن تُرافع في محكمة دوليَّة خاصَّة تتعلَّق بجرائم أُرتكبت في العالم العربي وخاصَّة في موطنها لبنان، لدرجة أنَّ والدها تدَّخل لثنيها عن هذا القرار لكنَّه عبثاً حاول.
كانت تقول لوالدها أنَّ حقوق الانسان منعدمة على أرض الواقع في عالمنا العربي وخاصَّة لبنان، والدليل أنَّ صفحات الدساتير البالية في طول البلاد العربية وعرضها فاحت روائحها الكريهة لعفونة المواد ولانعدام تطبيقها.
بالرغم من أنَّه قارب التسعين من عمره، إلَّا أنَّ والد الدكتورة كريستل فضَّل الانتقال من بيروت إلى باريس للإقامة الدائمة فيها، نظراً لصعوبة الحياة في لبنان وانعدام الخدمات فيه، خصوصاً بعد موجات اللجوء من الجوار، فانعدمت أبسط الضرورات الحياتية كالكهرباء والمياه وطرق الاتصال السلكية واللاسلكية.
سببٌ إضافي حفَّزه على اتخاذ قراره هذا هو حفيدته كريستل، شغله الشاغل، وشغفه الدائم.
كريستل الإبنة الجميلة والحفيدة المُدلَّلة والتلميذة الجامعيَّة النجيبة قاربت أواخر عشرينيات عمرها، وقد أنهت أُطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في علوم الماورائيات والأساطير.
السِّت الصغيرة كريستل كما كان يناديها العم فؤاد، كانت تتردَّد كل يوم على مكتب والدتها، وقد نشأت بينهنَّ علاقة شقيقتين أكثر منها علاقة ما بين الأُم وأبنتها. كُنَّ يخرجن إلى المطاعم ودور الأزياء سوياً، وكُنَّ يرتدنَ صبيحة كل أحد مطعم لبناني في أحد شوارع باريس الشعبية لتناول الفول والحمُّص.
لم تكن كريستل الصغيرة أقلُّ ذكاءً من كريستل الكبيرة، وقد لاحظت أموراً ترافق والدتها منها : كثرة الأزهار الذابلة داخل وخارج كُتُبها وملفَّاتها المنتشرة في أرجاء المكتب. وقد لفتها أنَّ مُدبِّرة المكتب لا ترمي الزهور حتى ولو كانت زهرة ذابلة واحدة، سواء كانت على طاولة الاجتماعات أو وقعت على الأرض، بل تُعيدها إلى طبقٍ مليئ بهذه الأزهار الذابلة.
لاحظت كريستل أنَّ والدتها تستعمل هذه الأزهار كفواصل ما بين الصفحات، فإن أرادت أن تُشير إلى صفحة ما، تنزع زهرة ومن ثم تُعيدها إلى المكان ذاته.
لكن الذي كان لافتاً على مكتب والدتها لا يبارحه أبداً، هو ذلك الإطار من الذهب الخالص الذي يحتضن رسماً بخط اليد لهذه الزهرة.
ليس هذا كل ما لاحظته كريستل الإبنة، فالمرآة الصغيرة التي كانت تحتفظ بها والدتها داخل حقيبة يدها وعلى مدار الأيَّام، غطاؤها مرسومٌ عليه أزهار من النوع ذاته. وهو ما تراه منذ أن كانت طفلة.
إلى أن لفتها يوماً أمراً غريباً لم تعتده من قبل، إذ سمعت والدتها تعاتب مُدبرَّة مكتبها وتسألها بامتعاض عن سِرْ تناقص أعداد الأزهار وعمَّا إذا كانت تقوم برميها في سلَّة المهملات !.
لم تعهد كريستل الإبنة والدتها بهذا الغضب والتدقيق. وعلى ماذا ؟ على أزهار ذابلة يجب أن تُرمى في سلَّة المهملات !.
دخلت كريستل الصغيرة مكتب والدتها وهدَّأت من روعها، وقالت لها سأنزل فوراً وأشتري لك باقات من الأزهار النضرة اليافعة بدلاً من هذه الذابلة.
أجابتها والدتها بلهجة غاضبة آمرة : إيَّاك أن تُزيِّني مكتبي بأي نوع من الأزهار.
استغربت كريستل الإبنة هذا الغضب وهذا التنبيه فقالت لها :
لا داعي لكل هذا الغضب وما قيمة هذا النوع من الأزهار الذي لم أرَ مثلها في حياتي.
هدَّأت الدكتورة كريستل من روع واستغراب إبنتها، وراحت تشرح ماهية هذه الزهرة فقالت أنَّ إسمها كراون دايسي، وهي زهرة برية تنمو في براري وجبال لبنان.
وقبل أن تكمل الدكتورة كريستل، قاطع حديثها وصول عميد كلية الاداب والعلوم الانسانية في السوربون إلى المكتب بناءً على موعد سابق.
دخل عميد الكليَّة المكتب، ولحقت بهم كريستل الإبنة حيث دار بينهم حديث عن الأُطروحة التي تُعدُّها كريستل حول علوم الماورائيات والأساطير.
تحدَّث عميد الكلية عن الأُطروحة فقال إنَّ موضوعها حساس جداً نظراً إلى أنَّ العالم العربي يجتاحه اليوم التزمُّت الديني وحروب التكفير المُدمِّرة والتي بمُجملها تجافي فكرة الأُسطورة، وتنعت علومها بالزندقة إنْ أُعتبرت أنَّها تتماشى مع عصرنا الحاضر، وبالتالي معظم الأساتذة الذين يتقنون العربية والفرنسيه في فرنسا، تجنَّبوا نقاش الأُطروحة، وبالتالي قرَّرت الكليَّة الاستعانة بأستاذ جامعي متخصص بهذا الحقل، من إحدى الجامعات الأميركية حيث ننكبُّ حالياً على دراسة الأسماء واختيار الأنسب.
لم تعترض كريستل الأُم على زميل دراستها ورأيه، بل استعجلته أن يُسْرع في إختيار الاسم. وبينما كان عميد الكلية يهمُّ بالخروج من مكتب والدتها، قام بتسليم كريستل الطالبة لائحة بالكتب التي يقترح عليها أن تقرأها.
ودَّعت كريستل والدتها على أن تلتقيها في مساء ذلك اليوم.
وصلت إلى غرفتها واستلقت على سريرها. وما إن فتحت ورقة العميد وقرأت أسماء الكتب حتى هبَّت كالمجنونة إلى حاسوبها تُفتِّش في الإنترنت عن كتاب بعنوان :
قِصَّة كراون دايسي وكريستل.
للكاتب .......
إصدار جامعة هارفرد.
تاريخ الإصدار : العام ٢٠١٥
وغلاف الكتاب عليه نصف صورة لفتاة تُشبه والدتها وهي صبية، تضع إكليلا من أزهار كراون دايسي.
وفي صفحة الغلاف الأخير مجموعة أزهار من ( كراون دايسي ) على شكل قلب.
لم تنم كريستل الإبنة تلك الليلة.
أرَّقتها الأزهار التي تملأ عالمها ألغازاً وأسراراً.
في كل مكان أزهار كراون دايسي.
ما حكاية تلك الأزهار ؟.
والدتها تغرق بها …
أزهار ذابلة في مكتب والدتها …
ومرآة في الحقيبة عليه رسومات من زهرة كراون دايسي. والأهم الأهم رسم زهرة كراون دايسي بخط اليد داخل إطار من الذهب الخالص.
والذي زاد الأُمور غرابة صورة غِلاف الكتاب يحمل صورة لنصف وجه فتاة تُشْبِه والدتها وهي صبيَّة في عُمْر الزهور ...
الجزء السابع
الفصل العشرون.
اقبل ربيع العام ٢٠١٥ على الدكتورة كريستل الأُم شبيهاً بالربيع الجاثم على أُمَّة بلاد العرب. في بلاد ما بين النهرين جرت الدماء أنهاراً وعلا عواء الكلاب المسعورة وماتت الضمائر ميتة الجياف، وأشرأب التزمُّت الديني وغرز أنيابه وأظافره في عقول البشر، فدخلوا الكهوف نياماً نوماً أبدياً سرمدياً.
سواء كانت في باريس أو في موطنها الذي كان لبنان، أقبلت الدكتورة كريستل الأُم على الستين من العمر، وهي تبدو رتيبة، حزينة، قلقة، شاحبة، شاردة، لا يوقظها إلَّا أمران :
الأوَّل مُناقشة أُطروحة إبنتها كريستل الذي بات على بُعد أشهرٍ عدة.
والثاني أسئلة إبنتها المتكرَّرة كزخَّات المطر في ليلٍ عاصف ماطر مُكفهّر بصورة شبه يومية عن زهرة كراون دايسي وعلاقتها بها.
تألقت الدكتور كريستل الأُم في فرنسا، وفي البلدان الفرنكوفونية، وشقَّ صيتها طريقه ليصل إلى آفاق السماء، وعلا نارها أقواس المحاكم.
أمَّا كريستل الإبنة على بُعد قاب قوسين أن تنال شهادة الدكتوراه في علم لم يجرؤ أحد على سبر أغواره.
حلِمَت الدكتورة كريستل الأُم طوال حياتها بلقاءٍ مع حبيب، لا يحدُث إلَّا بالأساطير والقصص الخرافيَّة. وهو ما وجدته بإبنتها كريستل الناشطة جداً فى علوم الماورائيات.
الأحلام الأُسطورية للأُم كريستل تقاطعت مع العلوم الماورائية للإبنة كريستل.
الحزن العميق والدفين هو ما كانت تراه كريستل الإبنة في عُيون والدتها، حيث تحاول جاهدة أن تُقنعها بالسفر بهدف السياحة إلى الولايات المتحدة. قادها هذا الأمر أن حرضَّت عميد كليِّتها وصديق والدتها، بأن يضغط عليها لتلبية الدعوة التي وجَّهتها إليها مؤسسة مارتن لوثر كينغ، لحقوق الانسان في ذكراه السنوية.
وعوضاً عن السفر إلى أميركا، آثرت السفر إلى مرقد العم فؤاد في ذكرى وفاته.
رافقت كريستل الإبنة والدتها إلى لبنان خوفاً وشفقة عليها لأنَّها راقبت والدتها قبل أيَّام من السفر فلاحظت أنَّها خرجت إلى مكتبها في يوم عطلة، فلحقتها إلى هناك لترى مشهداً لم تألفه في حياتها :
أمها تبكي …
تُقلِّب صفحات الْكُتُب …
تنزع الأزهار الذابلة …
تضعها داخل صندوق خشبي صغير بطريقة فاق ترتيبها كل تصوُّر.
تقدَّمت كريستل من والدتها وأطبقت عليها تغمرها وتقول لها :
ما بك يا أمي يا حبيبتي ...
لماذا تنزعين هذه الأزهار من بين صفحات الكتب ...
إنَّ عمر هذه الأزهار يفوق عمري ...
لماذا، لماذا ؟.
بكت الأُم وبكت الإبنة.
وبكى الكريستال ! !
أمسكت كريستل يد والدتها وخرجنَ سوياً إلى الشانزليزيه يمشين ويبكينَ والصندوق الخشبي الصغير مُقفل بأحكام ومشدود على صدر الوالدة.
فور وصولهنَّ إلى مطار بيروت صباح ذلك النهار الربيعي، طلبت كريستل الأُم من السائق الصعود فوراً إلى قرية حبيبها حيث مرقد العم فؤاد.
لم تتمالك كريستل الإبنة العاشقة لوالدتها من أن تبقى طيلة الوقت مُلتصقة بجسم وحواس وعقل والدتها وعلى صدرها، وكأنَّها طفلة صغيرة تُقبِّلها وتُعانقها وتقول لها : ماذا أنا فاعلة من دونك يا أمي، إن غبتي عني فالشوق إلى رائحتُك وحنانك وعطفك لن أجد مثيلاً له في المعمورة كلها …
قولي لي : ما بك ؟.
ماذا أصابك ؟.
لماذا حلَّت هموم الكون على أكتافك ؟
لماذا استوطنت الاحزان قلبك ولَم ترضَ مغادرته ؟
أنت تقتلين حبي لك بعدم البوح لي !.
أنت تقولين عني أنَّني أسطورة حياتك التي ستتحقَّق.
بالله عليك أخبريني …
لماذا آثرت القدوم إلى هذه القرية في لبنان على دعوة تكريم أعظم رجل في تاريخ أميركا الحديث ؟.
ما الذي تنوين فعله ؟
أجابتها بهدوء : سترين.
عندما وصلنَّ إلى القرية ودخَلنَ منزل العم فؤاد المقفل، لاحظت أنَّ أزهار كراون دايسي البريَّة قد غطَّت معظم أرجاء الحديقة.
فانفرجت أساريرها وطلبت من السائق أن يحفر حفرة صغيرة قامت على إثرها بدفن الصندوق الخشبي الذي حملته معها من باريس والذي يحتوي على أزهار كراون دايسي الذابلة.
وبادرت إلى قطف أجمل زهرة من كراون دايسي في الحديقة وألقتها على الصندوق برفق وحنان، وبدأت بيدها تهبل التراب على الزهرة والصندوق حتى اختفى كل شيئ.
عادت ادراجها إلى السيارة ولم تغسل يديها من آثار التراب ذلك النهار.
الفصل الواحد والعشرون
المواجهة
بدأ التوتُّر يُخيِّم في شهر تموز من العام ٢٠١٥ في المنزل الريفي في ضواحي باريس، حيث وصلت لتوِّها كريستل ومعها رزمة بريد تحتوي على ثلاثة كُتُب، كان عميد الكليَّة نصحها بالتمعُّن في قرائتها نظراً لأنَّ مؤلِّف هذه الكتّب هو الأستاذ القادم من أميركا لمناقشة أُطروحتها في الاوَّل من أيلول.
دخلت كريستل غرفتها على عجل وما أن فتحت الرزمة حتى هالها ما رأت أحد الْكُتُب مُجدَّداً بعنوان :
قِصَّة كراون دايسي وكريستل.
طبعة جديدة.
وصورة الغلاف مُجدَّداً لوحة زيتية، لنصف صورة وجه فتاة تُشبه إلى حد كبير والدتها عندما كانت صبية يافعة. والغلاف الأخير من الكتاب عبارة عن باقة من أزهار كراون دايسي على شكل قلب.
أمَّا الإصدار كان في ٢٠ نيسان من العام الجاري ٢٠١٥م.
أمَّا الإهداء فهو موجَّه إلى :
يوم ٢١ نيسان حيث يتقابل الليل والنهار.
لم تُلبِ كريستل الإبنة نداء والدتها للغداء.
بقيت تقرأ وتقرأ وتقرأ وكلَّما تعمَّقت في القراءة كانت دموعها تزداد انهماراً.
بدأت تفكُّ الألغاز وتحِّل الشيفرات والرموز.
حجبت دموع كريستل عيونها عن القراءة، لكنَّها تنفَّست الصعداء عندما بدأت تُمسك بناصية الحلول والألغاز.
لغز الأزهار الذابلة …
والأزهار بين صفحات الكتب …
المرآة التي لا تفارق حقيبة والدتها …
رسم الزهرة داخل الإطار الذهبي …
نظرت كريستل إلى تاريخين ٢٠ و ٢١.
تاريخ نشر الكتاب …
وتاريخ الإهداء.
عرفت كل شيئ لكن غاب عنها لغة الأرقام التي تُجيدها والدتها وتؤمن بها.
دخلت الدكتورة كريستل الأُم غرفة إبنتها وهي تستعجلها لتناول العشاء بعد ان غابت عن طاولة الغداء.
فبادرتها قائلة : كريستل حبيبتي يكفيك هذا النهار من القراءة …
لم تُجِب كريستل، لأنَّ الدموع كانت تُبلِّل وسادتها، فتقدَّمت منها والدتها ونزعت الكتاب من بين يديها ورمته جانباً، إلٍّا أنَّ شيئاً ما صعقها.
هالها ما رأت …
عادت بسرعة ولهفة والتقطت الكتاب بيديها لترى صورتها على الغلاف.
تصفَّحته على عجل.
نظرت كريستل إلى والدتها والدموع تنهمر وقالت لها :
لا أسئلة لدي …
زهرة كراون دايسي، عرفتها.
لكن رقم ٢٠ ورقم ٢١ ماذا يعنيان ؟.
والصورة الزيتية التي تُشبهك من أين … ؟.
أُريد تفسيراً يا أُمي … !
إنهارت الأُم على صدر ابنتها واجهشت بالبكاء …
وقالت لها سأخبرك كل شيئ.
دخلت الأُم إلى غرفتها، وأحضرت حقيبة يدها وأخرجت منها المرآة، وكان بداخلها …
صورة نصفها موجود …
وهي صورة المُؤلِّف،
والنصف الآخر صورة غلاف الكتاب.
أمَّا رقم ٢٠ دلالته …
أنَّ جدتك كانت تصِّر حتى آخر يوم في حياتها أنَّه يوم مولدي.
أمَّا الحقيقة في تذكرة الهويَّة هو يوم ٢١.
ماذا تريدين أن تعرفي أكثر …
أجابت كريستل والدتها :
لا شيئ …
لكن أودُّ أن أُبلغك أنَّ رفيق الصبا وحبيب عمرك الذي لم يفارق كيانك هو الذي سيناقش أُطروحتي …
وقع كلام كريستل كالصاعقة على والدتها …
صرخت كريستل بأعلى صوتها …
ساعدوني … ساعدوني …
هبَّ الجد صارخاً ما الأمر ما الأمر ؟.
انقلبت الدنيا رأساً على عقب …
عاد الزمن أربعين عاماً إلى الوراء.
حيث نُقلت الدكتورة كريستل الأُم إلى المستشفى الآن. كما نُقلت ( …… ) منذ أربعين عاماً إلى المستشفى حينها.
فتحت الأُم عينيها في المستشفى فبادرتها إبنتها وهي العالمة القديرة : اليوم يا أٌمي أصبحت الأُسطورة قِصَّة حقيقيَّة.
الجزء الثامن والأخير.
النهاية.
في المقلب الآخر من الكرَة الارضيَّة كان حبيب كريستل مستر واو الذي قارب الستينيات من عمره يسأل نفسه قبل أن يُسافر :
هل آن الاوان أن يترجَّل عن صهوة جواده ؟.
هل هذه الرحلة، ستكون الأخيرة في حياته العملية ؟.
هل سيأخذ قراراً بالعودة إلى قريته حيث موطن الأجداد.
وبقي يسأل نفسه حتى وصل إلى إتخاذ قرار لا علاقة له بمنهجيَّة التعليم الأكاديمي لم يعهده في حياته الجامعية.
قرَّر أن لا يسأل الطالبة الأسئلة التعجيزيَّة التي أعدَّها !! رمى معظمها في سلَّة المهملات !.
وقال في نفسه يكفي أنَّ هذه الطالبة تحمل إسم بطلة روايتي الاخيرة حتى تجتاز كل الحواجز، وسأُنهي حياتي العملية فرحاً مسروراً بأنِّي وجدت كريستل في شخص هذه الطالبة التي سأمنحها شهادة الدكتوراه.
قرَّر أن يمنحها درجة إمتياز لأنَّ أُطروحتها تتضمَّن نظريَّات سبق له أن تناولها في مقالات ومدوَّنات نشرها سابقاً.
تقرَّر موعد سفره قبل خمسة أيَّام من مناقشة الأُطروحة.
لم يكن يوم مطار أورلي يوماً عادياً بالنسبة ل مستر واو. في ذلك اليوم خطَّ على دفتر أيَّامه تاريخاً لن يُمحى.
على أرض المطار كان في استقباله عميد الكليَّة ترافقه كريستل الإبنة. بعدها انتقلوا إلى جادة الشانزليزيه وهناك راح يُحدِّث نفسه ويُكلِّمها :
لو تعلمون أنَّ أربعين عاماً مضت وإسم هذا الشارع لم يُغادر خيالي !
والآن تحقَّق حلمي هذا.
ووجَّه كلامه إلى كريستل قائلاً :
ألا تعتقدين مِس كريستل أنَّ هذا الذي حصل له علاقة بالأُسطورة، ما دمت مُتخصِّصة بعلم الأساطير ؟.
أجابته كريستل :
ألا تعتقد أنَّ على هذه الأُسطورة أن تكتمل حتى تصبح قِصَّة حقيقية ؟
نظر إليها وقال :
كلامك صحيح مِس كريستل يجب أن تكتمل حتى تصبح قِصَّة حقيقية.
فرح عميد الكليَّة وتفاجئت كريستل !.
فقال لهما :
يبدو أن مِس كريستل ستتحفنا يوم المناقشة بنظرياتها.
وصلوا إلى الفندق فبادرت كريستل إلى دعوة الضيف أن يسيرا معاً في الشانزليزيه.
فأجابها موافقاً :
بكل سرور مِس كريستل.
سارا معاً والنهار لا يغيب بسبب الأنوار المُنبعثة في أرجاء هذا الشارع العريض، فدعّته إلى مقهى رصيفي.
لاحظت أنَّه لا يناديها إلَّا مِس كريستل …
بعد أن ودَّعته على باب الفندق قالت له :
أرجو أن تقبل منِّي هذه الهدية المتواضعة.
إبتسم وقال لها لماذا ؟
قالت له :
لأنَّ لديك تعبيراً رائعاً في روايتك قِصَّة كراون دايسي وكريستل أعجبني.
سألها : ما هو التعبير ؟ قالت له :
وَصْل ... ما انقطع !. ولن ينقطع ...
تعجَّب وأخذته الدهشة !.
سلَّمته الهدية وانصرفت.
دخل غرفته وما أن فتح الهديَّة حتى انبهرت عيناه لِما رأى !
الهدية كانت عبارة عن زهرة كراون دايسي من صناعة كريستال شواروفسكي الأبيض والأصفر مُغلَّف برسم هذه الزهرة.
ممهوراً بتوقيعه.
بتاريخ الأوَّل من أيلول ١٩٧٤
خارت قواه ولم يقوَ على الكلام.
لم ينم تلك الليلة.
وانفجر فجراً هائماً في شارع الشانزليزيه ....
يُفتِّش عن كريستل.
فهم حينها مُقدِّمة الأُطروحة …
وفهم وصل ما انقطع ... ولن ينقطع.
وفهم ... أنَّه يجب أن تكتمل.
الفصل الثاني والعشرون
والأخير
كانت إدارة جامعة السوربون قد حضَّرت له برنامجاً كاملاً متكاملاً لمدَّة ثلاثة أيام تسبق مناقشة أُطروحة كريستل.
في هذه الأنشطة كان يرافقه الصديق الجديد المُستجَّد عميد كليَّة العلوم الانسانية، حيث نشأت بينهما علاقة متينة وقد أظهر له كل الاحترام، عندما عرف أنَّ أصوله وجذوره هي لبنانية.
تساءل عميد الكليَّة في أحد اللقاءات وقال :
إنَّه أمرٌ عجيب وغريب...
في بلاد الاغتراب تتسلقوا يا أيُّها اللبنانيون سلالم المجد والشهرة والصيت الحسن، أمَّا في وطنكم فتتخبَّطون وتعودون إلى كهوف التاريخ المهجورة،
واسترسل بالحديث موجِّهاً كلامه للضيف :
هل تعلم ضيفي الكريم أنَّك تتشارك مع الطالبة كريستل الجذور اللبنانية نفسها ؟.
أجابه : وكيف ؟
قال العميد : والدتها لبنانية وقد تزوجت من أستاذها الدكتور جاك … وأنجبت منه كريستل.
سأله : ما إسمها واسم عائلتها ؟.
أجابه : إسمها الحالي أيضاً كريستل، فهي بادرت عند زواجها إلى تغيير إسمها :
من ( …… ) إلى كريستل.
كلام العميد نزل على ضيفه نزول الصاعقة، فلم يعد يتمالك نفسه، وأُصيب بصداع شديد وألم حاد في مختلف أنحاء جسده، فطلب أن يستريح.
كان له ما أراد وعندما عاد واستجمع قواه، طلب من العميد إكمال حديثه.
تابع العميد حديثه وقال له :
أود أن أبلغك أيضاً أنَّ الدكتورة كريستل طلبت منِّي أن أدعوك إلى حفل عشاء سيقام في دارتها عشيَّة يوم مناقشة الأُطروحة.
أجابه الضيف بلغة غاضبة :
عجيب أمركم في فرنسا، تُخلطون الصداقة مع العمل فكيف تُطلق عليها لقب دكتورة وهي لم تُناقش أُطروحتها بعد.
ضحك العميد ضحكة فرنسية عالية، اهتزَّت لها أروقة الجامعة.
إنَّها الدكتورة كريستل، والدة الطالبة كريستل هي من سيُقيم هذا الحفل، وقد دعَت إليه نُخبة من رجال القانون.
محامون وقضاة وزملاء زوجها من أساتذة السوربون.
والمناسبة مناسبتان :
الأولى الاحتفاء بمناقشة أُطروحة إبنتها.
والثانية قرارها بالتوقُّف عن المرافعات القانونيَّة أمام المحاكم الدوليَّة والوطنية، والتفرُّغ كلياً للتأليف والكتابة والانخراط في الهيئات الدوليَّة للإغاثة، بعد أن شاهدت الخراب والدمار والقتل والتهجير والسبي في بلاد العرب.
وقع الخبر كالصاعقة عليه، فهو منذ ثلاثة أيَّام وبعد أن تسلَّم الهدية وهو يُسارع في أن يلتقي بها ويُصارع عواطفه واشجانه.
نظر إلى العميد وقال له :
يبدو أنَّك صديقها.
أجابه أنا صديق ورفيق درب زوجها الذي توفي منذ عشر سنوات، وزوجتي أيضاً محامية تعمل في مكتبها.
واستطرد قائلاً :
منذ شهر دعتنا الدكتورة كريستل أنا وزوجتي وإبنتها كريستل إلى لبنان، لحضور حفل تسليم منزل سائقها إلى جمعيَّة مدنيَّة تُعنى بالأزهار البريَّة، لأنَّ لديها شغفٌ خاص بزهرة لبنانية بريَّة إسمها كراون دايسي.
سأله الضيف مُتعجباً :
وما علاقة سائقها بتلك الزهرة حتى تهِب منزله إلى تلك الجمعية ؟.
أجابه العميد : وفق ما أخبرتني زوجتي أنَّ سائقها عندما أصابه العجز طلب أن يعود إلى وطنه، ولم يكن له من مُعيل، فبادرت إلى شراء قطعة أرض وبنت له منزلاً صغيراً عليها، وواظبت على رعايته وإعالته حتى مماته.
لم تنته حكاية الدكتورة كريستل مع سائقها بموته، فهي تواظب على زيارة ضريحه في تلك القرية النائية كل عام وفق طقوسٍ خاصَّة بها اعتادت عليها.
سأله وهو غارقٌ في أفكاره التي نقلته إلى عوالم أُخرى :
ما اسم تلك القرية ؟
قال له : لا أدري ما اسم تلك القرية، لكنِّي سأعود إلى هاتفي الخليوي لأَنِّي لا زلت مُحتفظاً بصور عِدَّة لتلك القرية ومنهم اللافتة الموجودة على مدخلها، ويظهر فيها إسم القرية وارتفاعها عن سطح البحر.
حديث العميد كان بمثابة الزلزال الذي هزَّ كيانه :
إنَّها قريته …
إنَّها قرية الآباء والاجداد …
تابع العميد حديثه وراح يُقلِّب صور القرية المحفوظة على هاتفه بشغف ويقول :
أُنظُر… أُنظُر ...
أُنظُر كيف زرعت كل حديقة منزل سائقها بزهرة كراون دايسي.
وكيف طلبت من الجمعيَّة أن تهتم بالأزهار البريَّة خاصَّة كراون دايسي، ليس هذا فقط بل واظبت على دعم الجمعيَّة وإطلاق حملات تبرُّعات لها في أوساط أصدقائها. إنَّها إمرأة رائعة …
لقد وصلت إلى أعلى مراتب الشهرة، وكانت وما زالت تُعتبر من أهم محامي المحاكم الدوليَّة، ليس في فرنسا فحسب بل في العالم.
ولكن كان ينقصها شيئٌ واحد كما تقول إبنتها.
أجابه ما هو هذا الشيئ الواحد ؟
قال : وصلة واحدة … من شعار إتخذته طوال حياتها،
وصل ما انقطع …
ولن ينقطع .....
توقَّفت أنفاسه
وفاق من غيبوبة دامت أربعين عاماً.
عندما سأله :
هل قبلت الدعوة ؟
لم ينتظر العميد جوابه بل قال له :
بعد مناقشة الأُطروحة سأمرُّ عليك في الفندق مع زوجتي.
دخل إلى غرفته في الفندق يملأه الهمّ والحزن والقهر.
وسأل نفسه :
هل وجود كريستل في حياته بعد أربعين عاماً هو نعمةٌ أم
هو نقمة ...
الصراع داخله يتصاعد ويتمادى وهو أسير ذلك الصراع وإذ بجرس الهاتف يرن قاطعاً عليه تخبُّطه في تلك الأفكار.
كان الصوت في الجهة المقابلة صوت إمرأة.
أجابها فوراً ....
كريستل ؟
أجابت نعم …
مستر واو ...
لم تتمالك نفسها وعادت إلى سجيَّتها وإلى سابق عهدها في سيل جارف من الأسئلة :
أين …
كيف …
ماذا …
إذا، وووووو
أجابها كما كان يُجيب في الماضي.
عن أي سؤال أُجيب ؟؟؟
بكت كريستل بكاءً مريراً …
وبكى هو بالمرارة نفسها …
لم يعد يقوى على الاستمرار في المحادثة فقال لها :
أراكِ غداً الساعة الثالثة …
أجابته مستعيدة واقعة عُمرُها أربعون عاماً :
لن تراني … أتذكر ذات يوم عندما دخلت قاعة المحاضرات في الجامعة، وكنت مُتخفيَّاً عني وأنا قلِقة عليك وبقيتُ طوال المحاضرة أشيح بنظري، يُمنةً ويُسرةً وخلفي وأمامي أبحث عنك،
وعندما ألتقينا قلت لي لا تسأليني عن المحاضرة، بل اسأليني كم مرَّة نظرتِ إلى الخلف وكم مرة وقع قلمك على الأرض لتلتقطيه …
تابعت ضاحكة :
لقد حان اليوم الذي سأنتقم منك فيه …
تغيَّرت الدنيا ومن فيها وانقلب البكاء إلى ضحك والحزن إلى فرح، ولَم تعد الدنيا كما كانت قبل لحظات.
قال : أين ستجلسين إذن ؟؟
قالت : سيبقى سِراً لا يعرفه إلَّا الله ( تضحك ) …
وأنَّ … عليك بالبحث يا مستر واو …
قالت له :
هل وصلتك دعوتي ؟
أجابها : نعم.
صديقك العميد أخبرني كل شيئ ،،،
وعادت تسأله :
هل أخبرك عن ...
هذا …
ذاك …
وتلك …
أجابها : نعم …
ولكنَّه لم يُخبرني بأمر واحد ؟
قالت : ما هو ؟
قال :
هل ما زلت تُحبيني ؟
إجابته :
طبعاً …
أكيد …
ومؤكد …
نعم …
وأكثر …
وأقوى …
سألها :
هل وجدت وصلة …
وصل ...
ما انقطع ،،،
ولن ينقطع …
نعم وجدتها معك …
وسألها …
وبقي يسألها …
وتسأله
إلى أن قال لها :
هل الأُسطورة أصبحت قِصَّة حقيقيَّة ؟
قالت : نعم.
وعاد يسألها :
إذن كيف ستبدأ الآن القصَّة الحقيقيَّة ؟
بيني، وبينك ؟
قالت : له …
لا أدري …
لا أدري …
لا أدري …
تمَّت قِصَّة كروان دايسي وكريستل.
وبدأت …
قصة لا أدري لا أدري.
تأليف.
فيصل المصري.
أُورلاندوا / فُلوريدا
جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.
الطبعة الأولى، حزيران ٢٠١٨م.
بيروت / لبنان.
اللوحة الفنية من رسم :
الفنانة السورية السيدَّة
فاتن كنج أبو صالح.
مجدل شمس / الجولان
خريجة كليَّة الفنون الجميلة جامعة دمشق.
اختصاص اتصالات بصريَّة.
متفرغة للرسم.
شكراً للفنانة فاتن كنج أبو صالح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق