الجزء الثامن والأخير.
النهاية.
في المقلب الآخر من الكرَة الارضيَّة كان حبيب كريستل مستر واو الذي قارب الستينيات من عمره يسأل نفسه قبل أن يُسافر :
هل آن الاوان أن يترجَّل عن صهوة جواده ؟.
هل هذه الرحلة، ستكون الأخيرة في حياته العملية ؟.
هل سيأخذ قراراً بالعودة إلى قريته حيث موطن الأجداد ؟.
وبقي يسأل نفسه حتى وصل إلى إتخاذ قرار لا علاقة له بمنهجيَّة التعليم الأكاديمي لم يعهده في حياته الجامعية.
قرَّر أن لا يسأل الطالبة الأسئلة التعجيزيَّة التي أعدَّها !!
رمى معظمها في سلَّة المهملات !.
وقال في نفسه يكفي أنَّ هذه الطالبة تحمل إسم بطلة روايتي الاخيرة حتى تجتاز كل الحواجز، وسأُنهي حياتي العملية فرحاً مسروراً بأنِّي وجدت كريستل في شخص هذه الطالبة التي سأمنحها شهادة الدكتوراه.
قرَّر أن يمنحها درجة إمتياز لأنَّ أُطروحتها تتضمَّن نظريَّات سبق له أن تناولها في مقالات ومدوَّنات نشرها سابقاً.
تقرَّر موعد سفره قبل خمسة أيَّام من مناقشة الأُطروحة.
لم يكن يوم مطار أورلي يوماً عادياً بالنسبة ل مستر واو.
في ذلك اليوم خطَّ على دفتر أيَّامه تاريخاً لن يُمحى.
على أرض المطار كان في استقباله عميد الكليَّة ترافقه كريستل الإبنة. بعدها انتقلوا إلى جادة الشانزليزيه، وهناك راح يُحدِّث نفسه ويُكلِّمها :
لو تعلمون أنَّ أربعين عاماً مضت وإسم هذا الشارع لم يُغادر خيالي !
والآن تحقَّق حلمي هذا.
ووجَّه كلامه إلى كريستل قائلاً :
ألا تعتقدين مِس كريستل أنَّ هذا الذي حصل له علاقة بالأُسطورة، ما دمت مُتخصِّصة بعلم الأساطير ؟.
أجابته كريستل :
ألا تعتقد أنَّ على هذه الأُسطورة أن تكتمل حتى تصبح قِصَّة حقيقية ؟
نظر إليها وقال :
كلامك صحيح مِس كريستل ...
يجب أن تكتمل …
يجب ان تكتمل …
حتى تصبح قِصَّة حقيقية.
فرح عميد الكليَّة وتفاجئت كريستل !.
فقال لهما :
يبدو أن مِس كريستل ستتحفّنا يوم المناقشة بنظرياتها.
وصلوا إلى الفندق فبادرت كريستل إلى دعوة الضيف أن يسيرا معاً في الشانزليزيه.
فأجابها موافقاً :
بكل سرور مِس كريستل.
سارا معاً والمساء لا يغيب بسبب الأنوار المُنبعثة في أرجاء هذا الشارع العريض، فدعّته إلى مقهى رصيفي.
لاحظت أنَّه لا يناديها إلَّا مِس كريستل …
بعد أن ودَّعته على باب الفندق قالت له :
أرجو أن تقبل منِّي هذه الهدية المتواضعة.
إبتسم وقال لها لماذا ؟
قالت له :
لأنَّ لديك تعبيراً رائعاً في روايتك قِصَّة كراون دايسي وكريستل ،،،، أعجبني.
سألها : ما هو التعبير ؟
قالت له :
..... وٓصْلُ ... ما انقطع !.
ولن ينقطع ...
تعجَّب وأخذته الدهشة !.
سلَّمته الهدية وانصرفت.
دخل غرفته وما أن فتح الهديَّة حتى انبهرت عيناه لِما رأى !
الهدية كانت عبارة عن زهرة كراون دايسي من صناعة كريستال شواروفسكي الأبيض والأصفر،
مُغلَّف برسم هذه الزهرة،
ممهوراً بتوقيعه.
بتاريخ الأوَّل من أيلول ١٩٧٤
خارت قواه ولم يقوَ على الكلام.
لم ينم تلك الليلة.
وانفجر فجراً هائماً في شارع الشانزليزيه ....
يُفتِّش عن كريستل.
فهم حينها مُقدِّمة الأُطروحة …
وفهم وصل ما انقطع ... ولن ينقطع.
وفهم ... أنَّه يجب أن تكتمل ...
الفصل الثاني والعشرون، والأخير ....
كانت إدارة جامعة السوربون قد حضَّرت له برنامجاً كاملاً متكاملاً لمدَّة ثلاثة أيام تسبق مناقشة أُطروحة كريستل.
في هذه الأنشطة كان يرافقه الصديق الجديد المُستجَّد عميد كليَّة العلوم الانسانية، حيث نشأت بينهما علاقة متينة وقد أظهر له كل الاحترام، عندما عرف أنَّ أصوله وجذوره هي لبنانية.
تساءل عميد الكليَّة في أحد اللقاءات وقال :
إنَّه أمرٌ عجيب وغريب...
في بلاد الاغتراب تتسلقوا يا أيُّها اللبنانيون سلالم المجد والشهرة والصيت الحسن، أمَّا في وطنكم فتتخبَّطون وتعودون إلى كهوف التاريخ المهجورة،
واسترسل بالحديث موجِّهاً كلامه للضيف :
هل تعلم ضيفي الكريم أنَّك تتشارك مع الطالبة كريستل الجذور اللبنانية نفسها ؟.
أجابه: وكيف ؟
قال العميد : والدتها لبنانية وقد تزوجت من أستاذها الدكتور جاك … وأنجبت منه كريستل.
سأله : ما إسمها واسم عائلتها ؟.
أجابه : إسمها الحالي أيضاً كريستل، فهي بادرت عند زواجها إلى تغيير إسمها :
من ( …… ) إلى كريستل.
كلام العميد نزل على ضيفه نزول الصاعقة، فلم يعد يتمالك نفسه، وأُصيب بصداع شديد وألم حاد في مختلف أنحاء جسده، فطلب أن يستريح.
كان له ما أراد وعندما عاد واستجمع قواه، طلب من العميد إكمال حديثه.
تابع العميد حديثه وقال له :
أود أن أبلغك أيضاً أنَّ الدكتورة كريستل طلبت منِّي أن أدعوك إلى حفل عشاء سيقام في دارتها عشيَّة يوم مناقشة الأُطروحة.
أجابه الضيف بلغة غاضبة :
عجيب أمركم في فرنسا، تُخلطون الصداقة مع العمل فكيف تُطلق عليها لقب دكتورة وهي لم تُناقش أُطروحتها بعد.
ضحك العميد ضحكة فرنسية عالية، اهتزَّت لها أروقة الجامعة.
إنَّها الدكتورة كريستل، والدة الطالبة كريستل هي من سيُقيم هذا الحفل، وقد دعَت إليه نُخبة من رجال القانون.
محامون وقضاة وزملاء زوجها من أساتذة السوربون.
والمناسبة مناسبتان :
الأولى الاحتفاء بمناقشة أُطروحة إبنتها.
والثانية قرارها بالتوقُّف عن المرافعات القانونيَّة أمام المحاكم الدوليَّة والوطنية، والتفرُّغ كلياً للتأليف والكتابة والانخراط في الهيئات الدوليَّة للإغاثة، بعد أن شاهدت الخراب والدمار والقتل والتهجير والسبي في بلاد العرب.
وقع الخبر كالصاعقة عليه، فهو منذ ثلاثة أيَّام وبعد أن تسلَّم الهدية وهو يُسارع في أن يلتقي بها ويُصارع عواطفه واشجانه.
نظر إلى العميد وقال له :
يبدو أنَّك صديقها.
أجابه أنا صديق ورفيق درب زوجها الذي توفي منذ عشر سنوات، وزوجتي أيضاً محامية تعمل في مكتبها.
واستطرد قائلاً :
منذ شهر دعتنا الدكتورة كريستل أنا وزوجتي وإبنتها كريستل إلى لبنان، لحضور حفل تسليم منزل سائقها إلى جمعيَّة مدنيَّة تُعنى بالأزهار البريَّة، لأنَّ لديها شغفٌ خاص بزهرة لبنانية بريَّة إسمها كراون دايسي.
سأله الضيف مُتعجباً :
وما علاقة سائقها بتلك الزهرة حتى تهِب منزله إلى تلك الجمعية ؟.
أجابه العميد : وفق ما أخبرتني زوجتي أنَّ سائقها عندما أصابه العجز طلب أن يعود إلى وطنه، ولم يكن له من مُعيل، فبادرت إلى شراء قطعة أرض وبنت له منزلاً صغيراً عليها، وواظبت على رعايته وإعالته حتى مماته.
لم تنته حكاية الدكتورة كريستل مع سائقها بموته، فهي تواظب على زيارة ضريحه في تلك القرية النائية كل عام وفق طقوسٍ خاصَّة بها اعتادت عليها.
سأله وهو غارقٌ في أفكاره التي نقلته إلى عوالم أُخرى :
ما اسم تلك القرية ؟
قال له : لا أدري ما اسم تلك القرية، لكنِّي سأعود إلى هاتفي الخليوي لأَنِّي لا زلت مُحتفظاً بصور عِدَّة لتلك القرية ومنهم اللافتة الموجودة على مدخلها، ويظهر فيها إسم القرية وارتفاعها عن سطح البحر.
حديث العميد كان بمثابة الزلزال الذي هزَّ كيانه :
إنَّها قريته …
إنَّها قرية الآباء والاجداد …
تابع العميد حديثه وراح يُقلِّب صور القرية المحفوظة على هاتفه بشغف ويقول :
أُنظُر… أُنظُر ...
أُنظُر كيف زرعت كل حديقة منزل سائقها بزهرة كراون دايسي.
وكيف طلبت من الجمعيَّة أن تهتم بالأزهار البريَّة خاصَّة كراون دايسي، ليس هذا فقط بل واظبت على دعم الجمعيَّة وإطلاق حملات تبرُّعات لها في أوساط أصدقائها. إنَّها إمرأة رائعة …
لقد وصلت إلى أعلى مراتب الشهرة، وكانت وما زالت تُعتبر من أهم محامي المحاكم الدوليَّة، ليس في فرنسا فحسب بل في العالم.
ولكن كان ينقصها شيئٌ واحد كما تقول إبنتها.
أجابه ما هو هذا الشيئ الواحد ؟
قال : وصلة واحدة … من شعار إتخذته طوال حياتها،
وصل ما انقطع،
ولن ينقطع .....
توقَّفت أنفاسه
وفاق من غيبوبة دامت أربعين عاماً.
عندما سأله :
هل قبلت الدعوة ؟
لم ينتظر العميد جوابه بل قال له :
بعد مناقشة الأُطروحة سأمرُّ عليك في الفندق مع زوجتي.
دخل إلى غرفته في الفندق يملأه الهمّ والحزن والقهر.
وسأل نفسه :
هل وجود كريستل في حياته بعد أربعين عاماً هو نعمةٌ أم
هو نقمة ...
الصراع داخله يتصاعد ويتمادى وهو أسير ذلك الصراع وإذ بجرس الهاتف يرن قاطعاً عليه تخبُّطه في تلك الأفكار.
كان الصوت في الجهة المقابلة صوت إمرأة.
أجابها فوراً ....
كريستل ؟
أجابت نعم …
مستر واو ...
لم تتمالك نفسها وعادت إلى سجيَّتها وإلى سابق عهدها في سيل جارف من الأسئلة :
أين …
كيف …
ماذا …
إذا، وووووو
أجابها كما كان يُجيب في الماضي.
عن أي سؤال أُجيب ؟؟؟
بكت كريستل بكاءً مريراً …
وبكى هو بالمرارة نفسها …
لم يعد يقوى على الاستمرار في المحادثة فقال لها :
أراكِ غداً الساعة الثالثة …
أجابته مستعيدة واقعة عُمرُها أربعون عاماً :
لن تراني … أتذكر ذات يوم عندما دخلت قاعة المحاضرات في الجامعة، وكنت مُتخفيَّاً عني وأنا قلِقة عليك وبقيتُ طوال المحاضرة أشيح بنظري، يُمنةً ويُسرةً وخلفي وأمامي أبحث عنك،
وعندما ألتقينا قلت لي لا تسأليني عن المحاضرة، بل اسأليني كم مرَّة نظرتِ إلى الخلف وكم مرة وقع قلمك على الأرض لتلتقطيه …
تابعت ضاحكة :
لقد حان اليوم الذي سأنتقم منك فيه …
تغيَّرت الدنيا ومن فيها وانقلب البكاء إلى ضحك والحزن إلى فرح، ولَم تعد الدنيا كما كانت قبل لحظات.
قال : أين ستجلسين إذن ؟؟
قالت : سيبقى سِراً لا يعرفه إلَّا الله ( تضحك ) …
وأنَّ … عليك بالبحث يا مستر واو …
قالت له :
هل وصلتك دعوتي ؟
أجابها : نعم.
صديقك العميد أخبرني كل شيئ ،،،
وعادت تسأله :
هل أخبرك عن ...
هذا …
ذاك …
وتلك …
أجابها : نعم …
ولكنَّه لم يُخبرني بأمر واحد ؟
قالت : ما هو ؟
قال :
هل ما زلت تُحبيني ؟
إجابته :
طبعاً …
أكيد …
ومؤكد …
نعم …
وأكثر …
وأقوى …
سألها :
هل وجدت وصلة …
وصل ...
ما انقطع ،،،
ولن ينقطع …
نعم وجدتها معك …
وسألها …
وبقي يسألها …
وتسأله
إلى أن قال لها :
هل الأُسطورة أصبحت قِصَّة حقيقيَّة ؟
قالت : نعم.
وعاد يسألها :
إذن كيف ستبدأ الآن القصَّة الحقيقيَّة ؟
بيني، وبينك ؟
قالت : له …
لا أدري …
لا أدري …
لا أدري …
تمَّت قِصَّة كروان دايسي وكريستل.
وبدأت …
قصة لا أدري لا أدري.
تأليف.
فيصل المصري.
أُورلاندوا / فُلوريدا
جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.
الطبعة الأولى، حزيران ٢٠١٨م.
بيروت / لبنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق