Pages

الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

قصة كراون دايسي، وكريستل .... الجزء الاول

خ
إن ّٓ قصة  كراون دايسي  و كريستل ، هي من واقع الخيال، وليست أسطورة، كشقيقتها  إمرأة الوادي المُقَدَّس  لانها تُقارب الحقيقة وتُصلح ان تكون سيرة ذاتية للعديد من الْقُرْاء الأعزاء !!

كراون دايسي، هي زهرة برّية تنمو في جبال، وهضاب، وسهول لبنان، ويُطلق عليها باللغة العربية، أُقحوان إكليلي. 

أما  كريستل  فهو إسم، ألغنج والدلال او  ألدّلع  لبطلة هذه الرواية، التي بدأت قصتها في احدى جامعات لبنان. 

واسم الدّلع  كريستل  مُشتق من حجرة الكريستال المشهور بصناعتها معمل  شواروفسكي  العالمي.

سأقوم بنشر هذه الرواية على حلقات في مدوّنتي، وعلى صفحتي في الفايس بوك، وعلى حسابي في تويتر، بناء على الاتفاق مع شركة غوغل الذي ستقوم بنشر هذه الرواية وتدعم تسويقها. 

وقد تكفلّت شركة غوغل بحفظ حقوقي الأدبية، وجرى تسجيل الرواية لدى محكمة أورلاندو، في ولاية فلوريدا الأميركية.  


المقدمة : 

Crown Daisy  ................الزهرة البرّية،  أقحوان إكليلي)
وقصتها مع الطالبة الجامعية،           كريستل   و ... هو  .....


احداث هذه القصة حدثت في حَرَّم احدى جامعات لبنان، في اواسط ستينيات القرن الماضي، حيث كانت أروقة وقاعات احدى الكليات مسرحا ً
ومكانا ً لهذه الرواية. 

كانت الجامعات اللبنانية، في ذلك الوقت  من الزمن أرضا ً وحقلا ً 
خصبة للأفكار التحرّرية، في عالم عربي مُدلهّم، ومُكْفهّر، ومُدجّج بعقلية حُكاّم تعود الى أزمنة تخّلف، وتقهقُر فكري، ومعنوي. 

كانت عقلية شباب ذلك الزمن، مُبرمجّة
الى تطّلعات مستقبلية زاخرة بالاحلام
وزاهية بطُموحات تصّل الى سقف السماء، بعد ان ظنّوا واهمين ان الاستقلال من رقبّٓة الاستعمار الفرنسي هو طريق الخلاص، والبدء بالسير في درب تكافؤ الفرص، وتطبيق مبدأ سيادة القانون.  

من بين شباب وشابات الجامعة، إلتقى شاب بإحدى الشابات :

هو، يرجع في أصله وفصله، الى عائلة معروفة بين الأهل، وقد جار الزمن على جد ّ هذه العائلة، بأن رزح تحت وطأة نكبة الحرير، والمادة الجديدة النايلون، حيث تمّ إغراق الاسواق العالمية، بالنايلون، وإغلاق معامل الحرير في طول البلاد وعرضها، فبيعت الاراضي، وحُجزت الاملاك، تسديدا ً للديون. 

أما هي، فإنها تنحدّر من أُسرة ثريّة
يرافقها ويُصاحبها نُفوذ واسع، ونُبل ٌ في التعاطي، وعفو ٌ عند المقدرة. 

كانت هي، إن دخلّت الجامعة، لا يُدرك اي شاب او شابة من رفاقها، مدى ألثراء الذي تتمّتع به، ووفرة النعيم الذي تعيش فبه، لان تواضعها ينسحب الى ملبسها، ودماثة خُلقها، وكانت إن خرجت تسير سيرا ً الى محطة توقف حافلة الركاب، وتختفي. 


تشابكت، وتقاطعت النظّرات ما بين هذا الشاب، وتلك الفتاة، فكان يُلفتها 
جدّيته، وإجتهاده، وإنكبابه على الدرس والمطالعة في مكتبة الجامعة. 

أما هو، فقد أذهله إنكبابها على تدوير زوايا الخلاف في ما بين زملاء الصف، فإن إختلفوا على الجلوس في الصف الأمامي كانت تُعطي مكانها، فينفّض النزاع خجلا ً منها. 


وذات يوم ٍ، لم تاتِ الى الجامعة كعادتها، وتكرَّر الغياب لأكثر من أسبوع، إفتقدها الطلاب والأساتذة، حتى أن ّ احد الأساتذة، سأل،  هل يعلم احدكم عن سبب غياب زميلتكم ؟

ساد الوجوم، والصمت، قاعة المحاضرات، وقال المُحاضر، عجيب أمركم، تحلمون ببناء شركات  في مخيلاتكم، وتتراكضون نحو سراب المستقبل، ولا تفكرون حتى برفاق الدرب الطويل، ولا تعلمون ولا تعرفون من أنتم. 

إنتهت المحاضرة، وتدافع الطلاب للخروج، إلا هو ... بقي على كرسيه يُفكر بملاحظة المُحاضر، وبدأت الأفكار تأخذه، كيف السبيل للوصول الى عنوان سكنها، او حتى رقم هاتفها. 

وبينما هو شارد الفكر، إذا سمع صوت احد زملائه يناديه قائلا :

في الباب هناك شخص يسأل عنك. 

نظر الى هذا الشخص، وإستغرب انه لا يعرفه،  

تقدم الشاب اليه وقال له، انا شقيق زميلتك، وهي مريضة طريحة الفراش وهي ترجو منك ان ترسل لها المحاضرات التي أُلقيت في غيابها، وقالت لي، اذا سألك لماذا انا، أجبه فورا ً باني أعرف انك من أنشط وأذكى طلاب الدورة.

بعد ايام، تعافت وعادت  زميلته الى الجامعة، وكانت ضعيفة، مُنهكة شاحبة الوجه، ومُتعبّة. 

تقدمت منه وشكرته على المحاضرات،  وسألته ان كان لديه وقت لانها عجزت عن فهم بعض  ما جاء فيها.  

وكعادته، دخل معها مكتبة الجامعة،  وسألها، لماذا أتيت ؟  يبدو انك ما زلت مريضة، وعرض عليها ان يستمر في إرسال المحاضرات كل يوم.

ومن فرط شفقته الممزوجة بالاهتمام على صحتها، عرض عليها ان يزورها طبيب عائلته القادم لتَوه من اميركا، من دون  أجر. 

إستغربت هذا الاهتمام، الممزوج بعاطفة قل ّٓ نظيرها، وأدركت في تلك اللحظة انه لا يعرف مدى الغنى والترف الذين تنعم فيهما. 

أبدت جزيل شكرها، وقالت له، قد أستعين بك في حال لم تتحّسن ظروفي الصحية. 

في تلك اللحظة، لمعت في مخيلتها ان تُبقي هذا الصديق الجديد، في جهله المُطَبّق لوضعها المادي، وشعرت ان هذا الاهتمام بشخصها،  يُثير إعجابها، بالاضافة الى إدراكها انه مُتمّكن في الدراسة. 

في المكتبة،
وضعت أمامها احد الكتب، وكانت عندما تُشير، وتُقلّب صفحاته تقوم بسحب زهرة من كل صفحة، تُرِيد إستفسارا ً او توضيحا ً، وتكرَّر ذلك في الكتاب الثاني، والثالث، وكانت تنزع الزهور ثم تُعيدها الى ذات الصفحة.

وبعد ان شرح، وفسّر لها، تبين له انها أجهدت نفسها كثيرا ً، وقال لها يكفي اليوم، وغدا ً سأُكمل لك إن إحتجت تفسيرا ً 

وعندما همّٓت بالانصراف، إستمهلها، وسألها، هل تستعملين هذا النوع من الزهور وكأنه  ماركر 

أجابت  ب نعم. 

وقالت، اني أُحِب هذه الزهرة، انها زهرة برّية، تعشق الشمس، وتُحب الربيع، ومُتمردة، لا تهاب الشوك من حولها، فيها اللون الأصفر هو قلبها،
وفيها اللون الأبيض علامة نقاؤها، وتقول الأساطير انها كانت تُستعمل أكليلا ً وتأجا ً لأجمل النساء. 

وأضافت، انت من الساحل، لا تعرف هذه الزهرة، وان اسمها :
زهرة أُقحوان إكليلي، وانا أفضل اسمها باللغة الانكليزية كراون دايسي. 

أجابها فورا ً :

للتوضيح، انا موطني الجبل، وأعرف هذه الزهرة تماما ً ولكن لم أُعرّها يوما 
اي إهتمام، ولكن أعدُّك من الان وصاعدا ً كُلَّمَا أنظر اليها، سأتذكرُك. 

علّت وجها ابتسامة، ناعمة ...
 وَرُسمت خيوط حمراء على مُحَيّٓاها خجلا ً... 
فبادرها قائلا :
لقد أشرقت شمس ُ وجهك ...

وتواعدا الى غد ٍ أخر 


وكعادتها بان تاتِي باكرا ً الى الجامعة، وتجلس في الصف الأمامي، دخلت وبقيت تشيح بنظرها الى المقاعد الخلفية، علّها تراه.

كانت تنظر الى ساعتها، بين لحظة وأخرى وتعيد وتكرَّر  النظر الى الوراء، الى ان دخل المُحاضر وبدأ الصف. 

أما هو، خلافا ً لما درج عليه، فانه تأخّر في الدخول الى قاعة المحاضرات، عمدا ً، لانه كان يرغب في استرقاق النظر اليها من المقاعد الخلفية، علّه يُشبع نظره، ألمُتهالك لرؤيتها. 

كان ينظر اليها، فإستدارت فجأة الى الخلف، وتصادم نظرها، بنظره فإبتسمت له، وأشار اليها بيده بسرعة فائقة، وكأنه نشّال ٌ مُحترف ْ 

ما إنتهت المحاضرة، وعلى غير عادتها، أسرعت بالخروج، وكان بإنتظارها، ضحكت كثيرا ً عندما قال لها، لا تتكّلي علي ّٓ في شرح هذه المحاضرة، لاني لم افهم شيئا ً منها، بل يمكنني ان أُعدّد المراّت التي نظرت ِ الى الوراء، وعدد المراّت التي وقع قلمك الى الارض، فلنستعجل حمله الى الطوارئ لكسور ورضوض شوّهت منظره. 

إرتاحت أساريرها، لمّا سألته لماذا تأخر، ولماذا يبدو مُنهكا ً ؟

إجابها دون تردّد، 
كان ليلي طويلا ً ...
وكان أرقي مُتعبا ً ...
وكان قلقي عليك، مُنهكا ً ...
فرجّوت ُ القمر أن يغيب ...
وتضرعت للشمس ان تشرق ...

كل ُ ذلك بسببك 

وسألها، هو :
كيف حالك انت ِ ...

قالت :

كان ليلي قصيرا ً،
لان النُعاس غلبني ...
وإتكأت جفوني على بعضها ...
ونِمت قريرة العين ...

لم يكترث لانها إدعَت ذلك، بدليل انها طلبت منه الدخول الى كافيتيريا الجامعة، لان التعب بدأ يجتاحُها، ولا يُخَفِّف من وطأته الا القهوة. 


في الكافيتيريا، وهي ترتشف القهوة، أخرجت من حقيبتها قلم باركر نصفه الأعلى ذهبا ً والنصف الثاني لونه أزرق، وقدمته هدية له. 

رفض إستلام الهدية، لانها غالية الثمن، وقال لها عليك ان تضعي المال الذي صرفتيه  لهذا القلم، على صحتك بدلا ً من ان تشتري قلما ً لن استعمله. 

طلب اليها إعادة القلم وإسترجاع القيمة. 

إدراكا ً منها بصدقه وإهتمامه بصحتها، أخذت القلم وأعادته الى حقيبتها، وأردفت تقول اني لم أشتره بل هو لوالدي، تركه على طاولته بعد ان إستعمله، ولكنه يبدو جديدا ً.


كسابقة النوم قريرة العين، طوال الليل لم يُعِّر إدعاء مقوّلة القلم انه لوالدها، اي إهتمام. 

كان ذكاؤها حادا ً لانها تركته يتخبّط بجهله عن مدى الثراء الذي تتمتع به، 
وهذا بحّد ذاته سببا ً كافيا ً للهيام به. 

عرض عليها ان يُرافقها الى محطة توقف الحافلة، شكرته قائلة ان والدها سيمّر عليها لأخذها الى البيت. 

وإفترقا الى غد ٍ أخر، من قصة ستطول. 
كان هذا اليوم، عاصفا ً ماطرا ً، وكانت الشوارع المحيطة بالجامعة تُزمجّر انهارا ً وزادت سرعة الرياح عن المألوف. 


لم يطّق ان يمُرّ هذا اليوم دون ان يراها، لان سُحُب الحب بدات تحوم في قلبه، والشوق اليها ما لبث ان تعلّق على أسوار عقله، فدلف الى قاعة المُحاضرات يائسا ً من طول الانتظار. 

دخّلت القاعة على عجَلة من أمرها، لم تجوّل نظرها كثيرا ً لانه كان على عتبة الباب مُطأطأ ً رأسه. 

طبطبت على كتفه، وقالت :
ما بك ؟
أجابها، ما بك انت ؟
لماذا تأخرت ؟

قالت، أخذني وقت كبير حتى أصل من محطة الحافلة الى الجامعة، وأشعر الان بالبرد القارس، والمطر الغزير، بلّل ثيابي، والشوارع باتت جداولا ً ...

تركها تُكمل وصفها، وأشفق عليها، ومد َٓ يده  وكانه يُصافحها، علّه يعطيها دِفئا ً،  فَذُهِل عندما شعر بان الدفء في يدها، وأطبق يده الثانية على يدها، وقامت هي الاخرى، بوضع يدها فوق يدّه، ونظر الى وجهها وقد غطّاه الخجّل. 

فقالت له ما بك ؟
قال، خِفت عليك، وقلقت لان موقف الحافلة بعيد عن الجامعة. 

ثم أسقط  عمدا ً، قلما ً وإنحنى ليلتقطه، فإذ به يُصاب بالذُهول  ثانية  لان حذائها الكُحلي اللون، والمخملي النوع  لم يتلطّخ  بنقطة ماء واحدة. 

كذلك ألقى نظرة على ثيابها، فإنها كانت غير مبّللة بالمطر. 

عادت وسألته، 
ما بك ؟
لم يُجِب ْ  ....

ساد صمت رهيب، لم يقطّعه إلا خياله الذي أخذه ورماه في نعومة يديها، وطراوة ملمسه.

 فضرب إخماسا ً بأسداس، كيف تأتي  من موقف الحافلة، ولم تتبلّل ؟

كيف تقول ان البرد أخذ منها، ويدها دافئة.

لحظات لمعت في مُخيلته، وكأنها سنوات.  

تألمّ  كثيرا، لانه وقع طريح سهم من حب قاتل، أطلقته إمرأة  يجهل من هي، ولكنه يعرفها. 

من امراة إحتّلت قلبه، دون قتال. 

من امرأة  تشغُل حياته، وهي ليست من هذه الحياة. 

توقفت هواجسه ومخاوفه، عندما، همست في أذنه، وقالت سأترك القاعة الان، لان الأرصاد الجوية أعلنت بالامس ان العاصفة ستصبح أشد ضراوّة  بعد ساعات، وانا مضطرة للعودة الى المنزل، وأتيت فقط لألتقي بك بالرغم من هذا الطقس الماطر.

زاده الذهول، ذهولا ً ...

أعطّته يدها، وانحنى يُقبِّلها، بكفيه. 
وقالت، أخبرني لاحقا ً عن المحاضرة، إن شئت.

تركها تُهروّل مسرعة، الا انه تسلّل خلسة من قاعة المحاضرات دون ان تراه.

سار مُسرعا ً ووقف امام نافذة الدرج التي تُشرف على مدخل الجامعة وعلى الطريق العام. 

لم يتمالك ذلك المشهد الذي رَآه بأُم العين. 

سيارة أميركية فارهة المنظر، متوقّفة على باب الجامعة، سائقها يلبس بدلة كحلية اللون، ويعتمر على رأسه قُبّعة وكانه، جنرال من جنرالات الوغى، يُسرع في فتح باب السيارة الخلفي لتدخل هي التي كانت معه منذ لحظات.

أقفل السائق الباب، وتراجع هو الى الوراء، ولمحها من ثاقب نظره، وهي تُسرح نظرها، للأعلى ومن حولها، فإطمأنت،  انه لم يشاهدها أحد. 


وكان ذهوله هذه المرّة، أشد مرارة من وقع الصاعقة عليه.

لم يدخل قاعة المُحاضرات، وإنهارت عليه ذكرياته معها :

ظنّ انها أقل ّ منه يُسْرًا. 
ظنّ انها أكثر ُ منه صُدِّقا ً.
ظنّ انها تُحبّه. 

وعادت ظُنونه، وشُكوكّه بانه لا بد من سبب لهذا الكذب المُتمادي، والتكّتم الشديد عن وضعها المادي.

عاد الى منزل عائلته، والسماء تقصف  اكوابا ً من المطر، تنهمر عليه دون هوادة. 

لم تبرح من مُخيلته ....  


وفي مساء ذلك النهار الصاخب في عاطفته، والعاصف بأجوائه، تلقّى إتصالا ً هاتفيا ً منها. 

بادرته قائلة لن اسألك عن المحاضرة، لانها لا تهمّني بقدر قلقي عليك كيف وصلت الى منزلك ؟؟

 وإنهمرّت عليه بالاستفسارات، وهل اصابك مكروه، وهل .. وهل .. الى ان توقفت عن طرح الأسئلة. 

أجابها فورا ً ...
انا بدوري قلقت عليك، لان غزارة المطر لحظة مغادرتك الجامعة كان كافيا ً ان يُغرقك !!

إجابته، تبللّت كثيرا ً !
وتأخرت الحافلة !
وشعرت بالبرد الشديد !

أجابها ساخرا ً... 
كم تمنيت لو كنت معك ...

وقالت، لماذا ؟؟

لاني كنت :

سأُخبئك، تحت معطفي، 
وأُوقيك، من المطر،
وأدفع عنك البرد،

قالت له،

أتمنى لو تهّب عاصفة ثانية، حتى ننزل سويا ً تحت المطر، لأنعم بدفئك
ولأتمتع بحمايتك. 

قال لها، 
هل تمزحين، او تسخرين مني ؟ 

قالت له ابدا ً، وفيما لو طال أمَد العاصفة حتى الغد، سأطلب اليك ان تُرافقني تحت المطر الى محطة الحافلة. 

أجابها، والحُنق باديا ً من لهجته،
وماذا ستفعلين بسائقك الخاص ؟؟
ولماذا تهزئين مني ؟؟
ولماذا، ولماذا،
 وأنهى المكالمة، طالبا ً عدم المُعاودة. 

لم تتمالك من ان تنهار باكية، فنزلت دموعها مدرارا ً .. وأجهشت بالبكاء حتى أحسّت والدتها بالأمر، فقدمّت اليها مُستعلمة ً وقلقة ً عليها ...

أخبرت والدتها، بتفاصيل الموضوع، من كتمان الى تنامي الحب بينها وبين ذلك الشاب، وكيف انه احبها وهي تُخْفِي عنه مستواها المادي. 

قالت لها والدتها،
لن أطلب منك تفاصيل إضافية.
 إنه يستحقك 
وكفى بكاء ً 
دعيني أُصلح
ذات البين بينكما 
وطلبت اليها ان تعطيه رقم تلفونه.   



ومع تزايد، وإشتداد العاصفة، هبّت رياح قوية، وإنقطعت الكهرباء وعلّا في أرجاء المدينة، أصوات وكأنها عواء ذئاب جائعة، فتطاير الزجاج، إنهارت الأبنية القديمة، وأمتلأت الشوارع بمياه الأمطار. 

 أغراه، وأغواه هذا المنظر، فنزل الى الشارع بالرغم من معارضة اهله، وفي مُخيلته انها معه وتحت معطفه. 

ولمّا أنهكه السير، وهو يُحاكي نفسه في خضّم هذه العاصفة الهوجاء، عاد ادراجه الى بيته وسبح في احلام حتى صباح اليوم التالي. 

أيقظه والده من سُباته العميق، وقال، هناك سيدة تطلبك على الهاتف  وتريد ان تتكلم معك. 

وعلى الجانب الاخر من الهاتف، قالت هذه السيدة له :

انا والدة زميلتك بالجامعة، 
أطلب اليك أن تقبل إعتذار ابنتي عن الذي حصل بالامس، ولو انها بحالة صحية جيدة، كانت هي التي قامت بالاعتذار، كونها الان في المستشفى طريحة الفراش، لعارض صحي مفاجئ، على الغير،
وليس عليَّ انا. 

تغيّرت لهجته، وقال كلاما ً إرتطم صدّاه أرجاء الغرفة،

 ما الذي حصل،
 وكيف،
وأين هي،
وبأي مُستشفى،
 وبأية  غرفة ....

أجابته، هدِّأ من روّعك ...
انها الان بخير ...
ولا أرى مانعا ً إن قمت بزيارتها ...

وأردفت قائلة، الى اللقاء. 

في هذه اللحظة :
 إنقشعت الغيوم السوداء، من سماء عقله ...
وجفت الدماء السوداء من  جدران قلبه ...
وإنبسطت أساريره ...
ونسي عتّبه ...
وهاجت في وجدانه موجات من العطف والشفقة والحنان عليها ...

فتح نافذة غرفته، ورأى الشمس كعادتها تُشرق، وترسل أشعتها، وكأنها تضحك وتبتسم له. 

هدأت العاصفة، وإنحسّرت.

إنقلبت حياته وتبّدلت، رأسا ً على عقب. 
وشعر انه تقمّص من جيل الخيبة، الى جيل الأمل ..

فتراكمت، وتزاحمت الأفكار في مُخيلته ...

ماذا سيفعل ؟
كيف، ومتى يزورها ؟

ولكنه اصطدم بأمر شائك صعب المنال، والتحقيق. 

هدية زيارته لها في المستشفى 

إنها تُحِّب، وتعشق زهرة كراون دايسي 
إنه فصل الشتاء ... وهي زهرة برية ربيعية 
ماذا سيفعل 



وفي تلك الليلة الليلاء، 
وبعد ان أخذت رقم هاتفه من أبنتها،
سألتها :
الان، وحالا ً، وفورا ً ما قصة هذا الشاب ؟
ولماذا الكذب ؟
ولماذا إخفاء من انت ؟
ولماذا ... ولماذا ... وكيف. 

أسئلة أُم :

 أجهدت نفسها لتجعل من ابنتها صديقة لها، حتى ترجع اليها في أحلك الأوقات. 

وكانت إبنتها، خير صديق، وخير جليس لها. 

إذن ما الحكاية ؟

قالت لوالدتها :

انت تعلمين لماذا تركت الجامعة الاولى، وإلتحقت بهذه. 

انت تُدركين كيف كان شباب الجامعة يتمّلقون، ويتودّدون لي، كل ذلك بسبب الثراء الذي انا فيه. 

ما زلت يا أُمي، تتذكرين نِفاق الشباب في تصرفاتهم الرعناء، في تسابقهم مع سائق سيارتي، لفتح الباب لي. 

وانت الوحيدة التي وقفت بجانبي حتى قَبِل والدي بان أتحّول الى جامعة أخرى، بالرغم من علو شأنها،
والثانية أقّل منها.

كل هذا جعلني أشمئز من الجامعة، ومن طلابها وشبابها، فأحسست اني لا شئ، لولا ثراء، ومال ابي. 

قالت الأم، وما دخل كل هذا، بهذا الشاب ؟

أجابت والدتها :

منذ اليوم الاول لدخولي الجامعة، طلبت  من سائقي أن لا يُوصلني الى باب الجامعة، كما كان يفعل سابقا ً بل طلبت اليه ان يوقفني قرب محطة وقوف حافلة الركاب، وأمام أحد الحوانيت  الصغيرة، حيث إتفقت معه ان يسمح لسائقي بالوقوف لانتظاري لقاء ان أشتري كل يوم منه، حلوى  او ماء، وأُقدمها بدوري الى أُم وابنتها الصغيرة، دائماً يتوسلون، ويطلبون المساعدة من المارة امام باب الجامعة. 

بقي الحال على هذا المنوال، إلى يوم هبوب هذه العاصفة  الشريرة، عندما شاهدني وشاهد سائقي، حيث وقعت الكارثة، والمأزق الذي انا فيه. 

قالت الأم :
ما زلت لا أفهم ...
هل إرتكبت جريمة ؟

قالت، يا أُمي  :

هذا الشاب توطّدت علاقتي به، ونمى الاحترام،  والمودّة  بيننا بالرغم، اني فقيرة بنظره. 

أحبني أنا ..
أحب ّٓ .. صفاتي ..
أحب ّٓ .. أخلاقي ..
أحب ّٓ .. ثيابي البسيطة، غير الفاحشة الثمن ..
أحب ّٓ .. تعلُقي بالزهرة البرية، لميزتها المعنوية، وليس المادية ..
أحب ّٓ .. الأنا التي انا ..

تصّوري يا أُمي،

 لمّا حل ّ بي المرض وتغيّبت عن الجامعة، ماذا فعل ؟

عرض ان أزور عيادة طبيب عائلته، من دون ان أدفع ثمن الزيارة، لانه إعتقد اني أعيش في عِسر مالي، اي اني فقيرة. 

كان دوما ً يرسل لي مُلخّص المحاضرات، ويرفقها برسالة بخطه، يُعلمني بكل شاردة او واردة حصلت في غيابي. 

كانت رسائله لي، أهم من المحاضرات، لانها ابقتني حاضرة، وأعطتني البهجة، والسرور،  ولم يُعلمني قطّ بخبر أزعجني، حتى جعلني أظنّ ان الجامعة، وطلابها، وأساتذتها، وعميدها، إفتقدوني طالبين بالصوت العالى ..... تعافي ... وعودي ...
نحن بشوق اليك. 

كانت رسائله لي :

دائما ً وأبدا ً تبدأ بحرف  و 
كقوله، وبينما، وعندما، ومتى و، الخ. 

وقد سألته مرة واحدة :

لماذا تبدأ رسائلك لي بحرف  الواو 

أجاب :
ل وٓصْلِ، ما إنقطّع ...
إن إنقطع ..
ولن ينقطّع ..

قلت له،  وكيف :

قال :

منذ اليوم الاول الذي تعّرفت عليك، عاهدت نفسي، ان تبقى أيامي وايامك موصولة الى الأبد ...
وهكذا، وهذا، أعني :

وٓصْلِ، ما إنقطّعْ ...
......
......

أجهشت بالبكاء، 
وغابت عن الوعي،
ونقلتها والدتها للمستشفى. 


بقي يفكر، ويفكر كيف الوصول الى كراون دايسي، انه الشتاء، والصقيع
وتراكم الثلوج فوق جبال قريته، يمنعه من التفتيش والتنقيب على هذه الزهرة حتى وإن كانت ذبُلت. 

لم يترك متجرا ً لبيع الزهور والورود إلا وسأل عن هذه الزهرة. 

كان الباعة، يتعجّبون، ويقولون :

هذه الزهرة، برية لا تُباع لانها تنمو على حافة الطُرق، لا قيمة مادية لها، فضلا ً ان موسمها،  في الربيع. 

لم ييأس، 
دخل احد المتاجر، يُباع  فيه كل شيئ يخّص المرأة. 

 وقال لإحدى البائعات :

إن زميلتي بالجامعة تُحِّب زهرة برية أسمها بالعربية، وبالإنكليزية، كذا، وكذا،

أوّد أن اشتري لها هدية،  عليها رسم هذه الزهرة.

 لم تفهم عليه البائعة، ولكنها رغبت في المساعدة، وقالت :

هذا رزمة اقلام ملونة، 
أُرسم لي هذه الزهرة،
سأساعدك. 

قام برسمها بدقة مُتناهية، بالأبيض والأصفر والغصن الأخضر. 

قالت له مهلا ً ...
وأتت بالعقود، والسناسل، وكل شيئ فيه صورة. كراون دايسي. 

أعجبته من كل القطع، قطعة واحدة، مرآة صغيرة، يُمكن وضعها في حقيبة نسائية. 

في وجهها الاول،

مرآة تُعطي الصورة حجما ً أكبر. 

وفي الوجه الاخر، رسم ناتئ،  وبارز لهذه الزهرة بكل تفاصيلها. 

وبينما تهّم البائعة، بتغليف الهدية، سألها، إن كان لديها ورق هدايا عليه هذه الزهرة. 

لم تتمالك البائعة من الابتسام،
 وسألت غيرها من البائعات إن كان يوجد هذا النوع من الورق. 

وبعد طول غياب وتفتيش، أتّت زميلتها  
تحمل رزمة ً من هذا النوع، فإشتّد فرح البائعة اكثر منه. 

وقالت له ؛
كيف تريدني أن أقوم بترتيب الهدية. 

قال لها :

رسم الزهرة الذي قُمْت بتصويره، لك. 

أُريده مع المرآة ...

والباقي عليك ِ ...

قبل مغادرة المتجر، سألته البائعة :
لماذا إصرارك على هذه الزهرة ؟ 
اخبرها قصة كراون دايسي. 


لمّا وصل الى المستشفى، إستدّل الى غرفتها، كان الممّمر المؤدي الي جِناحها، يكتّظ بسلال من الورود، والزهور على شتّى الوانها، واجناسها، وأشكالها. 

إعترتّه الدهشة، وقارن هديته المتواضعة مع تلك الأرتال من السلال. 

خرج أخاها، مستقبلا ً .. وهو  الذي كان ينقل المحاضرات لها ..

قام بمهمة التعريف، عنه مع الحشد الكبير الموجود في قاعة الضيوف، ومن ثم عرفّه على والدته. 

أخذته جانبا ً، وشكرته على الزيارة، وأدخلته مباشرة الى غرفتها، ووقف صامتا ً جامدا ً لا حِراك، وهو يُشاهدها في سرير صغير، غرقّت فيه، إلا وجهها الأصفر الباهت، الشاحب، ويدها الممدودة والمربوطة بأمصال دواء. 

وكأّن الاطنان من الأثقال، وُضعت على جفنيها، حاولت جاهدة ان تراه لم تكّد، فأغمضت على دمعتين، كحبتي اللؤلؤ في مهد أصدافها. 

سحبت يدها الاخرى من تحت الغطاء
بتمّهل وصعوبة، فما كان منه إلا ان أغلق يداه الاثنتان على يدها بإحكام ٍ


إغرورقت الدموع، وسالت ومن ثم قالت :

إن كنت تفهم  لغة دموعي، فلا حاجة لي ان أتكلم. 

وإن كان قلبك كبيرا ً، فإترك مجالا ً لقبول عُذري. 

قال لها :

إن دموعك أغلى من حبّات اللؤلؤ ...
أمّا عُذرك، فهو من قبيل وٓصْلِ ... ما إنقطّع ...

تُبَسَّمت، 
وقال لوالدتها، وهو يُجاريها  ... بالابتسام :

يبدو ان الشمس في المستشفى، تأخرّت اليوم في الشروق 

وبعد ان إطمئن على صحتها، 
أخرج من جيبه الهدية ...
وقالت :
إفتحها انت ...
وبعد أن فتحها، قال لها :

أُنظري بالمرآة، هل شاهدت آلهة الجمال ؟

أُنظري الى الخلف، زهرة الإكليل هذه التي ستكون دائما ً وأبدا ً تاجا ً فوق  رأسك ؟

لم تتمالك من البكاء، 
فتّدخلت والدتها، وقالت :

بُكَاء الحزن، قبلنا به،
 أما بُكَاء الفرح، فانه مرفوض. 

قالت :
انها أجمل هدية تلقيّتها طوال عمري، 
ولكن، سألته :

ما سبب وجود صورة زهرة كراون دايسي مع الهدية ..

أخبرها الحادثة، 
وقالت، ستبقى هذه الصورة، على مكتبي طوال عمري، بعد ان أضعها داخل إطار من الذهب الخالص  ... 


وبقي يزورها في المستشفى طيلة بقائها الذي إستمر، سبعة ايام، حاملا ً اليها المحاضرات، وكان يُخبرها كعادته عن كل شاردة او واردة، حتى يُضفي الحبور والبهجة في نفسها. 

كان يراها، أجمل الجميلات حتى في مرضها، وكانت نظراتها اليه كلما زارها، ترسم علامات الفرحة والسعادة. 

الى ان دخل عليها  يوما ً  وهي بادية الحزن، وتعلو الكآبة على وجهها، ووالدتها مُنزعجة، وهي ترجوها ان تهتّم بصحتها قبل كل شئ. 

فسألها، لماذا الوجوم، وكأن قناطير من الهموم تنهمر من السماء عليك ؟

قالت له الأم :

انها كئيبة منذ الصباح الباكر، لانها إنقطعت عن تقديم الحلوى والعصير لابنة المتّسولة التي تقف على باب الجامعة. 

ضحك، وإبتسم، 

وقالت له  بنبرة  حادة.

وانت ايضا ً، تهزأ مني،
 مثلك مثل أُمي :

قال لها مهلا ً مهلا ً ... . 

منذ  اليوم الاول لغيابك، وانا أقوم بذات المهمة ...

لم يكْد يُنهي حديثه حتى أغروّرقت  دموعها بالفرح، وهبّت والدتها وأعطتها منديلا ً وهي تقهقه من الضحك والبهجة تعّم ارجاء الغرفة، 

إياك، إياك  والكريستال  ان يتدحرج أرضا ً، لملميه، وأخفظيه في هذا المنديل. 

قالت له، وقد تُحِّولت الى انسانة تعّج بالسعادة، انت اليوم وكعادتك تجلب لي السعادة، وطلبت  اليه ان يمّد يده،
فقامت بوضعها على وجهها. 

 

كان يُلاحظ ان والدتها، تُوليه إهتماما ً
خاصا ً، وبدأت تخبره ان ابنتها كل شئ فيها مثل  الكريستال  دموعها
وقلبها ورقتها، وما عليك إلا ان تُحافظ على حبّات الكريستال كما افعل دائماً. 

لم يُعّلق كثيرا ً، ولكنه توجه بحديثه اليها، وسألها إن كانت مرتاحة. 

أجابت الوالدة، فورا ً بكلمة واحدة. 
بوجودك !!!

ساد صمت رهيب عمره .... قرون. 


وفي يوم خروجها، قالت له :

أُحِب ُ ان أُبلغك اني لن أُغير عادتي وهي قدومي سيرا ً من محطة الحافلة
الى الجامعة. 

لن يكون معي، مظّلة حتى تقيني من المطر. 

قال لها :

ولماذا تتحّملين  هذه المشّقة، فالأمور اصبحت واضحة بيننا، فضلا ً عن ذلك ان الأرصاد الجوية، تُحِّذر من هبوط درجة البرودة، وانت ما زلت بحالة صحية غير مستقرة. 

إجابته :

إن ّ السير من محطة الحافلة الى الجامعة، كان هو الطريق الذي تعّرفت فيه عليك، سأستمر في سلوكه، من دون السائق وكما جرّت العادة.  

بالاضافة الى ذلك، اذا كنت تتذّكر ليلة خلافنا، تمنّيت لو ترافقني الى محطة الحافلة إذا إستمرت العاصفة لاني احّب ان أسير معك تحت المطر. 

اليوم أُكرّر طلبي، وأقول لن يكون معي مظلة لاني أوّد ان أستظل تحت معطفَك، ومظلتك انت. 

أجابها :

ماذا تريدين ان افعل ؟

قالت له، الامور ستتغّير الان ...

أُريد ان نكون،  في قاعة المحاضرات، والمقصف، معا ً وسويا ً ...  لانها من اجمل لحظات العمر. 

أُريد ان ترافقني، من الدكان بقرب محطة الحافلة، وندخل سويا الى الجامعة. 

قال لها :

هذه أمور كنت أحلم بها، وقد تحقّقت الان، ولكن لي سؤال واحد ...

قالت :
ما هو ؟

والدتك تقول انت مثل .. حبّات ...

الكريستال ....

 ولكني انا اقّول ان أسمك 
سيكون من الان  كريستل   وسأترك لوالدتك دمعة واحدة من الاسم، وهي حرف الألف 

إبتسمت، وإشترطت :

أُقبل على شرطين :

لا احد،  بالكون يناديني بهذا الاسم إلا :
انت ...

وأنا أناديك :

مستر  واو 

فليكن هذا سّرنا ...
أجاب :

قٓبِلْت ْ  ...  يا  ... كريستل ...


وبدأت الأيام السعيدة، تتدّحرج على كريستل وحبيبها، وتجرُف كل الهموم.  وتضفي البسمة، والفرحة.

كانت كريستل تغرف من الحب الذي وفّره حبيبها، بنهّم دون إكتفاء. 

كانت تقول له، انا عطشى، وأكاد أموت من ألظمأ، فيهّب مسرعا ً لجلب الماء لها، فترفض بدلال، وتقول :

انا عطشى ل حُبّك، وحنانك، وإهتمامك. 

كانت تتصّل به يوميا ً، في الصباح الباكر، وقبل ان تخلد الى النوم، وتسأله نفس السؤال :

ماذا أكلت ..
ماذا شربت ..
ماذا لبست ..
ماذا فعلت ..
وماذا، وماذا  ؟؟؟


كانت إذا دعتّه الى العشاء، لا تقبل إلا أفخم المطاعم، وأغلاها سعرا ً  ..

كان إذا دعاها هو، الى العشاء، تتعّمد، وتدّعي انها مُشتاقة الى صحن من الفول او الحمّص صحن شعبي في لبنان، زهيد في سعره

كانت إذا قدَّمت  له هدية، وغالبا ً ما تكون من الهدايا الفريدة، وباهظة الثمن، تشترط عليه ان تكون هديته لها بالمقابل، زهرة او وردة الى حين قدوم فصل الربيع. 

كانت تطلب اليه في فصل الربيع ان يعطيها يوميا ً باقة من أزهار  كراون دايسي، حتى تقوم بجمعها، على شكل تاج، او عقد، او إسورة، او تضعها في كتاب.


كانت والدتها، تُلاحظ تعّلق كريستل بحبيبها، وتحاول جاهدة ان  تلقى من زوجها قبولا ً لهذا الواقع. 

كان الأب في خِصام شبه يومي مع كريستل، حتى تلاشت مقاومتها عندما سأل الأب حبيبها في تحّد ٍ صارخ، ما هو الأجر الشهري الذي تتوقعه فور تخرّجك  من الجامعة هذه السنة ؟؟ 


نهض حبيبها، وقال للأب :

إن اجري الشهري الذي سأناله سيكون مثله مثل كل شاب، يبدأ حياته من أول الطريق. 

إمتعضّت الأم، وخاب ظنها، أمّا كريستل وكعادتها في لغة الدموع والعيون، نظرت الى حبيبها وهو يغادر منزلها، وهمست في إذنه، سأتصل بك. 

خرج حبيبها مكسور الحِناح، تسبق خطواته سلالم من الخيبة، ونادته كريستل :

مستر  واو   
Take care !!!!
I, love you !!!

كانت كلماتها بلسما ً على جراح، لم يتوقف نزيفه، وزادت اللام على مرّ الأيام، وزادت القروح على تراكم السنين، فلا دواء عليل، ناجع يُخمد البركان الذي إنفجّر، وبدأ ينفث الحمّم  دون هوادة.


وكعادتها كل مساء، إتصلّت به، وإنهمّرت عليه، عليه بذات الأسئلة،

 كان الْحُزْن، وإلاختصار باديين، وواضحين  من الأجوبة.

كانت تُحاول التخفيف من وقع الصاعقة عليه.   
 

قالت له، مازحة، لترطيب الأجواء. 
 
ولماذا التجهّم يا مستر واو ؟؟

غدا ً ،،،  ستدعوني الى العشاء، لاني أُحِب وإشتهي ان أتناول البصّل والزيتون، والفول، واللبنة، والخبز المرقوق، وأغرف بيدي، ولا أنظف أصابعي ألا بفمي ...

هذه هي انا :
أحّب ّٓ الامور على قلبي :

ان أكون معك ..
ان أمشي معك تحت المطر ..
ان يكون غدائي حُبك ..

لا تهتّم لكلام والدي، طالما ان أُمي بجانبي، ومعي وتفضّلك على سائر الشبان الذين تقّدموا لي ...

بالامس، نشب خلاف بين أُمي،
وأبي ... وبيني ...

كنت واضحة، صريحة، معه :
وقلت له :
إما هو ...
او لا أحد ....

غضب، والدي وخرج من المنزل. 

لم تنفع كل هذه التوّسلات والأخبار مع حبيبها، لانه لا يُرِيد ان ينشُب خلاف عائلي بسببه. 

كانت الامور، والايام على قلتّها، تسير كالسلحفاة،،،

كان التحُفّظ باديا ً وهو سيّد المواقف.   

أتى فصل الربيع، وإشتدّت الحرب الأهلية في لبنان،  ضراوة ً ...

كانت السماء تُمطر القذائف، كهطول المطر في فصل الشتاء ..

بدأت اللقاءات تتقلّص بسبب إنقطاع الطرق، وإنهمار القذائف، وتكاثر الحواجز الأمنية. 

كانت كريستل، ُترسل سائقها الى حبيبها، يحمل منها الرسائل والأخبار، ومع كل رسالة، زهرة ذابلة من كراون دايسي. 

سالها، لماذا ترسلي لي زهرة ذابلة، وانا لم انقطع عن إمدادك مع سائقك بكميات من الزهور النضرة ...

كان جوابها :

لاني حزينة،
 روحي ذابلة،
 وشوقي اليك، كشوق هذه الزهرة للماء،
وإن كنت تحبّني إسقي الزهور الذابلة،
وأحفظها،
 وإن ماتت لا ترمها، بل إدفنها داخل كتبك ...

وبقي يرسل لها في ذلك الربيع والصيف، أزهارا ً من كراون دايسي
وهي تُعيد اليه، الذابلة منها ...

وبقي يضعها داخل كتبه ..

وبقيت هي تصنعها، اكاليلا ً وعقودا ً
وأساور ...


الى ان أيقظه والده يوما ً، على خبر هز ّٓ كيانه، ونال منه مقتلا ً، وأجهض أحلامه، وأطبق على حياته !!!

توفَيت  والدتها، إثر نوبة قلبية حادة
وخرجت الصُحف  في ذلك الصباح باللون الأسود، وتوقفت الإذاعة الرسمية عن بث ّ برامجها كالمعتاد .... حدادا ً على هذه السيدة الفاضلة. 

لم يهدأ ذلك الصباح.
إستاءت صحته، وبدا كالمجنون، كيف الوصول اليها، 
حاول مرارا ً وتكرارا ً الاتصال بها عبر الهاتف. 

كانت خطوط العاصمة مقطوعة، ذلك الصباح، للدلالة على حظّه السئ. 

ما لبث ان سمع طرقا ً على الباب، 

يوم ٌ رهيب، بدأ منذ الصباح، بقسوته، وشراسته، وظلمه ....

كيف لا يكون بجانب كريستل في اصعب يوم ٍ من حياتها. 

كان بجانب الباب،  ( العم فؤاد ) سائق كريستل، إعتاد ان يراه بالبدلة الرسمية، والقبعة، ولكنه اليوم كان حزينا ً والشعر الأبيض الذي ملأ رأسه زاده كِبرا ً وهما ً ...

قال له، العم فؤاد :

أرسلتني الست الصغيرة، لأُخبرك عن وفاة والدتها، وهي تطلب اليك ان لا تحضر يوم العزاء، لانها تخاف ان يحصل لك مكروه، ويكفي وفاة والدتها
ولا تريد ان تخسرك انت الاخر في هذه الحرب القذرة. 

وأضاف ان يوم الدفن تقّرر يوم غد في مسقط رأسها. 

وتقول لك، ستتكلم معك، وإلا سترسلني اليك. 

وهذه رسالة منها ....

فض ّٓ رسالتها، 

وقالت فيها :

خسرت أُمي، وعضُدي، وسندي ..

لم يبق لي إلا حِلْم واحد ..

هو انت ...

حافظ، عليه، وإهتم بنفسك، لا أريدك إلا ان تبقى مثلي الأعلى، وحبي الذي لا ينضب. 


مضى هذا اليوم والذي تلاه، وتلاه
وتلاه،  كالنار التي تنهش الهشيم.  


مضى الى قريته، في اليوم الذي حُدَد موعدا ً للدفن.

قضى أيامه يجمّع، ويقطُف، زهور كراون دايسي، فيأخذ الذابلة منها، ويسقيها، حتى إمتلأت صفحات كتبه بالزهور.

وبقي على هذا المنوال الى ان وصل فجأة الى قريته العم فؤاد، حاملا معه زهور كراون دايسي الذابلة، والتي كانت إستلمتّها قبل وفاة والدتها. 

فهم من الزهور الذابلة، ان أيامها من الان وصاعدا ً كلها ذابلة. 

حاول ان يعطي العم فؤاد باقة من الزهور النضّرة،  والتي قطفها صباح ذلك اليوم كعادته،

الا ان العم فؤاد قال له :

قالت الست الصغيرة، 

اذا لم يقدّم لك، الزهور كعادته،
إياك ان تطلب منه ...

الحمدلله، ان باقة الزهور هي حاضرة جاهزة،  مثل كل يوم. 

اليوم  ستفرح، الست الصغيرة  لهذه الزهور !!

سأُخبرها، انك ما زلت تقطف هذه الزهرة كل يوم. 

قاطعه، قُل ْ لها ايضا ً :

سأبقى الى نهاية العمر، اقطف، وأقطف، وأقطف زهرة كراون دايسي. 

وبسبب الحرب الأهلية الطاحنة، قررت إدارة الجامعة، إعطاء إفادات لطلبة السنوات الاخيرة، بإجتيازهم السنوات المُقررة. 

وقد إستنّدت الجامعة في قرارها، الى ان طلاّب السنوات الاخيرة، منهم من قُبل في جامعات، أجنبية،  ومنهم من حاز على وظيفة.

من جملة الطلاب الذين إستفادوا من قرار الجامعة، كريستل، وحبيبها. 


لم يفرح هو، ولم تفرح كريستل، لان هذا وٓضٓعٓ حدا ً الى كل اللقاءات لو سارت الجامعة من دون هذا القرار. 


لمّا عاد الى بيروت، 
كان الأهل، قد ساءهم التدهّور النفسي  والصحي الذي بدا على وجهه.

الى أن أبلغته شقيقته الكبرى المتواجدة في اميركا، انه يتوّجب عليه السفر الى قبرص لاستلام سمة دخول الى الولايات المتحدة الاميركية. 


تلكأ في الذهاب الى قبرص ...
وتمهّل في القبول ...

الى ان إتصلت به كريستل، بعد طول غياب، عشية يوم من ايام الخريف. 

 


كان في قمة الضياع، والتردّد. 
الأهل يحثّوه الى السفر، فالظروف في لبنان ليست مؤاتية على جميع الصُعُد،،،،

حرب، وفوضى وإنهيار إقتصادي وشيك ...

ولغير عادته، رن ّ جهاز التلفون، وكانت المفاجئة الكبرى، كريستل تناديه، وبذات العادة المُحبّبة، الى قلبه،  لم تتوقّف إسئلتها، وإستفساراتها، حتى قال لها :

من أين ابدأ ؟؟
أجابت كيفا شئت المهم ان اسمع صوتك ....

أخبرها عن سمة الدخول الى اميركا
وسألته :

ماذا ستفعل ؟

ما زلت أتريّث، وأتلكأ. 
قالت، ولماذا ؟

أجابها، حتى أسمع منك شيئا ً ...
قالت، هذا يعني انك لم تتخّذ قرارك ..
أجاب ب نعم.
يعني، هل ما زلت  تنتظرني ؟؟

قال لها بالطبع،

 انت ظلّي، وخيالي والعمر من دونك،  

هو سراب، ارجو ان لا نقع فيه.

قالت له تريد ان تسمع أخباري ؟

أجابها، بالطبع ..أُريد 


قالت له :

بعد إنتهاء  مراسم الدفن، والعزاء لوالدتي، والذي إستمّر أسابيع طويلة،
فاجئني والدي بان دخل غرفتي، وقال لي :

هل ما زِلّت على الوعد ؟؟

قلت له، اي وعد تقصد ؟

قال،  الوعد الذي  قطعتيه  وبموجبه قبلت ان تنتقلي الى الجامعة التي تخّرجت منها، شرط ان تُكملي شهادة الدكتوراه في فرنسا. 

قلت له، الظروف تبدّلت، والاحكام تغّيرت، وإني بالوقت الحاضر أُفتش عن وظيفة هنا في لبنان. 

أجابها والحُنق بادي على وجهه :

وظيفة، هنا  !!!
وأجر ٌ لا يكفيك عدة ايام ...
أرفض رفضا ً قاطعا ً عِنادك وإصرارك على عدم السفر، هو بسبب زميلك  ...

فليكن معلوما ً لديك. 
لن تتوظفي، ولن تبقي في لبنان، وستُكملي دراستك العليا في باريس، وقد تفاهمت مع سفير فرنسا، عندما منحنا جميعا ً سمّة الدخول.

أجبته، ما دمت تفاهمت مع السفير، أكمل تفاهمك معه وإلتحق بالجامعة وإرجع،  لنا بالدكتوراه. 

زاد غضبه، وقلت له :

لن اسافر ..
لن أُكمل علمي ...
إفعل ما شئت ...

غضب، ومنذ أسبوع، تاريخ المواجهة، لم يُكلمّني، ولم ألتقي به. 


قال لها:

هل تُلاحظين ان الاقدار هي التي تتحّكم بمصيرنا ؟

وهل تُلاحظين اننا  نواجه  ذات المعضلة، ألا  وهي السفر طلبا ً للعلم. 

لماذا لا نفكر، ان باب العلم المفتوح لي في اميركا، هو ذاته  باب العلم الذي سيأخذك الى فرنسا ؟

أسئلة،
يا حبيبتي كريستل لا تحتمل الا جوابا ً واحدا ً وهو ان نقرر سويا ً الان،  وهذه الليلة  ... السفر !!!

لمعّت الفكرة في رأسها، 

وقالت له :

بوفاة والدتي، خسرت النصيحة. 
بوجودك انت، إستعدتّها. 

الى فرنسا .. سأذهب .. 
والى اميركا .. ستذهب .. 


هذه المكالمة، في خريف ذلك اليوم، كانت الاخيرة في حياة كريستل وحبيبها. 

قال لها كلمتين :

الى اللقاء،
  يا كريستل،
يا حبيبة العمر. 

وأجابت :

سنلتقي،

 فأنا مثلك مُقتنعة بمبدأ ..

وٓصْلِ ما إنقطّٓع ...
ولن ينقطع ...

ولتكن أخر كلمة أقولها لك ..
... و .. أُحِبُك ٓ ...

في خريف تلك السنة، كان مطار دمشق الدولي يعّج بالركاب، المغادرين معظمهم من اللبنانيين، ومنهم حبيب كريستل. 

كانت الرحلة الى دمشق، من أقسى الرحلات، وأطولها، وأتعبها، كانت أجواء دمشق تختلف كلية عن أجواء بيروت التي كان يعيش فيها، . 

كان الاقتصاد السوري، وغلاء الأسعار بسبب تدّفق اللبنانيين، يُثير قلق التجار، لانه، بنظرهم ان الارتفاع الجنوني لسعر العملة الوطنية،  لم يكن مُستندا ًالى مؤشرات إقتصادية، وكان الخوف إن توقّفت الحرب في لبنان، يتقهقر الاقتصاد السوري، وتتراجع العملة الوطنية. 


وصل الى مطار دمشق الدولي قبل عشر ساعات من موعد إقلاع الطائرة لخوف إنتابه من ان تسبقه الطائرة، فضلا ً عن انه حلِم. ومنّى نفسه انه قد يلتقي ب كريستل. 

لم يترك ردهة، او زاوية او مكانا ً داخل المطار إلا زرعه ذهابا ً وإيابا ً علّه يراها. 

سافر على الطائر الميمون، ولا يعرف شيئا ًعن مكان كريستل في فرنسا. 

وإنقطعت أماله، وبقيت ذكرياته، وبعض ازهار كراون دايسي الذابلة. 


أمّا كريستل، بعد ان أقفلت المكالمة مع حبيبها، فاجئت والدها في مكتبه الخاص، ألقت التحية عليه، ولكنه لم يُعرّها اي إهتمام او لفتة. 

قالت له بعنفوان ما بعده إعتزاز. 

أبلغك، إني وافقت على السفر الى فرنسا، وسأُكمل دراساتي العليا، بناء للوعد الذي قطعته لك، بوجود أُمي. 

نهض من كرسي مكتبه، وعانق كريستل، وقال لها :

انت ابنتي الوحيدة، وكل أمالي تنحصر فيك، وبعد وفاة والدتك ضاقت بي الدنيا، وزادت في ضيقها لما تشاجرت معك بخصوص  السفر الى فرنسا. 

سيكون لك شقة خاصة، قريبة من اهم شارع بالعالم
 الشانزيليزبه  وسيارة موديل هذا العام، ومصروف شهري لا تحلم به فتاة في عمرك.  

ولما تعودي، الى لبنان.  ستكون شركاتي، واموالي كلها تحت تصرّفك، لانك ستحملين الشعلة قبل، وبعد وفاتي.  

وقال لها، وهي تتعجّب،،،

 لو تعلمين كم من الصعوبة واجهت حتى إستحصلت لك، قبولا ً من جامعتين في باريس. 

قالت له،
 ولماذا ؟

أجابها ان الجامعة التي تخرّخت منها لا تربطها مع اي جامعة في فرنسا معاهدة ثقافية، مثل الجامعة الاولى التي انفصلت عنها، ولكن الامر الذي نفع هو علاماتك في السنة الاخيرة، حيث كان ترتيبك الثاني.  

قالت له :

هل تعلم من كان الاول في دورتنا 

قال لها. لا اعلم ...
من هو ؟

إنه هو الذي كان يُرسل لي المحاضرات عندما كنت بالمستشفى 

قامت كريستل، وعانقت والدها، وسالت :

اي متى السفر ؟؟

أجابها والدها :

القرار لك ..

قالت له ؛

فليكن يوم  ٢٥  من هذا الشهر. 

وبقيت كريستل تعتبر يوم ٢٥  من كل شهر، هو يوم  مهم  في حياتها، لانه اليوم الذي قال لها حبيبها :

أُحبُك. وبادلته ذات الكلمة. 

انْتَهَى الجزء الاول من قصة كراون دايسي، وكريستل. 
الاول من أيلول ٢٠١٥
اورلاندو / فلوريدا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق