جلجاميش، الصراع الابدي ما بين الخير والشر.
ملحمة سومرية، كُتبت في القرن ٢٦ قبل الميلاد.
اولا : المقدمة.
تُعتبر ملحمة جلجاميش اقدم قصة ادبية كتبها الانسان في التاريخ، وهي مكتوبة على ١٢ لوحا ً طينيا ً أُكتشفت بالعام ١٨٥٣ م في موقع اثري بالقرب من نينوى العراق ( اليوم ) مكتوبة باللغة الأكادية.
من سياق قراءة هذا البحث، عن جزء بسيط من الحضاره البابلية، يمكن للقارئ الكريم استنباط أوجه الشبه ما بين مجريات هذه الملحمة، ومكنونات القيّم الانسانية التي أتّت على ذكرها الأديان السماوية، وبالأخص الديانه اليهودية، وذلك بسبب
سبّي هذا الشعب الى بابل على يد القائد نبوخذ نصَّر.
كذلك، يمكن ملاحظة الصراع الذي تتناوله هذه الملحمة في الحياة البشرية، وذلك بقالب أسطوري تُؤخذ منه العبّر والدروس.
ثانيا ً : جلجاميش :
منذ ان كُتبت هذه القصة، ما زال النقاش يدور حول ما اذا كانت حقيقية، ام انها ضرب من ضروب الخيال الأسطوري.
الاعتقاد السائد، الان ان جلجاميش كان موجودا ً، ولكن الصياغة والسبك القصصي، قام على مبادئ الاسطوره.
إذن، جلجاميش هو ملك أورك - الوركاء كانت، والدته إله خالدة واسمها ( نينسون ) وكان والده بشرا ً عاديا ً واسمه ( لوكالباندا )، لذلك هو، ثلثيه اله والثلث الباقي بشر.
وبما، ان له الجزء الثلث بشرا ً فانيا ً فانه يدرك حقيقة تربكه انه غير خالد، ويبدأ بالتصرف بصورة سيئة كالبشر، كتسخير الناس في بناء سُوَر ضخم حول أورك، الذي دمّره فيما بعد الملك سرجون الاكدي.
تدور القصة، ان الطبيعة البشرية المتمثّلة في جلجاميش فيها الظلم والحقارة وانعدام الأخلاق وذلك، لمقارنتها مع الصورة الاخرى المتمثّلة بالروح الإلهية الخالية من الاحقاد والسموم باعتبار، ان صفاء وسمو الأخلاق الموجود في الآلهة غير موجود في الطبيعة البشرية.
والقصد من سياق القصة / الأسطورة تبيان طبيعة البشر المجبولة كراهية وانتقاما وسلوكاً ينطوي على مبادئ الشر
وقد حاولت الأسطورة هذه ومن بعدها الأديان السماوية التركيز على الخير ونبذ الشر، وهذه صورة من حياة الانسان اليومية وهي خلاف ارتقاء وسلوك الآلهة، الى صفاء ونقاء الروح.
ثالثا ً : جلجاميش ملك ظالم.
كان جلجاميش ملكا ً غير محبوب حيث تنسب اليه ممارسات سيئة منها تسخير الناس في بناء سُوَر ضخم حول أورك العظيمة.
طلب السكان من الآلهة التخّلص من ظلم جلجاميش فاستجابت الآلهة (أرورو ) بخلق رجل كان الشعر الكثيف يغطي جسده، وكان على نقيض جلجاميش وأطلقت عليه اسم (أنكيدو ) يعيش في البرية ويأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات. وقد اعتبر بعض المحللين ان
الرمز ( الصراع بين المدنية وحياة البساطة والزراعة بدا يواجه المجتمع السومري وهو يكون بالتعّود التدريجي والانتقال من حياة الى حياة اخرى )
كان، ( انكيدو ) وهو بشري غير خالد بخلاف الآلهة ولكنه كان ذات طبيعة رحومه شفوقة لانه كان يخّلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد، الامر الذي من اجله قام الصيادون برفع شكوى الى الملك جلجاميش.
رابعا : علاقة جلجاميش ب أنكيدو :
أمر جلجاميش احدى خادمات المعبد بالذهاب لمحاولة اغراء انكيدو بان تُمارس معه الجنس حتى تبتعد الحيوانات عن مصاحبة انكيدو ونجحت خطة جلجاميش. وكان اسم خادمة المعبد ( شمخات ) وهي تعمل خادمه في معبد الآلهة عشتار ( لاحظ المكائد التي يقوم بها الانسان اليوم شبيهة لأحداث هذه الملحمة )
وبدات خادمة المعبد، تعليمه حياة المدنية وتحرضه على جلجاميش في انه يدخل بالعروسات قبل ان يدخل بهّن أزواجهن ( عادة بقيت في أوروبا ومعظم العالم القديم )
تحدّى انكيدو جلجاميش على ترك هذه العاده ولكنه لم ينجح اذ كانت الغلبة ل جلجاميش. وبعد هذه الحادثة يصبح الاثنان صديقان حميمان.
خامسا ً : الصراع في غابة الأرز
كان هدف جلجاميش القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا، فيقرر في يوم من الأيام الذهاب الى غابة الأرز في لبنان وقطع كل أشجارها.
تبدأ رحلة جلجاميش وصديقة انكيدو نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة ( شمش ) إله الشمس الذي كان ايضا ً اله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الاله الذي نشاهده في مسّلة حمورابي وهو يناول الشرائع الى الملك حمورابي.
قضى جلجاميش في هذه الرحلة على حارس الغابة وهو مخلوق ضخم قبيح اسمه ( خومبابا ) وكانت ترافق هذه الرحلة جلجاميش سلسلة من الأحلام والكوابيس وكان رفيقه انكيدو يطمأنه على ان احلامه تحمل معاني النصر والغلبة ، وبذات الوقت تخوف انكيدو من قتل حارس الغابة ( خومبايا) لانه اثناء القتال كان يتوسل من جلجاميش وأنكيدو كي لا يقتلاه، ولكنهما اجّهزا عليه.
اثار قتل حارس الغابة غضب آلهة الماء انليل التي اناطت مسؤولية حراسة الغابه ب خومبايا.
بعد موت حارس الغابة بدأ اسم جلجاميش بالانتشار
وذاع صيته الافاق، وبدأت الآلهة عشتار التقّرب من جلجاميش وعرضت عليه الزواج ولكنه رفض العرض.
غضبت عشتار غضبا شديدا وطلبت من والدها ( آنو ) اله السماء ان ينتقم لكبريائها.
قام ( أنو ) بإرسال ثور مقّدس من السماء ليقتل جلجاميش ولكن بوجود صديقه ( انكيدو ) الذي يتمكن من أمساك الثور بقرنه حتى يقتله جلجاميش.
بعد مقتل الثور تجتمع الآلهة للنظر في كيفية معاقبة جلجاميش وأنكيدو، وتقرر الآلهة قتل انكيدو لانه بشري
اما جلجاميش، يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته
فيموت الصديق الحميم بعد فتره. ( يلاحظ كيفية فرض العقاب واختلافه بالنسبة لذات الجرم، وهذا ما نشهده اليوم في بعض محاكمنا )
سادسا : رحلة جلجاميش في بحثه عن الخلود
بعد موت الصديق انكيدو يصاب جلجاميش بحزن شديد
لا يريد ان يصدق حقيقة موته، ويرفض ان يقوم احد بدفنه لمدة أسبوع، ثم يدفنه بنفسه، وينطلق شاردا في البرية وتخلى عن ثيابه الفاخرة.
سابعا ً : رحلة جلجاميش في بحثه عن الخلود
بعد موت الصديق خاف جلجاميش من ان الموت لا بد ان ياتيه لانه بشر والبشر فانٍ ولا خلود الا للآلهة.
بدا جلجاميش رحلة البحث عن الخلود والحياة الابدية، وكان يعلم ان سر الخلود، وجده إنسان وحيد اسمه،
( اوتنابشتم ) والذي يعتبره البعض انه، نوح بالاديان السماوية، اليهودية، والمسيحية، والإسلام.
وأثناء رحلة البحث عن الخلود يلتقي جلجاميش بإحدى الآلهات واسمها ( سيدوري ) وهي آلهة النبيذ حيث نصحته بان يستمتع بما تبقى له من حياة بدّل ان يقضيها في البحث عن الخلود وان عليه ان يشبع بطنه باحسن الماكولات ويلبس افخر الثياب ويحاول ان يكون سعيدا.
لكن جلجاميش أصّر على رحلة البحث عن الخلود لمعرفة السر. وبالفعل قامت الآلهة بمساعدته ودلّته على الطريق، الذي يؤمن له عبور بحر الأموات ليصل الى أوتنابشتم، الانسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد جلجاميش اوتنابشتم، يبدأ هذا الأخير بسرد قصة الطوفان ( شبيهة بطوفان نوح ) الذي نجا هو وزوجته منه، وقررت الآلهة منحهم الخلود. وقد تعجّب اوتنابشتم من اصرار جلجاميش في سعيه نحو الخلود.
عرض عليه هذا الرجل فرصة ليصبح خالدا، وهي ان يبقى متيقظا دون نوم لمدة ٦ ايام و٧ ليالي فانه سيصل بعد ذلك للحياة الابدية.
لكن جلجاميش يفشل في الاختبار.
وبقي يلّح جلجاميش على اوتنابشتم وزوجته على إيجاد طريقة اخرى كي يحصل على الخلود.
شفقت الزوجه عليه فدّلته على عشب سحري في اعماق البحار يمكنه اذا وجده ان يرجع اليه شبابه.
عاشرا ً : حصول جلجاميش على العشب السحري.
رجع جلجاميش الى مملكته أورك ومعه العشب السحري ليجّربه على رجل طاعن في السن قبل ان يقوم هو بتناوله، وكان يرغب في ان يقدم هذا العشب لسكان أورك حتى يتسّنى لهم الخلود ايضا.
في طريق عودته، وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب احدى الأفاعي وتناولته.
حادي عشر : عودة جلجاميش الى أورك
عاد جلجاميش الى أورك خالي اليدين، وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه ان عملا ضخما ً كهذا السور هو أفضل طريقة ليخّلد اسمه، (وان الخلود بالاعمال لا بالإعمار.)
وعندما مات جلجاميش، حزنت أورك عليه.
الخاتمة :
كان القصد من وراء هذه الملحمة التاكيد على حتمية الموت بالنسبة للبشر، وان قدّر الموت هو من نصيب البشر، وقد عالجت القصة مسالة الموت على لسان بطل الملحمة جلجاميش الذي كان كامل الجمال والقوة، والرهبة.
وإذا اعتبرت، وانت في القرن الواحد والعشرين الميلادي، اي بعد الآلاف السنين من كتابة هذه الملحمة، ان يخطر الى بالك انه في جمهوريات الموز في أميركا الجنوبية، وفي بعض بلدان الشرق الأوسط العربي والشرق الادنى الآسيوي، ان هناك رؤساء لبلدان من بني البشر ما زالوا يطلقون على أنفسهم ( زعيمنا الى الأبد، وان مات وانه حتما ً سيموت تنطلق كلمه اخرى لذريته تدّعي انه زعيمنا الى ما بعد الابد ... )
هذا يدّل ان جلجاميش ذي الطبيعة البشرية، ما زال حيّا فينا، وهي تنضح بالشر، وان جلجاميش ذي الطبيعة الإلهية
التي ترشح خيرا ً ما زالت قليلة في النفوس الضعيفة.
أعداد
فيصل المصري
اورلاندو / فلوريدا
تشرين الثاني ٢٠١٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق